🌹☀الصُّوفيَّة وريادة العلوم 🌹☀
أولى الصوفية للعلم اهتماماً كبيراً ....
حتى كان يشار لكثير منهم كالجنيد والقطب الجيلاني والشاذلي وغيرهم بأنك إذا حدثته في علم تجده يجده إجادة تامة كأنه لا يعرف غيره، فإذا انتقل معه إلى آخر تجده متبحراً فيه كذلك وكأنه تخصصه الذي عكف عليه طوال حياته.
وقد روي عن جماعة كثيرة منهم أنه كان يحضر مجلس درسه الفقهاء والنحويون وأصحاب علم التفسير وأصحاب الحديث ورواة الأدب واللغويون وغيرهم وكل يستزيد في علمه أثناء إلقاء الشيخ لدرسه.
🌹☀ولذا فلا نعجب أن نجد الشعراني يشترط للشيخ في طريق الله أن يكون عنده ((علم العلماء، وتدبير الأطباء، وسياسة الحكماء)) لكن الذي نود أن نشير إليه هنا أهم المجالات التي بلغ فيها الصوفية دور الريادة لأنهم أول مَنْ تكلم في هذه العلوم، ولهم الفضل في إنشائها ونقلت عنهم إلى غيرهم. 🌹☀
* فمن ذلك علم الكيمياء الذي يعد جابر بن حيان مؤسسه الحقيقي باعتراف أساطين علماء الغرب، وقد اعترف جابر بأن الفضل في ذلك ينسب للإمام جعفر الصادق حيث أنه هو الذي لقنه مبادئ هذا العلم، وتولى توجيهه وإرشاده، وكان يعرض عليه نتائج ما توصل إليه، فيقره على ما أصاب فيه، ويصحح له الخطأ، ويبين له السبيل الأمثل للوصول إلى النتائج اليقينية مما يعد معه هذا العلم صوفياً في نشأته.
* أما علم النفس فلا يزال دور الريادة فيه للصوفية إلى يومنا هذا.
🌱لقد فهم الصوفية النفس البشرية فهماً طيباً من خلال تعمقهم في آيات الله البينات، وإقتدائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في العلاج النفسي مما يعجز عنه أعظم الأطباء في العصور القديمة والحديثة على السواء، ولقد عالج الرسول صلى الله عليه وسلم أمراض نفسية يعجز علاجها على أعظم أطباء هذا العصر، عالج أمراض الصرع الروحاني والأرق والوساوس والاكتئاب والزمت والحصر والقلق المزمن والحزن والمصائب والكروب والهم والغم والفزع والخوف والجزع والغضب والطمع والحسد والحقد والعين والسحر. 🌱
* وهذه العلاجات التي ذكرناها إنما هي خاصة بالطب النفسي فحسب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عالج أيضاً الطب البدني وربط بين الطب النفسي والطب البدني في علاجاته.
* ومن ناحية أخرى فإن الصوفية لم يهتموا بالطب النفسي العلاجي فحسب، كما هو في العيادات النفسية في العصر الحديث، إنما اهتموا أيضاً بالطب النفسي الوقائي، أي قبل أن يصل المريض إلى الحاجة الماسة إلى العلاج، لذلك كانت الأمراض
النفسية في صدر الإسلام وكذلك لدى الصوفية نادرة الحدوث.
🌹☀فقد كان الصوم والصلاة والاستعاذة والاستغفار وكظم الغيظ والصبر والذكر الدائم، عبارة عن طب وقائي يمنع تراكم الأمراض النفسية من خواطر شيطانية ووساوس وكروب، يمنعها من النفاذ إلى قلب الإنسان، ومن ثم يصبح قلب المسلم على الدوام مستفرغاً ومحصناً من ولوج الآفات والأمراض التي تسبب له تراكمات وأزمات نفسية، ولذلك يقول الدكتور حسن الشرقاوي في كتابه (المسلمون علماء وحكماء) صـ 146 : 🌹☀
((ولا ريب أن المسلمين وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الهادي البشير هم الرواد الأوائل للطب النفسي الوقائي والعلاجي على السواء، ولقد تبع الرسول في هديه النبوي ثلة من العلماء والحكماء أمثال: الحسن البصري، اليافعي، المكي، المحاسبي، وحجة الإسلام الغزالي وغيرهم كثير)).
أما عن تحليل خلجات النفس ووصف أمراضها، وبيان عيوبها فذلك أمر وصل فيه الصوفية إلى الغاية، لأنهم يتحدثون في ذلك عن تجربة صادقة عميقة تقوم مقام المنهج الاستقرائي في هذا المجال، ولذلك لا يستطيع دارس لعلم النفس بشتى فروعه أن يستغنى عن كلام الصوفية في هذا الشأن.
* زعم العلماء الغربيون أنهم اكتشفوا علماً جديداً:
هو علم الإنسان الاجتماعي، وأسموه بالأنثروبولجيا وذلك في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهدف هذه الدراسات سواء كانت الأنثروبولجيا البنائية، أو الثقافية، دراسة المجتمعات المحدودة والبسيطة خوفاً من اندثارها وذلك بقصد الوصول إلى نظرية تفسر الحياة في تلك المجتمعات.
ويقول د.حسن الشرقاوي في كتابه (المسلمون علماء وحكماء) ص 139:
((ولو رجعنا لعدة قرون أي للقرن العاشر الهجري، لوجدنا أن الإمام الشعراني قد قام بدراسة مسحية على الطوائف الصوفية في مجتمع القاهرة:
ولقد أختار عينات عشوائية ممثلة للطرق الموجودة في المجتمع والقاهرة؛ عبارة عن مائة مريد من المنخرطين في الطرق الصوفية.
🌹☀واستهدف في دراسته إثبات صحة الفرض الذي وضعه، وهو أن هناك في عصره اندحار في أخلاق الصوفية عن العصور السابقة عليه، ولقد استعان الشعراني بالملاحظة المباشرة وغير المباشرة ووصف أخلاقيات المريدين في عصره وصفاً دقيقاً يدل على انخراطه في الطريق الصوفي وفهم دقيق للمارسات والأذواق والمشارب والمواجيد الصوفية ، ثم عقد مقارنة بين صوفية عصره وبين الصوفية من السلف الصالح، وأظهر في نتائج بحثه بأدلة دامغة وبراهين قاطعة اندحار وارتكاس الأخلاق في عصره عن العصور السابقة عليه. 🌹☀
مما يثبت أن الغرض الذي وضعه في دراسته كان صحيحاً وأن الدراسة الحقلية والمسحية أثبتت صدقه.
ونستخلص من ذلك أن إدعاء الغربيين أن الأنثروبولجيا بشقيها البنائية والثقافية يرجع الفضل في اكتشافها إلى الغربيين قول مرفوض، ودعوى ينقصها البرهان والدليل، فإن الإمام الشعراني قد سبق هؤلاء العلماء الغربيون على الأقل بخمس قرون في الدراسات الأنثروبولجية وتفوق عليهم في هذه الدراسات.
🌹☀إذ أنه أدخل المعامل الروحي الذي يفتقر إليه أغلب علماء الأنثروبولجيا المعاصريين، فهو عندما درس المجتمع الصوفي في القاهرة عاش بين أفراده ملاحظاً ومتذوقاً لمشاربهم، متفهماً لمصطلحاتهم وإشاراتهم ومعانيهم ولغتهم، مقارناً بينهم وبين الصوفية من السلف الصالح، مما أعطى لدراسته ثراء وعمق يعجز عنه أي عالم أنثروبولجي معاصر)). 🌹☀
* أما في مجال التربية :
فيعتبر الصوفية بحق من أفضل الذين عالجوا موضوعات التربية على الإطلاق ذلك لأنهم لم يهتموا بالجانب الظاهري في السلوك فحسب، وإنما ركزوا على الجانب الباطني أيضاً.
🌹☀اهتم الصوفية إذن بالظاهر والباطن جميعاً. فهناك التكاليف والفرائض والواجبات المقررة شرعاً وعقلاً، كما أن هناك الإخلاص والصدق والنية وهي أمور تتعلق بأعمال القلوب ، فالتربية الإسلامية تقوم على أساس صحيح يواكب الفطر السليمة والعقول الرشيدة والنفوس المستقيمة، ومهما درسنا فلسفات التربية في الغرب الليبرالي والشرق الشيوعي، فإننا لن نجد منهجاً تربوياً صالحاً للتطبيق لكل زمان ومكان مثل منهج التربية الإسلامية. 🌹☀
ومهما جربت الأمم والشعوب مناهج بشرية ونظم إنسانية في فلسفات التربية، فلن نجد أي منها يستطيع أن يلبي حاجات الفرد والبيئة والمجتمع لخلق الإنسان الصالح، مثلما نجد ذلك في منهج التربية الإسلامية، لذلك يعتبر أقطاب الصوفية رواداً أوائلاً في مناهج التربية ونظمها مثل :
* الإمام أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب.
* والغزالي في الإحياء.
* والمحاسبي في الرعاية.
* وعبد القادر الجيلاني في الغنية.
* وأبو الحسن البصري في أدب الدنيا والدين.
* والإمام محمد ماضى أبو العزائم في شراب الأرواح ، ومعارج المقربين، والنور المبين ، ...... وغيرهم كثير.
ولذلك يقول لدكتور حسن الشرقاوي في كتابه (المسلمين علماء وحكماء):
((فإن البشرية في مسيس الحاجة الآن إلى الإستعانة بمنهج التربية الإسلامية الذي استقاه العلماء المسلمون من القرآن الكريم والسنة المحمدية، ليعرفوا تماماً أنه الحق الذي يصلح فكراً وسلوكاً وتطبيقاً)). (صـ 127).
* أما علم الأخلاق فيعتبر برمته علماً صوفياً:
ولذلك نجد تعريفات التصوف معظمها يدور حول هذه المعنى مثل قول سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه:
((التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الصفاء)). 🌱
وقول الحريري :
((التصوف: الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دنئ)). 🌱
فالتصوف هو الذي يوصل الإنسان إلى التكامل الأخلاقي المنشود، بينما نجد في القرن العشرين رغم التقدم المادي الهائل، انتكاس واندحار في العملية التربوية والأخلاق، بحيث لا يمكن أن يقال أن الأخلاق تتقدم تقدماً طردياً متوازياً مع التقدم التكنولوجي.
إن لدى الصوفية تراثاً حضارياً عظيماً ما زال مدفوناً في دهاليز المكتبات العربية والإسلامية يحتاج إلى باحثين مهرة ومفكرين أكفاء ليزيلوا عنه تراب النسيان وينفعوا به العامة والخاصة من الناس من مسلمين وغير مسلمين ، ولا أظن إنني استطعت أن ألم بكل المجالات التي يجاهد فيها الصوفية لأن القوم من فتوتهم لا يحبون أن يطلع على عملهم إلا الله عزّوجل .
* وعن المجالات الأخرى التي أغفلنا ذكرها لنأخذ مثالاً واحداً لما تقوم به زوايا الصوفية من خدمات اجتماعية وهي زاوية الشعراني رضي الله عنه :
فلقد استطاع رضي الله عنه في عصره أن يزوج أربعين رجلاً من مريديه قام عنهم بالمهر ونفقات الزواج، وحرص على تزويد زوجاتهم بكل شئ يخطر على العقل من شئون النساء ولوازمهن. 🌱
وأرسل أفواجاً من تلامذته للحج إلى الأرض المقدسة.
وكان يقوم بتزويد العلماء والفقهاء في مصر وغيرها بالغذاء والكساء، وأما طلبة العلم فقد كانت لهم إعاشة كاملة على نفقة الزاوية مما يجعل الصوفية أول من حقق مجانية التعليم ، هذا فضلاً عن ضيوف الشعراني وزواره الذين قُدّروا بحوالي مائة زائر يومياً يقدم لهم كل واجبات الضيافة.
والحمد لله تقوم الزوايا الصوفية في العصر الحاضر بأنشطة اجتماعية عصرية :
من حضانات ومدارس إسلامية، وتحفيظ للقرآن الكريم، ومستوصفات طبية، ومشاغل للأعمال اليدوية والصناعات الصغيرة، ودراسات الكمبيوتر، وحل للمشاكل الأسرية، وتزويج للفقراء، ورعاية للأيتام، وإعانة على أداء الحج والعمرة، وإحياء لمشروع القرض الحسن وغيرها من الأنشطة التي يضيق النطاق عن حصرها.
ونأمل من المسلم المعاصر :
ألا ينظر إلى الأمور بأفق ضيق، أو برأي مُسْبق، بل عليه أن يقرأ ويشاهد بفكر مفتوح، لا يتحكم فيه الهوى ولا الغرض ليعرف الحق لأهله فيسعد في دنياه وآخرته.
هذا وقد اكتفينا بالإيجاز في بعض النقاط لأن هذه الدراسة فى إعتقادنا معالم على الطريق فقط ، حيث أن كل نقطة منها تحتاج إلى دراسة أو دراسات وافية بشأنها ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
🌹☀همسة صوفية لفضيلة الشيخ فوزى محمد ابو زيد 🌹☀
☀من كتاب المنهج الصوفى والحياه العصرية ☀
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق