نور القرآن
وقد قال في ذلك سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه : (إن الله يزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان). فنور القرآن هو الذي يستطيع أن يمنعني من العصيان، لكن أمر السلطان أستطيع أن أفر منه أو أتنصل، بل أستطيع أن أضيع كل ملابسات الجريمة، حتى ولو كان هناك شاهد ملموس عليّ كالبصمة على الإصبع، فالبعض يبتر إصبعه حتى تذهب آثار جريمته، لكن من الذي يستطيع أن يمحو آثار جريمته ممن يقول للشئ كن فيكون؟ إنه عزوجل يقول [105- التوبة]:
} وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ {
فالمؤمن الذي يشعر بداخله أن الله عزوجل يراه، يرى حركاته وسكناته، ويطلع على خواطره وعلى توجهاته وعلى نياته، كيف يعصاه؟.
إنه لا يستطيع عصيانه عزوجل حتى ولو كان في خلاء من الناس، لأنه تيقن بقلبه أن الله عزوجل لا يخلو منه زمان ولا مكان، وإن كانت عيون الحس لقصورها وضعفها لا تراه، لكن عيون القلب تشهد صفات الله وجمالات الله وكمالات الله ظاهرة في كل مظهر في هذه الحياة.
وإذا نظرت عيني إلى أي كائن تغيب المباني والمعاني سواطع
إذاً ما الذي يسوق الناس إلى البرِّ وفعل الخيرات، ويجعلهم يتمسكون بالفضائل كالهدى والعفاف، ويبتعدون عن الرذائل والمنكرات؟ جهاد النفس على نهج شريعة الله، وليس هذا الكلام الذي نقوله نظريًا، ولكن هناك التجربة العملية الناجحة التى خاضها محمد رسول الله صل الله عليه وسلم والذين معه. وكلنا نعلم ما كان عليه القوم من أخلاق جاهلية، ونزعات إبليسية، فقد كان بينهم من هو أشد من الشياطين فسادا وضلالا، ولذلك قدَّم الله عزوجل ذكرهم في الآية لخطورتهم على شياطين الجن، وذلك في قوله سبحانه: } شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا { [112- الأنعام].
وكان بعضهم في أفعاله وأحواله أضل من الأنعام ولذلك يقول الله عزوجل في شأنهم: } أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ { [179- الأعراف].
فلم يكن عندهم معاني ولا فضائل تليق بتكريم الله للإنسان، أو تناسب الكمال الذي أعد الله له الإنسان.
لكن ماذا حدث؟ كل هذا تغير في طرفة عين على يد رسول الله صل الله عليه وسلم ، فقد أصبحوا بعد السفاهة حلماء، وبعد الجهالة علماء، وبعد الضلالة هداة حتى قال فيهم صل الله عليه وسلم : (علماء حكماء فقهاء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).
لقد طهرهم صل الله عليه وسلم ، من صفات الجاهلية، وخلَّقهم بعد جهاد أنفسهم بالصفات الربانية من الرحمة والشفقة والعطف والبذل والإيثار والعفو والصفح وغيرها وكذلك الأخلاق القرآنية من التواضع والخشوع والإخبات والابتهال والتبتل وغيرها فلما نصروا الله بإقامة شريعته، وحفظ كتابه، والعمل بأحكام دينه، والحرص على وصاياه وتوجيهاته، نصرهم الله عزوجل على أعدائهم تنفيذاً لقوله Uفى(7محمد): }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{
ميادين جهاد المؤمنين
إن الذي أضاع حال معظم الناس في هذا العصر، اعتقادهم أن ميدان الجهاد في الحصول على الأموال فقط لأن بها تتيسر لهم وسائل الحصول على الشهوات، ونيل جميع الرغبات ولذلك سولت لهم أنفسهم أن كل طريق للحصول على المال فهو مباح ولو كان الغش أو الخداع، أو السلب أو النهب، أو النصب والاحتيال أو الكذب، فالمهم أن يحصل على المال بأي وسيلة وبأي كيفية ويبررون ذلك بقولتهم المغلوطة: الغاية تبرر الوسيلة.
لكن المؤمن يجاهد لتحصيل المال من طريق حلال، فإذا انتهى من سعيه على معاشه عمل بقول الله عزوجل لحبيبه ومصطفاه صل الله عليه وسلم : }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ { [ 7و8- الإنشراح].
فتجده يجاهد في ميدان من الميادين التي أشار إليها القرآن، فبعضهم يجاهد ليكون مع القوم الذين يقول الله عزوجل فيهم: }رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ{ [37- النور].
وبعضهم يرغب في الدخول في مقام: } يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { [54- المائدة] ويكتب في ديوان المحبين، فجهاده في التخلق بقول الله عزوجل : } يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { [54- المائدة]
ومنهم من يودّ أن يكون:
} مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا { [69- النساء].
ونحن نطلب هذا المقام في كل ركعة من ركعات الصلاة حيث نقول:
} اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ { [ 7،8- الفاتحة]. والصراط المستقيم لا يكون بالصلاة فقط، ولكن بالجهاد في التحقق بقول الله عزوجل : } وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ { [69- النساء].
فإذا كنت أطيع الله عزوجل في القيام بالصلاة وأخالفه بالكذب على عباد الله، أو الخيانة للمؤمنين بالله فهذه طاعة مردودة لأن الدين لا بد أن يؤخذ جملة واحدة فالطاعة كما أقوم بها في العبادات لابد أن أقوم بها في المعاملات، ولا بد أن أتصف بها في الأخلاق، بل قد وصل الأمر ببعض الصالحين إلى التأسي برسول الله r حتى في العادات، كالنوم والأكل والشرب وما شابه ذلك، وذلك لرغبتهم الشديدة في أن يكونوا في معيته r .
إذن فالمؤمن يجاهد في ميدان من ميادين الجهاد التي وضحها القرآن، أو بيَّنتها سنة النبي العدنان، ويطلب بذلك الأنس بالله، أو التلذذ بذكر الله، أو التمتع بمناجاة الله بكلام الله، أو الدخول في معية سيدنا رسول الله، أو الحصول على الدرجات العالية في الجنة، أو ضمان الأمان في الدار الآخرة من عذاب الله والدخول في المقام الكريم الذي يقول فيه الله عزوجل : } أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ {[82- الأنعام].
ومن يفعل ذلك فهو الإنسان الذي تحقق بخلافة الله، واستحق تكريم الله في قوله جل شأنه: } وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً { [70- الإسراء]، وقد نَبَّه إلى بعض هذه المعاني الإمام عليٌّ t وكرَّم الله وجهه حيث يقول فى أبيات اشتهرت له:
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك ولا تشـعر
وأشار إلى ذلك الإمام أبو العزائم رضى الله عنه في قوله:
يا صورة الرحمن والنور العلي يا سدرة الأوصاف والغيب الجلي
فيك المعاني كلها طويت فهل أدركت سِرًّا فيك من معنى الولي؟
فنحن نريد إصلاح النفوس أولا قبل إصلاح القوانين واللوائح، وإقامة النفوس الفاضلة قبل إقامة المباني والمنشآت، فإصلاح النفس هو الذي عليه المعوِّل الأول في الإصلاح، فلو أن فردًا واحدا فقط استطاع إصلاح نفسه، لفتح الله عزوجل به دولاً كاملة، لأن اللهعزوجل يهيئ له الأسباب، ويفتح له القلوب، ويجري الخير على يديه، ويسوق البر في ركابه تحقيقًا لقوله سبحانه:
} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا { [55- النور].
وفي هذا العصر الذي نحن فيه لن ينصلح حال مجتمعنا إلا إذا انتشر العلماء العاملون، والحكماء الربانيون، والأئمة المخلصون، يهذبون النفس بعلمهم وحالهم، ويخلعون منها الحقد والحسد والغل والبغض، ويملئونها بالحب والشوق والوجد والإيثار وينشرون أخلاق الأنبياء وصفات الأولياء.
فإذا امتلأت القلوب بهذه المعاني فستنحصر الجريمة في المجتمع، وتنزوي الأخلاق السيئة، وتتوارى الرذائل، وسنجد في قلوب شبابنا وبناتنا سدًا إيمانيًا منيعًا يصد التيارات الإلحادية والمادية الجارفة التي يسلطها علينا شياطين أوربا وغواة أمريكا، هذا السد الإيماني يجعل صاحبه من الفتية الذين يقول فيهم الله فى كتابه الحكيم:
} إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى { [13- الكهف].
فلو ألقي في وسط جهنم المعاصي في لندن أو باريس أو غيرها، فلن يستطيع أي إغراء أو إغواء أن يؤثر فيه أو يفتنه، لأن السد الإيماني بداخله يحفظه من ذلك. من أين بُني هذا السد؟ من كلام الله، ومن سنة رسول الله، والعمل بهما بإخلاص طلبًا لمرضاة الله عزوجل .
أما الذي ليس عنده هذا السد الإيماني فتجده يبحث عن المعاصي ليرتكبها، ويلح في طلب الدواعي التي تهيئ له الدواعي، وتتبرج له الدنيا، وتتزين له المعاصي !!! .... ولسان حالها يقول له : ..... هيت لك!! فيجيبها لسان حاله قائلاً : } قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ { [23- يوسف].
من الذي يصنع هذا السد ويبنيه في قلوب بنينا وبناتنا؟
العلماء العاملون والدعاء المخلصون الذين يقول فيهم الله جل شأنه:
} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ { [24- السجدة]، وصلى الله على الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليما كثيرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق