هل اخترع المتكلمون أدلة عقلية خارج القرآن؟
(توضيح علمي في مواجهة خلط شائع)
يُروج البعض، كما يفعل الأخ عبدالله رشدي في الصورة أدناه، أن هناك اختلافا بين الأدلة العقلية التي اعتمدها متكلمو أهل السنة في إثبات وجود الله ووحدانيته، وبين الأدلة القرآنية، وكأن المتكلمين جاؤوا بعقل غريب عن الوحي، أو اخترعوا براهين لا أصل لها في كتاب الله.
وهذا القول لا يخرج عن أحد أمرين: إما جهل بحقيقة أدلة المتكلمين، أو تدليس في تصويرها. فهل أنت حقيقة خريج الأزهر!!
الحقيقة التي لا خلاف فيها عند المحققين التي ينبغي أن لا تخفى على خريج الأزهر أن الأدلة العقلية الكلامية مستمدة من القرآن الكريم نفسه، غير أن القرآن ساقها على جهة الإجمال، بينما تولّى المتكلمون تفصيلها وصياغتها في صورة براهين عقلية تواجه اعتراضات المخالفين.
فدليل الحدوث الذي اعتمده متكلمو أهل السنة، بل وحتى دليل الإمكان الذي اشتهر عند الفلاسفة، قد نبه الإمام فخر الدين الرازي إلى أن أصلهما مستمدة من محاججة إبراهيم عليه السلام لقومه بآيات الأفول؛ إذ إن الأفول دليل التغير والتغير دليل الحدوث، والحدوث ينافي الألوهية، وهو لب برهان الحدوث.
وأما دليل الانتظام أو العناية، وهو الاستدلال بإحكام الكون وانتظامه على وجود منظم حكيم، فإن القرآن الكريم يكاد يفيض به في عشرات الآيات التي تلفت النظر إلى النظام، والغاية، والتقدير، والتسوية، والتدبير.
فهل بعد هذا يقال إن المتكلمين جاؤوا بدليل غريب عن القرآن؟
بل إن الإمام الغزالي، بعد تبحره في علم المنطق، لم يجعل المنطق سلطانا فوق الوحي، وإنما استخرج صور القياس العقلي من نصوص الكتاب والسنة، كما بسط ذلك بنفسه في كتابه القسطاس المستقيم، حيث بيّن أن أشكال الاستدلال المنطقي حاضرة في خطاب القرآن لمن عقل.
وحتى ابن تيمية، مع شدّة نقده للمنطق الصوري الأرسطي، لم يلغِ العقل ولا الاستدلال، وإنما استبدل منطقا بمنطق، فانتقد المنطق الكلي التجريدي، واعتمد المنطق الرواقي الذي هو منهج حسّي تجريبي ينسجم مع تصوره المعرفي وفلسفته المادية. فالنزاع هنا ليس بين عقل ونقل، بل بين مناهج عقلية مختلفة.
بل أكثر من ذلك، فإن كثيرا من الأدلة التي استعملها الفلاسفة المتألهون في إثبات وجود الله، والرد على الدهريين والملاحدة، تجد أصولها ومعانيها حاضرة في القرآن الكريم لمن تدبّر، وتجدها بجلاء في كتاب قصة الإيمان للشيخ نديم الجسر رحمه الله.
ومن هنا يتبين أن القول بوجود اختلاف بين الأدلة العقلية الكلامية والأدلة القرآنية قول باطل؛ إذ إن تلك الأدلة لا تزاحمه، بل تشرحه، وتدعمه، وتدفع الشبه عنه.
ومن الطبيعي أن لا يشتمل القرآن على كل التفاصيل الجدلية والفلسفية التي أُثيرت لاحقا عبر العصور؛ لأنه كتاب هداية لا كتاب مناظرات، لكنه أرشد إلى استعمال العقل، وضرب الأمثلة، وأقام الحجج، وفتح الباب لأهل العلم أن يدافعوا عن العقيدة بالحكمة أي بالبراهين العقلية مع الحكماء، وبالجدال بالتي هي أحسن بإيراد الحجج ودفع الشبه مع المجادلين.
فمن فهم هذا، علم أن علم الكلام السني امتداد للعقل القرآني، وليس مزاحما له كما يروّج المبغضون.
وليس بعد الحق إلا الضلال.
#أخوكم عبدالناصر حدارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق