الأربعاء، 13 نوفمبر 2019

نصيحة الذهبي لابن تيمية لما تأكد من زيغه بعد سنين طويلة

نصيحة الذهبي لابن تيمية لما تأكد من زيغه بعد سنين طويلة 

(وهي رسالة ثابتة النسبة إلى الذهبي وقد طبعت غير مرة).
نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ذلتي، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي، واحفظ عليَّ إيماني، واحزناه على قلة حزني، واأسفاه على السنة وذهاب أهلها، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء، واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات، ءاه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس.
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتَبًّا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه، إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"،
 بلى أعرفُ إنك تقول لي لتنصُرَ نفسك: إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد،
 بلى والله عرفوا خيرًا مما إذا عمل به العبد فقد فاز، وجهلوا شيئًا كثيرًا مما لا يعنيهم و: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

يا رجل بالله عليك كفَّ عنَّا فإنك مِحجاجٌ عليم اللسان لا تقرّ ولا تنام، 
إياكم والأغلوطات في الدين، كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"، وكثرة الكلام بغير دليل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام فكيف إذا كان في العبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب؟ والله قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبشُ دقائق الكفريات الفلسفية لنردَّ عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعتَ سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يُدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن. واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر، وخشية بتذكر، وصمت بتفكر، واهًا لمجلس يُذكرُ فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، لا عند ذكر الصالحين يُذكرون بالازدراء واللعنة، كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخَيتَهما، بالله خلُّونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها رأسًا من الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفّر فهو أكفر من فرعون، وتعد النصارى مثلنا، والله في القلوب شكوك إن سَلِمَ لكَ إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد.
يا خيبة من اتبعك فإنه مُعَرَّضٌ للزندقة والانحلال، ولا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليًّا شهوانيًّا لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلا قعيدٌ مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل.
يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ إلى كم تصدقها وتزدري بالأبرار، إلى كم تعظمها وتصغر العباد، إلى متى تُخاللها وتمقت الزهاد، إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها والله أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تُغيرُ عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار.
أما ءان لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب، أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل. بلى والله ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تُصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول لكَ: والبتة سكتت.
فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحبُّ الواد، فكيف يكون حالك عند أعدائك، وأعداؤك والله فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر.
قد رضيتُ منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرًّا :"رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي"، فإني كثير العيوب غزير الذنوب، الويل لي إن أنا لا أتوب، ووافضيحتي من علاّم الغيوب، ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى ءاله وصحبه أجمعين. انتهى.
***************************
إن هذه الرسالة ثابتة عن الذهبي الذي كان تلميذًا لابن تيمية، ولا عبرة بقول من أنكر ثبوتها بحجة أنها مناقضة لعبارات أخرى وردت في كتب الذهبي في ترجمة ابن تيمية وفيها الثناء الكبير عليه، وبحجة أن النسخة الخطية من هذه الرسالة بخط ابن قاضي شهبة وهو خصم مُلِدٌّ لابن تيمية وشهادة الخصم على خصمه مردودة شرعًا، وأن الحافظ السخاوي شافعي المذهب وله كلام بخس في حق ابن تيمية.

نقول: لا مانع أن يثنى على شخص معين في بادىء الأمر اعتمادًا على تحسين الظن ثم بعدما يتبين له حاله يقدحه ويذمه، وهذا أمر مشاهد ومعروف، ومن أراد فليراجع كتب التواريخ والطبقات.

ومما يؤكد لنا من أن الذهبي أثنى عليه أول الأمر ثم لما انكشف له حاله أرسل له هذه الرسالة على وجه النصيحة كلام الذهبي نفسه في رسالته "بيان زغل العلم والطلب" فقد قال ما نصه: "فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أَخَّرَهُ بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفَّروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وءاثام أصدقائهم، وما سلَّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقّون، فلا تكن في ريب من ذلك". اهـ.

يقول الحافظ السخاوي في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" ما نصه: "وقد رأيت له (أي للذهبي) عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة" اهـ، ثم ساق ما قدمناه.

وقال الذهبي في موضع ءاخر من رسالته "بيان زغل العلم والطلب" ما نصّه: 
"فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وءاراء الأوائل ومحارات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسُّنّة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقاربها، وقد رأيتَ ما ءال أمره إليه من الحطّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحقّ وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوَّرًا مضيئًا على مُحَيَّاه سِيْمَا السلف، ثم صار مظلمًا مكسوفًا عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجّالاً أفّاكًا كافرًا عند أعدائه، ومبتدعًا فاضلاً محقّقًا بارعًا عند طوائف من عقلاء الفضلاء". اهـ.

فتبيّن أن الذهبي ذمّه لأنه خاض بالفلسفة والكلام المذموم أي كلام المبتدعة في العقيدة كالمعتزلة والمشبّهة، وهذا القدح في ابن تيمية من الذهبي يضعف الثناء الذي أثنى عليه في تذكرة الحفّاظ بقوله: "ما رأت عيناي مثله وكأن السُّنّة نصب عينيه".

ومن جملة ما يقوله الذهبي في حق ابن تيمية ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنةعنه ونصه: "وأنا (أي الذهبي) لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية" اهـ.
وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمَّد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بدعًا بين حين وءاخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلَّوا عنه واحدًا إثر واحد على توالي فتنه.

أما الادعاء الثاني وهو أن النسخة الخطية من هذه الرسالة بخط ابن قاضي شهبة وهو خصم مُلِدٌّ لابن تيمية فهو كلام مردود فإن ابن قاضي شهبة لم يفتر على ابن تيمية ولم يلفق له أقوالا إنما طعن فيه لما ثبت له من زيغه وفساد عقيدته، ومن راجع كتب ابن تيمية وجد فيها ذلك.

ثم إن ابن قاضي شهبة لم ينفرد بالطعن بابن تيمية فقد سبقه العديد من العلماء والفقهاء والمحدثين والحفاظ من المذاهب الأربعة المعاصرين له وتبعهم على ذلك خلق كثير، وأمره كما قال الحافظ الفقيه المجتهد تقي الدين السبكي :"وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور".

أما الادعاء الثالث وهو أن الحافظ السخاوي شافعي المذهب وله كلام بخس في حق ابن تيمية، فلا يستغرب صدور مثل هذا الكلام الساقط ممن يدعو إلى نبذ المذاهب الأربعة، لكن من طمس الله عينيه بالتعصب الأعمى وأعمى قلبه بالجهل فلا هادي له.
إن هذه النسخة مصورة عن نسخة خطية محفوظة في دار الكتب المصرية ـ القاهرة ـ تحت رقم /18823 ب، وهي مكتوبة بخط الفقيه ابن قاضي شهبة، نقلًا عن خط قاضي القضاة برهان الدين المعروف بابن جماعة، عن خط الحافظ أبي سعيد العلائي المنسوخ عن خط الذهبي نفسه.

هو الفقيه
 المؤرخ أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الدمشقي الشافعي المعروف بابن قاضي شهبة، ولد بدمشق سنة 779هـ، وأخذ عن جماعة كالسراج البلقيني وابن حجى والغزي وغيرهم، وتصدَّى للإفتاء والتدريس، وحدَّث ببلده وبيت المقدس وسمع منه الفضلاء، وناب في القضاء بدمشق، توفي بها سنة 851هـ.

له من الآثار: طبقات الفقهاء الشافعية، ذيل على تاريخ الإسلام للذهبي، تفسير القرءان الكريم، طبقات النحاة واللغويين، شرح منهاج الطالبين للنووي في فروع الفقه الشافعي، وغيرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق