الأربعاء، 6 أكتوبر 2021

الإقبال والقبول




 الإقبال والقبول

العوالم كلها قائمة بقيومية الحق، والشئون الكائنة هى صورة حقائق المشيئة، ومعانى تخصيص الإرادة، وأسرار حيطة العلم، فما من كائن فى الوجود إلا وقد أحاط به العلم، وخصصته الإرادة، ونجزته القدرة، وصدر عن المشيئة. ونسب القرب والبعد والرضا والغضب والهداية والضلالة؛ إنما هى بالنسبة لك لا بالنسبة للحق جلت قدرته، فهى متفاوته فى عينك لتأثرك باختلاف تلك المعانى، وهو تعالى منزه عن التأثير والتأثر علىّ أن يكون فى كونه ما لا يريد، أو يحدث فيه ما لا يشاء، بل الكل بمراده ومشيئته كائن، وعن حضرة علمه صادر، أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عدداً.
وإذا تقرر هذا فما أقامك إقامة؛ أو عاملك معاملة؛ أو واجهك؛ أو قربك إليه أو أدناك منه؛ إلا وقد قام كل ذلك بقيوميته، وكان بمحض مشيئته، وهو سبحانه يقرب العبد لقربه سبحانه منه، ويقيمه مقام محبوب محب لحبه، ويلهمه الدعاء لأنه دعاه، ويوفقه لما يحب لأنه أحبه، ويكاشفه بجمالاته لأنه كشف عنه حجابه، ومنحه عيون فضله. ويبعد المبعود لأنه بعد عنه، ويقيمه فيما يكره لأنه كرهه، ويحرمه من مشاهدة جماله لأنه احتجب عنه.
وهو هو الله سبحانه وتعالى، الرضا صفة من صفاته، والغضب صفة من صفاته ، وهو هو سبحانه وتعالى فى حالة الرضا هو هو بعينه فى حالة الغضب وهو هو سبحانه فى حالة القرب ممن يحبه؛ كهو سبحانه وتعالى فى حالة البعد ممن كره. إلا أن معانى الرضا من القرب والحب والهداية والتوفيق والرأفة والحنانة؛ معان بها نعيم المخصوص بها، وسعادة المطلوب لها. ومعانى الغضب من البعد والضلالة والذل والقهر والجبروت والنقمة؛ معان توجب الشقاء والآلام لمن تعلقت به، حكمة خفيت. وهى هى الأسماء والصفات، فالمضل هو عين الهادى، والقاهر هو عين اللطيف الرءوف. فهو سبحانه على ما هو عليه، وللأسماء مقتضيات (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) سورة هود ١٠٥
فمظاهر فأهل الهداية جملهم بأخلاقه، وأسعدهم بوداده، وأشهدهم على جماله، وواجههم بجميل وجهه. وأهل الضلالة عاملهم بقهره، وواجههم بانتقامه، ومدهم بجبروته، وتنزل لهم بشديد البطش القوى المذل المضل القهار المنتقم، فكان ظهوره بمقتضيات تلك الأسماء بالنسبة لذاته الأحدية؛ هو عين ظهوره بمقتضيات الأسماء الجمالية. وكما أن الاسم الرءوف الرحيم المنعم المتفضل له بهجة بظهور مقتضياته؛ فكذلك الأسماء الجلالية. وهذا هو الكمال.
فإذا قابلك بجماله فقابله بجمالك. وجمالك الذل والخشوع والفقر والمسكنة والاضطرار والجهل والتوبة والندم والإنابة، حتى يكون فى عينك جميلاً، وتكون فى عينه جميلا، فيرى الجميل الجميل، لأن الجمال المناسب لك غير الجمال المناسب له. فهو سبحانه وتعالى يحب أن يرى منك صفاته التى بها أنت عبد له، كما أنك تحب أن ترى منه المعانى التى بها هو رب لك. وإذا تنزل لك وهو الغنى عنك العلىّ الكبير؛ فتنزل أنت له بالأولى من آدميتك إلى رتبة منىّ ومن رتبة منىّ إلى رتبة طين ومن رتبة طين إلي رتبة عدم، فإنه إذا تجمل لك وقابلك فى أى رتبة من رتب جمالك؛ وطور من أطوارك؛ جملك بجمال فيها بقدرها، فإذا قابلته بآدميتك؛ أمدك بما به تأكل وتشرب وتتلذذ، مما هو لازم للآدمية. وإذا تنزلت له إلى طور المنى أبدلك بسمعك سمعاً، وببصرك بصراً، وبذوقك ذوقاً، وبلمسك لمساً، وأبدل جميع معانيك. وإذا تنزلت إلى طور الطين؛ صورك بيده، ونفخ فيك من روح قدسه، وأسجد لك ملائكته. وإذا تنزلت إلى طور العدم جملك بكل أسمائه، وجعلك أفقاًً لشروق شمس صفاته، وإلا فعجباً يتنزل لك وهو الغنى، وأنت لا تتنزل لجنابه العلى، وأنت الفقير‍‍‍‍‍‍‍. ويتقرب منك وهو العلى، ولا تتقرب منه وأنت الضعيف. على ذلك فالشكر لازمك، والحمد عبادتك، ويقظة القلب مرادك، وشغل فكرك سراجك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أقبل عليهم، وأقبل بهم عليه، وقابلهم وأقامهم فقابلوه، وأن يزكى نفوسنا، ويجمل أخلاقنا، ويحفظنا مما يشغلنا عنه سبحانه، ويلهمنا التوبة عند كل صغيرة وكبيرة، ويحصننا من الفتن والحظوظ والأهواء، إنه مجيب الدعاء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق