ما جاء في صفة خاتم النبوة
للعلماء خلاف في ذلك، فقد جاء في فتح الباري لابن حجر:... ومقتضى هذه الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودا حين ولادته ففيه تعقيب على من زعم أنه ولد به، وهو قول نقله أبو الفتح اليعمري بلفظ: قيل ولد به، وقيل حين وضع، نقله مغلطاي عن يحيى بن عائذ، والذي تقدم أثبت، ووقع مثله في حديث أبي ذر عند أحمد والبيهقي في الدلائل وفيه: وجعل خاتم النبوة بين كتفي كما هو الآن ـ وفي حديث شداد بن أوس في المغازي لابن عائد في قصة شق صدره وهو في بلاد بني سعد بن بكر: وأقبل وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه ـ الحديث، وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده، والعلم عند الله.
واختار الزرقاني أن وضع الخاتم تكرر، فقال في شرح المواهب اللدنية: واختلف في جواب قول السائل: هل ولد وهو به أو وضع بعد ولادته على قولين؟ فقيل: ولد به، نقله ابن سيد الناس، ورده في الفتح بأن مقتضى الأحاديث السابقة أن الخاتم لم يكن موجودًا حين ولادته، قال: ففيها تعقب على من زعم أنه ولد به، واختلف القائلون بالثاني، فقيل: حين ولد، نقله مغلطاي عن يحيى بن عائذ، وورد به حديث ابن عباس عند أبي نعيم وغيره وفيه نكارة، قيل: عند شق صدره وهو في بني سعد، وورد في حديث عتبة بن عبد عند أحمد والطبراني، وقطع به عياض.
قال الحافظ: وهو الأثبت، وفي حديث عائشة المار قريبًا أنه عند المبعث، وعند أبي يعلى وابن جرير الحاكم في حديث المعراج من حديث أبي هريرة: ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة، وطريق الجمع أن الختم تكرر ثلاث مرات في بني سعد، ثم عند المبعث، ثم ليلة الإسراء، كما دلت عليه الأحاديث، ولا بأس بهذا الجمع، فإن فيه إعمال الأحاديث كلها، إذ لا داعي لرد بعضها وإعمال بعضها، لصحة كل منها، وإليه أشار الشامي ـ كما مر ـ وأما رواية بعد الولادة فضعيفة، وأما أنه ولد به فضعيف أيضًا يطلب زاعمه، بدليله. انتهى.
وأما بخصوص قصة اليهودي، فقد قال السيوطي في الخصائص: أخرج ابْن سعد وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو نعيم عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ يَهُودِيّ قد سكن مَكَّة يتجر بهَا فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي ولد فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مجْلِس من قُرَيْش يَا معشر قُرَيْش هَل ولد فِيكُم اللَّيْلَة مَوْلُود؟ فَقَالَ الْقَوْم وَالله مَا نعلمهُ، قَالَ احْفَظُوا مَا أقول لكم: ولد هَذِه اللَّيْلَة نَبِي هَذِه الْأمة الْأَخِيرَة بَين كَتفيهِ عَلامَة فِيهَا شَعرَات متواترات كَأَنَّهُمْ عرف فرس لَا يرضع لَيْلَتَيْنِ وَذَلِكَ أن عفريتا من الْجِنّ أَدخل إصبعه فِي فَمه فَمَنعه الرَّضَاع فتصدع الْقَوْم من مجلسهم وهم يتعجبون من قَوْله، فَلَمَّا صَارُوا إِلَى مَنَازِلهمْ أخبر كل إنسان مِنْهُم أَهله، فَقَالُوا: قد ولد لعبد الله بن عبد الْمطلب غُلَام سموهُ مُحَمَّدًا، فَالتقى الْقَوْم حَتَّى جَاءُوا الْيَهُودِيّ فأخبروه الْخَبَر، قَالَ فاذهبوا معي حَتَّى أنْظُر إليه، فَخَرجُوا بِهِ حَتَّى أدخلوه على آمِنَة، فَقَالَ: اخْرُجِي إِلَيْنَا ابْنك، فأخرجته وكشفوا لَهُ عَن ظَهره فَرَأى تِلْكَ الشامة، فَوَقع الْيَهُودِيّ مغشيا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق قَالُوا: وَيلك مَا لَك! قَالَ: وَالله ذهبت النُّبُوَّة من بني إسرائيل أفرحتم بِهِ يَا معشر قُرَيْش؟ أما وَالله ليسطون بكم سطوة يخرج خَبَرهَا من الْمشرق إِلَى الْمغرب. انتهى.
وهذه القصة حسنها الحافظ ابن حجر في الفتح، وعزاها إلى يعقوب بن سفيان، وقال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف بعد إيرادها: وهذا الحديث يدل على أنه ولد بخاتم النبوة بين كتفيه.
وخاتم النبوة: من علامات نبوته التي كان يعرفه بها أهل الكتاب ويسألون عنها ويطلبون الوقوف عليها، وقد روي: أن هرقل بعث إلى النبي بتبوك من ينظر له خاتم النبوة ثم يخبره عنه، وقد روي من حديث أبي ذر وعتبة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الملكين اللذين شقا صدره وملآه حكمة هما اللذان ختماه بخاتم النبوة ـ وهذا يخالف حديث عائشة هذا، وقد روي أن هذا الخاتم رفع بعد موته من بين كتفيه، ولكن إسناد هذا الخبر ضعيف.
رواه الإمام أحمد ويعقوب بن سفيان.
فصل اختلف في صفة خاتم النبوة على أقوال كثيرة متقاربة المعنى.
أحدها: أنه مثل زر الحجلة.
روى الشيخان عن السائب بن يزيد رضي اللَّه تعالى عنه قال: قمت خلف ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وسلم فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة .
الثاني: أنه كالجمع:
روى مسلم عن عبد اللَّه بن سرجس - بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة- رضي اللَّه تعالى عنه قال: نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل .
الثالث: أنه كبيضة الحمامة.
روى مسلم والبيهقي عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى اللَّه عليه وسلم مثل بيضة الحمامة يشبه جسده .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن سلمان رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت الخاتم بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مثل بيضة الحمامة.
الرابع: أنه شعر مجتمع.
روى الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وأبو يعلى والطبراني من طريق علباء
بكسر المهملة وسكون اللام بعدها موحدة- ابن أحمر- بحاء مهملة وآخره راء- عن أبي يزيد عمرو بن أخطب، بالخاء المعجمة، الأنصاري رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اذن فامسح ظهري. فدنوت ومسحت ظهره ووضعت أصابعي على الخاتم. فقيل له: ما الخاتم؟ قال: شعر مجتمع عند كتفه .
ورواه أبو سعد النيسابوري بلفظ شعرات سود.
الخامس: أنه كالسلعة.
روى الإمام أحمد وابن سعد والبيهقي من طرق عن أبي رمثة- بكسر الراء وسكون الميم فثاء مثلثة- رضي اللَّه تعالى عنه قال: انطلقت مع أبي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فنظرت إلى مثل السلعة بين كتفيه .
السادس: أنه بضعة ناشزة.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه قال: الخاتم الذي بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بضعة ناشزة.
وفي لفظ عند البخاري في التاريخ والبيهقي: لحمة نائتة ولأحمد: لحم ناشز بين كتفيه .
السابع: أنه مثل البندقة.
روى ابن حبان في صحيحه من طريق إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند: حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما قال: كان خاتم النبوة على ظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم مثل البندقة من لحم مكتوب فيها: محمد رسول اللَّه.
قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في «مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» بعد أن أورد الحديث: اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به الكتب. انتهى.
ومن خطه نقلت وبخط تلميذه الحافظ على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند. وهو ضعيف.
وذكر الحافظ ابن كثير نحو ما قال الهيثمي. ولهذا مزيد بيان يأتي في ثامن التنبيهات.
الثامن: أنه مثل التفاحة.
روى الترمذي عن أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه صلى اللَّه عليه وسلم مثل التفاحة.
التاسع: أنه كأثر المحجم.
روى الإمام أحمد والبيهقي عن التنوخي رسول اللَّه هرقل رضي اللَّه تعالى عنه في حديثه الطويل قال: فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة.
العاشر: أنه كشامة سوداء تضرب إلى الصفرة.
روي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كان خاتم النبوة كشامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس رواه أبو بكر بن أبي خيثمة من طريق صبح بن عبد اللَّه الفرغاني حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد . وسيأتي في ثامن التنبيهات أنه غير ثابت أيضاً.
الحادي عشر: أنه كشامة خضراء محتضرة في اللحم، قليلا.
نقله ابن أبي خيثمة في تاريخه عن بعضهم. وسيأتي في ثامن التنبيهات أنه غير ثابت أيضاً.
الثاني عشر: أنه كركبة عنز:
روى الطبراني وأبو نعيم في المعرفة عن عباد بن عمر رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان خاتم النبوة على طرف كتف النبي صلى اللَّه عليه وسلم الأيسر كأنه ركبة عنز، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكره أن يرى الخاتم.
سنده ضعيف.
الثالث عشر: أنه كبيضة حمامة مكتوب في باطنها: اللَّه وحده لا شريك له. وفي ظاهره: توجه حيث شئت فإنك منصور.
رواه الحكيم الترمذي وأبو نعيم، قال في المورد: وهو حديث باطل. ولهذا مزيد بيان في ثامن التنبيهات.
الرابع عشر: أنه كنور يتلألأ.
رواه ابن عائذ- بعين مهملة ومثناة تحتية وذال معجمة.
الخامس عشر: أنه ثلاث شعرات مجتمعات.
ذكره أبو عبد اللَّه محمد القضاعي- بضم القاف وبضاد معجمة وعين مهملة- رحمه اللَّه تعالى في تاريخه.
السادس عشر: أنه عذرة كعذرة الحمامة. قال أبو أيوب: يعني قرطمة الحمامة.
رواه ابن أبي عاصم في سيرته.
السابع عشر: أنه كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة.
روي ذلك عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها.
الثامن عشر: أنه كشيء يختم به.
روى ابن أبي شيبة عن عمرو بن أخطب أبي زيد الأنصاري رضي اللَّه تعالى عنه قال:
رأيت الخاتم على ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال هكذا بظفره. كأنه يختم.
التاسع عشر: أنه كان بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم كدارة القمر مكتوب فيها سطران: السطر الأول: لا إله إلا اللَّه. وفي السطر الأسفل: محمد رسول اللَّه. رواه أبو الدحداح أحمد بن إسماعيل الدمشقي رحمه اللَّه تعالى في الجزء الأول من سيرته. قال في «المورد» و «الغرر» وهو باطل بين البطلان.
العشرون: أنه كبيضة نعامة. روى ابن حبان في صحيحه عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت خاتم النبوة بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم كبيضة النعامة يشبه جسده .
قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في «مورد الظمآن» روى هذا في حديث الصحيح في صفته صلى اللَّه عليه وسلم ولفظه: مثل بيضة الحمامة وهو الصواب .
قال الحافظ: تبين من رواية مسلم «كركبة عنز» أن رواية ابن حبان غلط من بعض الرواة.
قلت: ورأيت في «إتحاف المهرة» للحافظ شهاب الدين البوصيري رحمه اللَّه تعالى بخطه: «كركبة البعير» وبيض لاسم الصحابي وعزاه لمسند أبي يعلى وهو وهم من بعض رواته كأنه تصحف عليه كركبة عنز بركبة بعير.
ثم رأيت ابن عساكر روى الحديث في تاريخه من طريق أبي يعلى وسمى الصحابي عباد بن عمرو.
وقال الحافظ في الإصابة في سنده من لا يعرف. قلت: وقد تقدم عنه في الثاني عشر أنه كركبة عنز. ولم أظفر به في مجمع الزوائد للهيثمي.
الحادي والعشرون: أنه غدة حمراء.
روى أبو الحسن بن الضحاك عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان خاتم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غدة حمراء مثل بيضة الحمامة.
تنبيهات
الأول: اختلف في موضع الخاتم من جسده صلى اللَّه عليه وسلم: ففي صحيح مسلم: أنه عند نغض كتفه الأيسر. وفي رواية شاذة عن سلمان أنه عند غضروف كتفه اليمنى عزى هذه الرواية الشيخ في الخصائص الكبرى والسخاوي في جمع طرق قصة سلمان من رواية أبي قرة الكندي عنه لدلائل البيهقي ولم أر ذلك في نسختين منها، لا في الكلام على خاتم النبوة ولا في قصة سلمان، فكأنه في موضع آخر غيرهما.
الثاني: قال العلماء: هذه الروايات متقاربة في المعنى وليس ذلك باختلاف بل كل راو شبه بما نسخ له، فواحد قال كزر الحجلة وهو بيض الطائر المعروف أو زرار البشخاناه. وآخر كبيضة الحمامة. وآخر كالتفاحة وآخر بضعة لحم ناشزة. وآخر لحمة ناتئة. وآخر كالمحجمة.
وآخر كركبة العنز. وكلها ألفاظ مؤداها واحد وهو قطعة لحم.
ومن قال: شعر. فلأن الشعر حوله متراكب عليه كما في الرواية الأخرى.
قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» : دلت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئاً بارزا أحمر عند كتفه صلى اللَّه عليه وسلم الأيسر إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر قدر جمع اليد.
وذكر نحوه القاضي وزاد: وأما رواية جمع اليد فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناها: على هيئة جمع الكف لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة.
الثالث: قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: والحكمة في كون الخاتم عند نغض كتفه الأيسر أنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس لابن آدم.
قلت: روى أبو عمر بسند قوي عن عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن أدم فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه، وأري
الشيطان في صورة ضفدع عند كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه فإذا ذكر اللَّه تعالى العبد خنس.
قال السهيلي: والحكمة في وضع خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه صلى اللَّه عليه وسلم لما ملئ قلبه إيمانا ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، فجمع اللَّه تعالى أجزاء النبوة لسيدنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتممه وختم عليه بختمه فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم، لأن الشيء المختوم محروس، وكذلك تدبير اللَّه تعالى لنا في هذه الدار إذا وجد أحدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميّين، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما يطمئن له القلب وألقى فيه النور ونفذت قوة القلب فظهر بين كتفيه كالبيضة.
الرابع: قال الحافظ: مقتضى الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودا عند ولادته صلى اللَّه عليه وسلم، وإنما وضع لما شق صدره عند حليمة وفيه تعقب على من زعم أنه صلى اللَّه عليه وسلم ولد به، وهو قول نقله أبو الفتح بلفظ: قيل ولد به وقيل حين وضع. ونقله مغلطاي عن ابن عائذ.
قال الحافظ: وما تقدم أثبت.
قلت: وصححه في «الغرر» وتقدمت الأحاديث التي فيها ذكر الختم في باب شق صدره الشريف صلى اللَّه عليه وسلّم فراجعها.
ومقتضاها والحديث السابق أول هذا الباب أن الختم تكرر ثلاث مرات: الأول وهو في بلاد بني سعد. والثانية: عند المبعث. والثالثة: ليلة الإسراء، ولم أقف في شيء من أحاديث شق صدره صلى اللَّه عليه وسلم وهو ابن عشر سنين على ذكر الخاتم. فاللَّه تعالى أعلم.
الخامس: سئل الحافظ برهان الدين الحلبي رحمه اللَّه تعالى: هل خاتم النبوة من خصائص النبي صلى اللَّه عليه وسلم؟ أو كلّ نبي مختوم بخاتم النبوة؟ فأجاب: لا أستحضر في ذلك شيئاً ولكن الذي يظهر أنه صلى اللَّه عليه وسلم خص بذلك لمعان منها: أنه إشارة إلى أنه خاتم النبيين وليس كذلك غيره. ولأن باب النبوة ختم به فلا يفتح بعده أبدا.
وروى الحاكم عن وهب بن منبه رحمه اللَّه تعالى قال: لم يبعث اللَّه نبيا إلا وقد كانت عليه شامة النبوة في يده اليمنى، إلا أن يكون نبينا صلى اللَّه عليه وسلم، فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم.
فعلى هذا يكون وضع الخاتم بظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم مما اختص به عن الأنبياء وجزم به الشيخ رحمه اللَّه تعالى في «أنموذج اللبيب» كما في النسخ الصحيحة خلافا لما وقع في غيرها مما يخالف ذلك.السادس: قال القاضي رحمه اللَّه تعالى: إن الختم هو أثر شق الملكين لما بين كتفيه.
وتعقبه النووي فقال: هذا باطل لأن الشق إنما كان في صدره صلى اللَّه عليه وسلم وبطنه، وقال القرطبي أثره- أي الشق- إنما كان خطا واضحا من صدره إلى مراق بطنه كما في الصحيح. ولم يثبت قط أنه بلغ الشق حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت لزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى بطنه أي أسفل بطنه لأنه الذي يحاذي الصدر من مسربته إلى مراقّ البطن. قال: فهذه غفلة من القاضي.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: كذا قال. وقد وقفت على مستند القاضي وهو حديث عتبة بن عبد السلمي وفيه أن الملكين لما شقا صدره صلى اللَّه عليه وسلم قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة. انتهى. فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه كان ذلك أثر الختم.
وفهم النووي وغيره أن قوله: «بين كتفيه» متعلق بالشق، وليس كذلك بل هو متعلق بالختم ويؤيده ما في حديث شداد بن أوس عند أبي يعلى وأبي نعيم في الدلائل أن الملك لما أخرج قلبه وغسله ثم أعاده ختم عليه بخاتم في يده من نور فامتلأ نورا وذلك نور النبوة.
فيحتمل أن يكون ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر لأن القلب في تلك الجهة.
وفي حديث عائشة عند أبي داود الطيالسي وابن أبي أسامة وأبي نعيم في الدلائل أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المبعث «هبط جبريل فسلقني لحلاوة القفا ثم شق قلبي فاستخرجه ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم ألقاني وختم في ظهري حتى وجدت برد الخاتم في قلبي قال: اقرأ» وذكر الحديث. هذا مستند القاضي رحمه اللَّه تعالى وليس بباطل.
قلت: وقد تقدم في التنبيه الثالث من كلام السهيلي ما يوضح ما ذكره القاضي فراجعه.
السابع: وقع في حديث شداد بن أوس في مغازي ابن عائذ في قصة شق صدره صلى اللَّه عليه وسلم وهو في بلاد بني سعد بن بكر «وأقبل وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه» وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده صلى اللَّه عليه وسلم والعلم عند اللَّه تعالى.
الثامن: قال الحافظ: ما قيل أن الخاتم كان كأثر المحجم أو كالشامة السوداء أو الخضراء مكتوب عليها: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه أو سر فإنك المنصور. ونحو ذلك فلم يثبت من ذلك شيء ولا يغير بما وقع في صحيح ابن حبان فإنه غفل حيث صحح ذلك.
وقال القطب في «المورد» والمحب ابن الشهاب بن الهائم في «الغرر» : إنه حديث باطل. ونقل أبو الخطاب بن دحية رحمه اللَّه تعالى عن الحكيم الترمذي أنه قال: كان الخاتم الذي بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: اللَّه وحده. وفي ظاهرها: توجه حيث شئت فإنك منصور. قال ابن دحية: وهذا غريب واستنكروه.
وتقدم لهذا مزيد بيان في فصل: اختلف في صفة خاتم النبوة فراجعه.
التاسع: قيل أن الخاتم النبوي الذي كان بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم رفع عند وفاته فكان بهذا عرف موته صلى اللَّه عليه وسلم. فروى أبو نعيم والبيهقي من طريق الواقدي عن شيوخه قالوا: شكوا في موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال بعضهم: قد مات. وقال بعضهم: لم يمت. فوضعت أسماء بنت عميس .
رضي اللَّه تعالى عنها يدها بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: قد مات، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. وكان بهذا عرف موته صلى اللَّه عليه وسلم.
ورواه ابن سعد عن الواقدي عن ام معاوية أنه لما مات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فذكره.
والواقدي متروك بل كذبه جماعة.
وذكر في «الزهر» أن الحاكم روى في تاريخه عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أنها لمست الخاتم حين توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوجدته قد رفع. انتهى.
ووقع لي نصف تاريخ الحاكم فطالعته فلم أر فيه ذلك وكأنه فيما لم يقع لي. فلينظر سنده، وما أخاله صحيحا. وعلى تقدير كونه صحيحا قال في «الاصطفاء» فإن قيل: النبوة والرسالة باقيتان بعد موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم حقيقة كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته لأن المتصف بالنبوة والرسالة والإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن كما صرح به النسفي فلم رفع ما هو علامة على ذلك؟
قلت: لأنه لما وضع لحكمة وهي تمام الحفظ والعصمة من الشيطان وقد تم الأمن منه بالموت فلم يبق لبقائه في جسده فائدة. وما ذكره النسفي من بقاء النبوة والرسالة بعد موت الأنبياء حقيقة هو مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه اللَّه تعالى وعامة أصحابه، لا لما قال النسفي بل لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم كما وردت به الأخبار وسيأتي تحقيق ذلك في باب حياته في قبره صلى اللَّه عليه وسلم.
العاشر: روى الحافظ إبراهيم الحربي في غريبه وابن عساكر في تاريخه، عن جابررضي اللَّه تعالى عنه قال: أردفني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خلفه فالتقمت خاتم النبوة بفيّ فكان ينم علي مسكا.
الحادي عشر: في بيان غريب ما سبق: زر الحجلة: اختلف في ضبط زر وفي الحجلة ومعنييهما. فقيل في «زر» إنه بتقديم الزاي على الراء المشددة والحجلة بفتح الحاء المهملة والجيم وعلى هذا فقيل المراد بالزر الذي يعقد به النساء عرى حجولهن كأزرار القميص والحجلة بيت من ثياب كالقبة يجعل بابه من جنبه يجعل فيه الزر والعروة. وقيل المراد بالزر البيض والحجلة الطائر المعروف. قال الترمذي رحمه اللَّه تعالى: ويساعده في ذلك رواية كبيضة حمامة. قال النووي: والصحيح المشهور هو الأول. وقيل المراد بالحجلة من حجل الفرس. نقله البخاري في الصحيح عن محمد بن عبيد اللَّه بن محمد بن أبي زيد .
قال في المطالع وقيده بعضهم بضم الحاء وفتح الجيم. قال في المطالع: إن كان سمي البياض الذي بين عيني الفرس حجلة لكونه بياضا كما سمي بياض القوائم تحجيلا فما معنى الزر مع هذا؟ لا يتجه له فيه وجه.
وقال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: واستبعد السهيلي قول ابن عبيد اللَّه بأنه من حجل الفرس الذي بين عينيه بأن التحجيل إنما يكون في القوائم وأما الذي في الوجه فهو الغرة وهو كما قال: إلا أن منهم يطلقه على ذلك مجازا وكأنه أراد قدر الزر وإلا فالغرة لا زر لها.
وضبطه بعضهم بتقديم الراء على الزاي. حكاه الخطابي وفسره بأنه البيض من قولهم.
أرزت الجرادة بفتح الراء وتشديد الزاي إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض. فاستعار له الطائر.
قال في «المفهم» : لا يسمى العرب البيضة «رزة» ولا تؤخذ اللغة بالقياس.
النغض- بنون تضم وتفتح فغين ساكنة فضاد معجمتين- قال الجمهور: النغض والناغض: أعلى الكتف. وقيل هو العظم الدقيق الذي على طرفه وقيل: ما يظهر عند التحرك.
السلعة. بكسر السين وسكون اللام وفتح العين: وهي هنا خراج كهيئة الغدة يتحرك بالتحريك.
البضعة: القطعة من اللحم والجمع بضع وبضعات. وبضع وبضاع. مثل تمرة وتمر وسجدات وبدر وصحاف.
ناشزة: بنون وشين مكسورة فزاي معجمتين: مرتفعة.
ناتئة- بالهمز وتركه: أي خارجة من موضعها من غير أن تبين.
جمع- بضم الجيم، وحكى ابن الجوزي وابن دحية كسرها وبه جزم في «المفهم» إسكان الميم أي مجمع الكف وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها يقال ضربه بجمع كفه.
خيلان- بخاء معجمة مكسورة فمثناة ساكنة: جمع خال وهو الشامة في الجسد.
الثآليل - بالثاء المثلثة- جمع ثؤلول بهمزة ساكنة وزان عصفور ويجوز التخفيف:
حب يظهر في الجسد كالحمصة فما دونها. قال القرطبي في المفهم: نقط سود كانت على الخاتم شبهها بها لسعتها لا أنها كانت ثآليل.
الغضروف: رأس لوح الكتف. متراكبات: مجتمعات.
سلقني: ألقاني على ظهري. قال في النهاية ويروى بالصاد أيضاً وبالسين أكثر.
واللَّه أعلم