يقول القضاعي في فرقان القرآن
(إنّ الغلط في تفسير العبادة ، المزلقةُ الكبرى والمزلَّة العظمى ، التي أُستحِلت بها دماءُ لا تحصى ، وانتهكت بها أعراض لا تعد ، وتقاطعت فيها أرحام أمر اللّه بها أن توصل ، عياذاً باللّه من المزالق والفتن , ولاسيما فتن الشبهات.
فاعلم أنّهم فسّروا العبادة بالاِتيان بأقصى غاية الخضوع ، و أرادوا بذلك المعنى اللغوي ، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث , من استقراء مواردها في الشرع ، فإنّه الاِتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً باعتقاد ربوبية المخضوع له ، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً ، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به و لو سجوداً.
ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع والضر،
و كنفوذ المشيئة لا محالة
ولو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ
الّذي هو أكبر من هذا المعبود.
و إنّما كفر المشركون بسجودهم لاَوثانهم و دعائهم إيّاهم وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم ، وهو اعتقادهم #ربوبية ما خضعوا له ، أو خاصة من خواصها كما سيأتيك تفصيله.
ولا يصحّ أن يكون السجود لغير اللّه فضلاً عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد، عبادة شرعاً -كسجود الملائكة لآدم- ، فإنّه حينئذٍ يكون كفراً وما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع ، ولا يأمر اللّه عزّ وجلّ به , ((قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ)) الاَعراف- 28 , ((وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْر)) الزمر-7 , وذلك ظاهر إن شاء اللّه .
وها أنت ذا تسمع اللّه تعالى قد قال للملائكة: ((اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ ابلِْيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ )) البقرة-34 , وقال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) الاَعراف-12, وقال: ((ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلْقْتَ طِيناً)) الاِسراء-61 , والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق ويرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم.
فإن تعسّر عليك فهم هذا -وهو ليس بعسير إن شاء اللّه تعالى- ، فانظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك واحترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه ، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها , و لا يكون ذلك منك عبادة له ، لماذا لاَنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه , و تقف في الصلاة قدر الفاتحة وتجلس فيها قدر التشهد و هو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له ، و سرّ ذلك هو أنّ هذا الخضوع الممثّل في قيامك و قعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزّوجل.
وتدعو رئيسك في عمل من الاَعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك و أنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر، و لكن اللّه جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلاً منه سبحانه، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ، و أنت على ما وصفنا، فإن دعوتَه و أنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع، أو الضرّ، أو نافذ المشيئة مع اللّه لا محالة، كنت له بذلك الدعاء عابداً، و بهذه العبادة أشركته مع اللّه عزّوجلّ، لاَنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية، فانّالاستقلال بالجلب أو الدفع و نفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لاَصنامهم و نحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لامحالة مع اللّه تعالى، و لو على سبيل الشفاعة عنده، فانّهم يعتبرونه الربّ الاَكبر و لمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته، و بمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ المشيئة معه لا محالة))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق