السبت، 26 ديسمبر 2020

خاطرة الحبيب الجفري عن الضجة المفتعلة حول تهنئة المسيحيين بذكرى ميلاد السيد المسيح

 نخلة الشتاء




خاطرة عن الضجة المفتعلة حول تهنئة المسيحيين بذكرى ميلاد السيد المسيح عليه الإسلام.
الحمد لله
في كل عام تتكرر المعارك الشبكية السخيفة حول تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد، والسخف هنا ليس في وجود الخلاف الفقهي حول المسألة ولكنه في استدعائه إلى معترك المرحلة والمنطقة التي تعاني مرارة البغضاء والكراهية والصدام والقتل والدمار لتوظيفه في هذا الإطار التعيس.
وقد سبقت الكتابة مرتين حول الموضوع بعنوان: ” في يوم الميلاد المجيد: {والسَّلام عليَّ يومَ وُلدت} ” وعنوان ” إنّ منكم منفرين “.
وقد أُثبِت بطلان دعوى الإجماع على تحريم التهنئة وأن الإمام أحمد بن حنبل رُوي عنه القول بالجواز كما ذكر ذلك المرداوي في “الإنصاف”، وسبق بيان أن فتوى التحريم لم تصدر عن دليل من كتاب وسنة بل عن علة مفادها أنّ التهنئة من لوازمها الإقرار على العقيدة، وهذا كان صحيحًا في ثقافة تلك العصور، غير أنه قد تغير كليًّا في عصرنا حيث يهنئ المسلمون المسيحيين بأعيادهم ويهنئ المسيحيون المسلمين بأعيادهم وكل طرف يعلم يقينًا بأن الطرف الآخر لا يتفق معه في اعتقاده، و”الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا” كما يقول الفقهاء. وسبق ذكر أن الأمر فيه سعة فمن أراد أن يُهنئ أو أن يمتنع فهذا اختياره على أن لا يؤجج الفتنة بالنكير على من يخالفه.
ولكن الجديد في هذا العام هو انتشار التعليقات التي تُبرِّر منع التهنئة بأن السيد المسيح لم يُولد في تاريخ الخامس والعشرين من ديسمبر كما يعتقد الكاثوليك والبروتستانت ولا في السابع من يناير كما يعتقد الأرثوذكس، فكلاهما في الشتاء والله عز وجل قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} والرُطب لا يكون في الشتاء بل هو من ثمار الصيف!
ونسي إخوتنا هؤلاء أن الإشكال بهذه الطريقة لا يقف عند ثمرة النخلة في الشتاء بل هو أيضًا وارد في كون المرأة لا تستطيع هز جذع النخلة، بل في أصل القصة وهو أن المرأة لا تحمل ولا تلد بدون علاقة مع رجل!
فكل هذا إخوتي من المعجزات الخارقة للعادة، ومن صدّق أن امرأة تلد بغير رجل فمن السخيف أن ينفي إمكانية أن تثمر النخلة في الشتاء.
ولكن الأمر الأهم هو أن التهنئة ليست متعلقة بصحة التاريخ فالمسيحيون أنفسهم قد اختلفوا حوله، وليست متعلقة بالعقيدة فكلنا يعلم أن الخلاف العقدي بيننا جذري، ولكن التهنئة تتعلق بمعنى البر وحسن الصلة وجميل المعشر ونشر السلام وارتقاء آدميتنا عن حضيض الأحقاد، وتطهير أجواء منطقتنا من رياح الكراهية السامة.
إنّ التوتر الذي تعيشه المنطقة والمرحلة قد أوصلنا إلى حالة من الرفض لكل ما من شأنه أن يعالج داء البغضاء الذي تفشّى في عقولنا وقلوبنا وأصبح كالسرطان الذي ينهش الجسد.
بل أصبح الكثير منّا يعيش حالة الاستسلام الكلي للكراهية إلى حد الإدمان، ولم يعد يحتمل لغة الحوار العلمي أو الفكري الراقية، فيسارع إلى الهجوم والاتهام والسباب واللعان وكأنه بذلك يُنفّس عن غضبه.
ومن التناقض العجيب أن تجد من يكيل الشتائم وينطق بفُحش الكلام وبذاءة العبارات في سياق نصرة الدين! وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعث ليُتمم مكارم الأخلاق!
وهناك الكثير من الأعذار التي قد تُلتمس لعموم الناس الذين يعيشون واقعًا أليمًا يُغذي هذا الشعور السلبي ويخضع لتأثير التهييج الإعلامي لكل التناقضات، ويعيش حالة من فقد الثقة في كل أحد وفي كل شيء.
لكنها لا تُلتمس إطلاقًا لمن يُمارسون ذلك ممن يُسمون بالنخب أيًا كانت نوعية هذه النخبوية دينية أو ثقافية أو سياسية أو إعلامية، كما أنّ التماس العذر لعموم الناس لا يعني قبول الاستسلام لهذه الحالة الهستيرية التي نحتاج جميعًا إلى العمل على معالجتها.
وإلى الذين يبحثون عن الصراع والأحقاد فيحتجون في رفضهم التهنئة بالجرائم التي ارتكبها مسيحيون معاصرون ضد المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا وإفريقيا الوسطى وأوغندا والفلبين وغيرها من المناطق المشتعلة يقال:
أولاً: هناك مسلمون أيضًا ارتكبوا جرائم بشعة ضد مسيحيين في العراق وسورية وأفريقيا الوسطى ونيجيريا وأمريكا وبريطانيا وغيرها من المناطق فهل تُحبون أن يعاديكم المسيحيون في كل مكان ويعاملوكم جميعا على هذا الأساس؟
ثانيًا: ما الفرق حينئذ بينكم وبين متطرفي المسيحيين الذين يدعون إلى قتل المسلمين وتفجير الكعبة ودعم الجيش الصهيوني الذي يقتل الفلسطينيين؟
ثالثًا: وبمناسبة ذكر فلسطين، هل نسيتم أننا وإخوتنا المسيحيين في فلسطين يد واحدة في مواجهة المُحتل؟ وأن كنيسة المهد في بيت لحم قد تعرضت للقصف عام ٢٠٠٢ للميلاد بسبب اختباء المقاومين فيها؟ وأن قساوسة الكنيسة كانوا يطعمون المقاومين من طعامهم ويسقونهم من مائهم في وقت حصار الكنيسة؟
هل نسيتم أن نصارى الشام ومصر وقفوا صفًا واحدًا مع المسلمين في وجه حملات الفرنجة التي سُمّيت بالحروب الصليبية؟
هل نسيتم أن مسيحيي أقباط مصر قد مُنعوا من الحج إلى بيت المقدس طوال فترة الاحتلال الصليبي بسبب رفضهم خيانة إخوتهم من المسلمين؟
هل نسيتم أن أرض سيناء قد شهدت امتزاج دماء المسلمين والمسيحيين في حرب العبور وأن صاحب فكرة مضخات المياه التي أطاحت بخط بارليف هو اللواء باقي زكي يوسف وكان مصريًا مسيحيًا؟
وهنا أعلنها واضحة بيّنة:
٠ نعم المسيحيون إخوتي في الإنسانية، والعرب منهم إخوتي في الإنسانية واللسان والأرض.
٠ نعم أُهنئهم في عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام بغض النظر عن تاريخ مولده الشريف.
٠ نعم أحب لهم الخير وأدعو لهم بالسعادة في الدنيا والآخرة، وبأن يوفقهم الله إلى ما فيه رضاه.
وأخيرًا..
لقد قرن الله تعالى ذكر مولد سيدنا المسيح بأمر نحن أحوج ما نكون إليه، ألا وهو “السلام”. قال تعالى على لسان السيد المسيح عليه السلام: {والسَّلامُ عَلَيَّ يومَ وُلِدْتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبْعَثُ حَيًّا}.
فالسلام عليك يا سيدي في يوم تَذَكُّر مولدك، السلام عليك يا رمز السلام، السلام عليك سلامًا يملأ الله به زماننا وبلداننا وقبل ذلك “قلوبنا” بالسلام.
اللهم أنت السلام ومنك السلام فحيِّنا ربَّنا بالسلام وأدخلنا دار السلام يا ذا الجلال والإكرام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق