نظامنا الذي نسير عليه -
وكذلك الصالحون كانوا وما زالوا يمشون عليه :
إن الدراسة في أكاديمية الصالحين
تنقسم إلى قسمين:
- جانب نظري أكاديمي في الدروس والمحاضرات ،
- وجانب عملي في المعمل .
والمعمل يعني: أن كل واحد يُحْضِر نفسه فيما بينه وبين نفسه وربه، في معمل نفسه، ويعمل معها الواجب؛
لكي يطبق هذه الدروس في الناحية العملية
ولا توجد إفادة أو إثابة، ولا فتح؛ إلا بعد التطبيق العملي!!
فلو أن الإنسان حصَّل دروساً نظرية – مثل بعض إخواننا الذين معنا منذ ثلاثين سنة –
لكنه يحصَّل نظري، ولا يريد أن يفتح معملاً أبداً عنده، ماذا نفعل له ؟
- وبالمثال يتضح المقال:
واحد يعمل (حلواني عند جروبي)، وأخذ دراسـات أكاديمية ويطبخ كل أنواع الحلوى،
والجاتوهات الشرقية والغربية والهندية والصينية، وغيره، ولكن لم يتذوقها أبداً!!
هل يستطيع معرفة نكهة أي حلوى من التي يصنعها؟ لا !!! متى يدرك نكهتها؟
عندما يصنعها، ويتذوقها!! لكن الشرح النظري لا يكفي،
ومبدأ الصالحين في معرفة الحقائق: " ذق تعرف "
والذوق لا يكون إلا بعد الممارسة العملية!!!
- مثال آخر: لكي يكون الواحد من الصالحين لازم يتجمل بجمال الصالحين ،
وجمال الصالحين .. هل هو جمال الصورة؟ لا..
ولكنه جمال الطبع ، وجمال الأخلاق ، وجمال الأحوال ، وجمال السلوكيات ، .. هذا جمالهم!!!
ولكي أدرك هذه الأشياء، وأصبح معهم:
لا بد من أن أغيِّر نمط أخلاقي ، وسلوكياتي ، وحياتي ، وأجعلها على نمطهم؛ وإلا سأظل محلك سِرْ!!
وإن كنت معهم خمسين سنة، أو ستين سنة، أو أكثر أو أقل!!
- مثال ثالث: لكي يكون الواحد منا من الصالحين، سيباح له أسـرار!! وسيُكشف له عن أنوار!!
لا تباح إلا للأخيار
متى يباح له الأسرار؟ ويماط اللثام عن قلبه ليرى الأنوار؟ إذا كان كاتماً للأسرار!!
وإذا كان هذا الشخص لا يقدر أن يكتم كلمة سمعها من واحد!! فكيف سيكون كاتماً للأسـرار؟!!
فلو إستمع إلى خمسين محاضرة عن كتمان السر وعنوانها:
" المجالس بالأمانات "
لكنه لم يطبق هذه المحاضرات على حياته العملية، فسيظل طوال عمره غربال!!
كم يحفظ الغربال من الماء؟..لا شيء!!
فهل يباح لمثل هذا في أي وقت من الأوقات سر من الأسرار الإلهية؟ ...لا، ... لماذا؟
لأنه لم يدرِّب نفسه على كتمان الأســـرار ؛
وإذاً ! لا تباح له الأســرار.
من الذي سيدربه؟ هو...!!
لكنني أرى كثير من إخواني ، مثل تلاميذ هذه الأيام:
فالولد عندي ، وعندك ، لا يذاكر - وكذا البنت!!
فإذا قلنا له: يا بني نحن نريد منك الحصول على مجموع عال في الثانوية
فإنه يقول لك: دبر لي أمْهَرُ مدرس في الدروس الخصوصية، وليس لك شأن!!
ولكن هل المدرس سيذاكر بدلاً منه؟!!!
كذلك نفس الأمر بالنسبـة لأغلب المريدين في هذا الزمان؛
فهم متخيلون أنهم ما داموا في صحبة فلان من العارفين؛
فسيصبح كل واحد منهم في يوم من الأيام من أولياء الله المتقين!!
ونحن نقول له:
في إمكانك ذلك، لكن عندما تفتح المعمل الخاص بك، وتدخل فيه نفسك، وتحجِّمها، وتحدِّدها،
ويا حبذا لو تسحقها وتَمْحَقُها، وتجعلها تنبت من جديد على النهج السديد للنبي الرشيد
صلى الله عليه وسلم.
فقد تكون معجباً بنفسك، وترى أنك على ما يرام!! وتريد أن يأتي الخير على ذلك،
بينما ربما يكون حالك في رأي سيد الأنام، والصالحين الذين في معيته : غير تمام!!
فكيف يتحقق لك ذلك؟!!
على الأقل تكون مثل أولاد الأنصار:
السيدة أم سليم - أم أنس بن مالك - كانت لا تنجب، فلما حملت بأنس؛
نذرت إن رزقها الله بغلام؛ أن تجعله خادماً للكعبة، فولدت أنس.
وعندما بلغ سبع سنين وهاجر سيدنا رسول الله ودخلت في الإسلام
(( وكانت من الفضليات العظيمات في الإسلام ومن الصالحات؛ حتى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يذهب ويقيل عندها في بيتها – من إيثاره لها، وهذا يعني أن لها منزلة عظيمة))
فأخذت ابنها أنس وقالت: يا رسول الله، هذا أُنيس، كنت قد وهبته للكعبة،
واليوم أهبه لك.
فكان خادماً لرسول الله وفي يوم من الأيام، وجدت أنساً يلعب، فنادت عليه:
يا أنس ماذا تفعل؟ قال: ألعب ... وأين تذهب؟..
قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر
قالت: ما هو؟ قال: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهي أمه - فاحتضنته والتزمته، وقالت:
(هكذا فكن)
وهذا طفل صغير!!!
فما بالك لو كان رجل وعمره ستين سنة، أو سبعين سنة، وماشي معنا منذ ثلاثين سنة، لكنه لا يستطيع أن يكتم كلمة سمعها من أخيه!!
كيف يكون مثل هذا رجلاً؟!!
إنه لم يحصل حتى على منزلة " صبيّ " في طريق الله عزَّ وجلَّ .
المجالس بالأمانات
************
ولكي يكون رجلاً من الرجال؛ ستكون أسرار الناس كلها في صدره -
وكما قالوا: " صدور الأحرار قبور الأسرار "
ولذلك قالوا: " يموت الولي ، وأسرار الناس معه "
لأنه دفنها معه، ولا يذيعها لأحد،
فكيف يكون في هذه المهمة ... والذي يسمعه من هذا يقوله لهذا؟!!
أين (المجالس بالأمانات)؟!!
فالذي لا يريد أن يدرب نفسه عليها لا ينفع في طريق الله عزَّ وجلَّ
فبداية روضات الصالحين: أن الطفل فيها يتعلم: (أن المجالس بالأمانات)
المجلس الذي يجلسه أمانة، فإذا حدَّث أحداً بما دار في المجلس – بدون إذن أهل المجلس- تكون خيانة،
لأنه لا بد أن يعرف أنهم راضون عن نقل هذا الكلام، أو غير راضين؟!!
لكن غير ذلك لا يُحدَّث .
- مثلا: جلست مع صديقك، وحكى لك عن سرٍّ
فلو كنت تريد أن تتوسط؛ تسأله أولاً: أحكي لفلان؟
فمع أنك تسعى في الخير، تسأله أولاً
كذلك - ولو توسَّطت - لا تنقل إلا الكلام الذي يسرُّ ، لكن الكلام الذي يضرُّ ..هل ستنقله ؟ لا.
لأنك لو فعلت ذلك في هذه الحالة ؛ لن تكون حكيماً أساساً
فهذا هو مبدأ الإسلام، الذي اتفق عليه أهل الإسلام،
وكان عليه المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام .
فأول رتبة يأخذها السالك ( كاتم للأسرار )
إذا تعرض للاختبار، ونجح في الاختبار؛ يعطوه:
(صالح للأنوار، وقابل لتلقي الأسرار)
حتى أن الصالحين لهم اختبارات عجيبـة في هذا الموضوع،
يقول فيها الإمـام أبو العزائم - رضي الله عنه أرضاه:
" قد يُظْهِـر الرجل الصالح بعض أسراره الخاصة للمريد ليمتحنه،
كأسرار بيته وعياله .. فإن أذاعها ؛ فلا يؤتمن على الأسرار العلية!!
وإن ائتمن عليها ؛ فهو لغيرها أأمن ، فيباح له أسرار حضرة الله جلَّ في علاه ".
إذن من الذي سيدرب الأخ على هذا الخلق؟ هو بذاته !!
يأخذ دورة تطبيقية عملية في حياته في هذا الأمر، ويحاسب نفسه:
حاسب ضميرك والحظن أسراري **** وقف على باب الصفا يا ساري
هم يعطونك محاضرات نظرية، وأنت تطبِّق.
من الذي يحاسب؟ أنت تحاسب نفسك!!
أنت المهندس، وأنت الميكانيكي، وأنت المشرف، وأنت المراقب،
وأنت التنظيم والإدارة، وأنت الجهاز المركزي للمحاسبات،
فكل حاجة معك أنت!! فتحاسب نفسك؛
لكي تصلح لربك عزَّ وجلَّ
يسمُّونه: " رجل صالح
" ماذا يعنون بصالح؟ أي صالح للحضرة
من الذي يصلحه؟ هو الذي يصلح نفسه.
وهذه الدورة لا بد أن تنزلها بنفسك،
وإن لم تنزلها . بماذا يفيد كلامي؟!! محاضرات نظرية فقط
وتكون في هذه الحالة .. عالم بأحوال الصوفية!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق