قراءة بهدوء(١):
الجماعة السلفية تتجه تصاعديا نحو الأشاعرة والتصوف إلا القليل:
كنتُ أقول منذ سنوات، ولا أزال أقول اليوم، إنّ كثيرًا من الإخوة السلفيين سيتراجعون لاشعوريا عن عدد كبير من المسائل التي تشددوا فيها طويلًا، وأنّ مسارهم العملي والفكري سيقودهم – شاءوا أم أبوا – إلى الالتحاق بإخوانهم الأشاعرة في باب الاعتقاد، وبإخوانهم الصوفية في باب السلوك والتزكية.
وسيأتي يوم – وهو قريب – نرى فيه من كان يُنكر بالأمس:
التبرك بالصالحين
إحياء الموالد، وعلى رأسها مولد النبي ﷺ
والاحتفاء بالمناسبات الدينية ذات الرمزية الهوياتية
نراه اليوم أو غدًا يمارسها أو يبررها أو يسكت عنها، لا عن قناعة علمية راسخة، بل نتيجة تحولات كبرى في المنهج والواقع.
أولًا: في جانب الاعتقاد
سيعود كثير منهم – كما هو ظاهر اليوم – إلى التوافق مع الأشاعرة في الجملة؛ لأن هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة عبر القرون، وهو الاعتقاد الذي استقر عليه جمهور الأمة، ودوّنته كتب العقيدة المعتمدة، وسار عليه كبار أئمة المذاهب، وفي مقدمتهم أئمة الحنابلة المتقدمون.
وسيكتشفون – بعد طول صراع – أن ما زُعم أنه “منهج السلف الخالص” لم يكن كذلك، وأن الكتاب والسنة لا يختزلان في قراءة واحدة متأخرة، ولا في خطاب إقصائي يصادم تاريخ الأمة وعلماءها.
ثانيًا: في جانب السلوك والتصوف
سيعود كثير منهم – عمليًا لا تنظيرًا – إلى معاني التزكية والسلوك الصوفي، وإن لم يسمّوها بأسمائها، لأن:
الروح لا تُغذّى بالجدل فقط
والدين لا يقوم على الفقه المجرد بلا إحسان
ولا تستقيم العبادة بلا بعد قلبي وسلوكي
وسيجدون أنفسهم يلتقون مع الصوفية في الجوهر، بعد أن كانوا يناصبونهم العداء في اللفظ والشعار.
ثالثًا: في جانب الفقه
أما في الفقه، فسيعود معظمهم إلى المذهب الحنبلي؛ لأنه:
مذهب أصيل من مذاهب أهل السنة والجماعة
وركن من أركان هويتهم التاريخية
وليس مجرد اختيارات فقهية معزولة عن السياق العلمي والتراثي
وسيُعاد الاعتبار للمذهب بعد أن جرى تهميشه لصالح فتاوى انتقائية تُنسب زورًا إلى “الدليل”.
لماذا يحدث هذا التحول؟
لأن المنهج الذي رفع شعار الاستقلالية عن السلطة، شاركها – دون وعي – في رسم المسارات الكبرى للفكر والفتوى.
وحين يتحول الحاكم، يتحول الخطاب الديني معه، لا عن اجتهاد علمي حر، بل تبعًا لمسار عام يُفرض من أعلى.
ولهذا رأينا – ونرى – كيف:
ما كان بالأمس حرامًا صار اليوم حلالًا
وما كان ممنوعًا صار جائزًا
وما كان بدعة صار “خلافًا معتبرًا”
وذلك في قضايا:
سياسية
فكرية
فقهية
سلوكية
ملاحظة مهمة
لسنا هنا نتحدث عن جماعات العنف أو المواجهة المسلحة، فهؤلاء خارج هذا السياق، وإنما الحديث عن التيار السلفي الدعوي العام الذي ظل لعقود يحدد المواقف باسم “المنهج”، ثم وجد نفسه اليوم أمام واقع جديد يعيد تشكيل الفتاوى والاصطفافات.
الخلاصة:
إنّ ما حذرنا منه منذ سنوات يتحقق اليوم أمام أعيننا:
تراجع في الفتاوى
تبدل في الخطاب
مرونة لم تكن مقبولة بالأمس
وعودة تدريجية إلى هوية أهل السنة الجامعة بعد صراع طويل معها
وسيأتي وقت يندم فيه كثيرون على سنوات الخصومة والصدام مع بقية مدارس الأمة في العقيدة والسلوك والفقه، حين يدركون أن الخلاف لم يكن في الدين، بل في القراءة الضيقة له.
د. محمد الأحمدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق