علوم اليقين من مشاهدات مقام اليقين
مقامات علوم اليقين
أصول مقاماتها التي تنتج عنها أحوال الموقنين وترد إليها فروع أحوال المتقين تسعة مقامات ، وهي : التوبة والصبر والشكر والرجاء والخوف والزهد والتوكل والرضا ، والمحبة ، وبعد المحبة مقامات محبوب و منازلات علام الغيوب ثم الرهبة والرغبة ثم اللقاء بالله تعالى والفناء عما سواه ، ومن مقام محبوب تقصر العبارة عن بيان مشاهداتهم ووصف مراقباتهم وكشف ما يواجههم به ربهم سبحانه وتعالى من أسرار عين اليقين وحق اليقين .
مقامات علوم اليقين
أولاً-مقام التوبة:
التوبة : الرجوع إلى الله والندم على ما فات .
مشاهدات التوبة:
إما للعامة وإما للخاصة
توبة العامة:
قال الله تعالى في توبة العامة : ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ معنى هذا الخطاب ارجعوا إلى الله تعالى من حظوظ أنفسكم وهواها ومن وقوفكم مع شهواتكم لتظفروا بالفلاح وهو نيل بغيتكم يوم القيامة وليحصل لكم البقاء ببقاء الله عز وجل في نعيم لا زوال له وبهجة لا نفاد لها ولتفوزوا وتسعدوا بدخول الجنة وتنجوا من النار ، وهذا هو فلاح العامة .
توبة الخاصة :
عن مشاهدات الخصوص فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ فنصوحاً يعني : خالصة من النصح وهو الاستقامة على الطاعة من غير زوغان إلى معصية مجاهداً نفسه أن يخطر على قلبه خاطر العودة إلى ذنب وهو قادر عليه ، وأن يترك عمل الذنوب والمعاصي لأجل الله تعالى خالصاً لوجهه الكريم كما فعلها خالصاً لحظه وهواه ، فإذا أتى الله بقلب سليم من الهوى وعمل خالص مستقيم على السنة فهو الذي ختم الله له بحسن الخاتمة وأدركته الحسنى السابقة و هذا العمل هو التوبة النصوح وعامله هو العبد التواب المتطهر الحبيب الذي سبقت له من الله الحسنى وتداركه نعمة من ربه فرحمه بها من أدران السوءى و هو وصف من قصده سبحانه بخطابه في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: ( التائب حبيب الله ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ).
وسئل الحسن عن التوبة النصوح فقال : هي ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، و إضمار أن لا يعود إليه . وقال محمد أبو سهل رحمه الله : ليس من الأشياء أوجب على هذا الخلق من التوبة ولا عقوبة أشد عليهم من فقد علم التوبة ، وقد جهل الناس علم التوبة ،وقال : من يقول إن التوبة ليست بفرض فهو كافر، ومن رضي بقوله فهو كافر ، وقال : التائب الذي يتوب من غفلته في الطاعات في كل طرفة ونفس.
وقد جعل علي كرم الله وجهه : ترك التوبة مقاما في العمى ، وقرنه باتباع الظن ونسيان الذكر فقال في الحديث الطويل : ومن عمي نسى الذكر واتبع الظن وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة
فرض التوبة الذى لابد للتائي منه:
ففرض التوبة الذى لابد للتائب منه، ولا يكون محقاً صادقاً إلا به الإقرار بالذنب والاعتراف بالظلم ، ومقت النفس على الهوى ، وحل الإصرار الذي كان عقده على أعمال السيئات ، و إطابة الغذاء بقدر ما يقدر عليه لأن الطعمة أساس الصالحين ، ثم الندم على ما فات من الجنايات ، وحقيقة الندم إن كان حقاً ـ إذ لكل حق حقيقة ـ أن لا يعود إلى مثل ما وقع الندم عليه ، ثم اعتقاد الاستقامة على الأمر ومجانبة النهي ، وحقيقة الاستقامة أن لا يقابل ما استقبل من عمره بمثل ما وقع الاعوجاج به ، وأن يتبع سبيل من أناب إلى الله وأن لا يصاحب جاهلاً فيرديه ، ثم الاشتغال بإصلاح ما أفسد في أيام بطالته ليكون من المصلحين الذين تابوا وأصلحوا ما أفسدوا فإن الله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين كما لا يضيع أجر المحسنين ، ثم الاستبدال بالصالحات من السيئات والصالحات من الحسنات ليكون ممن تبدل سيئاته حسنات لتحققه بالتوبة وحسن الإنابة لأن التبديل يكون في الدنيا يبدل بالأعمال السوءى أعمالاً حسنى بدليل قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الرعد ١١ فإذا غير ما بهم من سيء حسناً بدل سيئاتهم حسنات ، ثم الندم و دوام الحزن.
وحقيقة الندم والحزن على الفوت أن لا يفرط ولا ينسى في وقت دركه ولا يرجع ولا ينثني في حيز استبداله فيفوت نفسه وقتاً ثانياً إذا كان يعمل في ترك ما فات ولا يفوت ماأدرك فى حال يقظته فتكون يقظته شبيهاً بما مضى من غفلته ، إذ لا يدرك الفوت بالفوت ولا النعيم بالنعيم ، ليكون كما وصف الله تعالى : ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ التوبة ١٠٢ قيل الاعتراف الندم.
وقال أبو سليمان الداراني : لو لم يبك العاقل فيما بقى من عمره إلا على فوات ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات ، فكيف بمن يستقبل ما بقى من عمره بمثل ما مضى من جهله . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر: ( فإذا عملت سيئة فاعمل بعدها حسنة ، السر بالسر والعلانية بالعلانية ) وفي وصية معاذ : أتبع السيئة الحسنة تمحها ، ولتدخل في الصالحين لقوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ العنكبوت ٩ . ثم المسارعة إلى الخيرات إذا قدر عليها ليدرك بها ما ضيع و فات ليكون من الصالحين . وفي هـذا المقام يصلح لمولاه فيحفظه ويتولاه كما قال تعالى : ﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ الاعراف ١٩٦ .
وجمل ما على العبد في التوبة وما تعلق بها عشر خصال ، أولها : فرض عليه أن لا يعصي الله تعالى . الثانية : إذا ابتلي بمعصية لا يصر عليها . الخصلة الثالثة : التوبة إلى الله تعالى منها ، الرابعة : الندم على ما فرط منه . الخامسة : عقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت . السادسة : خوف العقوبة . السابعة رجاء المغفرة . والثامنة : الاعتراف بالذنب . والتاسعة : اعتقاد أن الله تعالى قدر ذلك عليه وأنه عدل منه . والعاشرة: المتابعة بالعمل الصالح ليعمل في الكفارات لقوله : ( و أتبع السيئة الحسنة تمحها ).
وفي جميع هذه الخصال جمل آثار عن الصحابة و التابعين يكثر ذكرها .
التوبة من قريب:
وقيل في معنى قوله تعالى : ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ المنافقون ١٠
قيل: الوقت القريب أن يقول العبد عند كشف الغطاء : يا ملك الموت أخرني يوماً أعبد فيه ربي و أعتب فيه ذنبي و أتزود صالحاً لنفسي ، فيقول : فنيت الأيام فلا يوم ، فيقول : أخرني ساعة ، فيقول : فنيت الساعات فلا ساعة ، قال : فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة ويحجب عنه وتنقطع الأعمال وتذهب الأوقات وتتصاعد الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء فيحتد بصره ، فإذا كان في آخر نفس زهقت نفسه فيدركه ما سبق لها من السعادة فتخرج روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة أو يدركها ما سبق لها من الشقوة فتخرج روحه على الشك فهذا الذي قال الله عز وجل : ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾ النساء ١٨ فهذا سوء الخاتمة أعاذنا الله منه ، وقيل : هذا هو المنافق ، وقيل : المدمن على المعاصي المصر عليها . وقد قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ﴾ النساء ١٧ قيل : قبل الموت و قبل ظهور الآيات الآخرة ، وقبل الغرغرة أي : تغرغر النفس في الحلقوم ، لأنه تعالى قد حكم أن التوبة بعد ظهور أعلام الآخرة لا تقبل.
ومنه قوله تعالى : ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ قيل : ( لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ) يعني من قبل معاينة الآيات ، (أو كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) الأنعام ١٥٨.
قيل : التوبة هي كسب الإيمان وأصول الخيرات وقيل : الأعمال الصالحة هي مزيد الإيمان وعلامة الإيقان ، وقد قيل : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ) النساء ١٧ أي: عن قريب عهد بالخطيئة لا يتمادى فيها ولا يتباعد عن التوبة ، وتوبته من قريب : أن يعقب الذنب عملاً صالحاً ولا يردفه بذنب آخر وأن يخرج من السيئة إلى الحسنة ولا يدخل في سيئة أخرى .
وقال بعض العارفين : إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه ، يوجده ذلك بإلهام يلهمه أحدهما ، إذا ولد وخرج من بطن أمه يقول له : عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك . وسر عند خروج روحه يقول : عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية فألقاك بالوفاء والجزاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة و العقاب . وفي خبر عن ابن عباس ( من ضيع فرائض الله عز وجل خرج من أمانة الله ) ، وعند التوبة النصوح تكفير السيئات ودخول الجنات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق