أما بعد: فيا عباد الله، إن المسلمين اليوم فريقان اثنان: فريق استقرت حقائق الإسلام وعقائدُ الإيمان في عقله، ثم أصبحت حبيسة فيه، وبقي القلب مرتعاً للشهوات والأهواء وحب المال والمشتهيات الدنيوية المختلفة. وفريق آخر استقرت حقائق الإيمان وعقائد الإيمان في عقله، ثم إنها تحولت إلى عاطفة في قلبه فهيمنت على قلبه مخافة الله عز وجل ومحبة الباري سبحانه وتعالى، وهيمنت على مشاعره عظمة الله سبحانه وتعالى ومهابته. فأما هذا الفريق الثاني فيسير في فجاج الأرض ويتبع السلوك مبنياً على الاحتياط لدينه، وعلى الاحتياطات لما هو مقبل عليه، ولما هو مُنتهٍ إليه من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإذا وَجَد أن هنالك سبيلاً يوصله إلى مرضاة الله عز وجل، ووجد أن ضمانة هذا السبيل ليست مؤكدة، وإنما هي مبنية على خير أو حديث ضعيف احتاط لنفسه، ودفعته محبة الله عز وجل ومخافته ومشاعر تعظيمه لله إلى أن يحتاط، يتبع هذا السبيل وإن كانت جدواه تساوي عشرة في المئة، لأن المحب محتاط، ولأن الخائف يحتاط لنفسه دائماً سواء في شؤون الدنيا أو في شؤون الدين.
وعلى سبيل المثال هنالك أحاديث كثيرة تتحدث عن فضل ليلة النصف من شعبان، بل هنالك أحاديث تتحدث عن فضل هذا الشهر كله بما فيها ليلة النصف، فقد صح من حديث عائشة رضي الله عنها فيما رواه الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يُظَن أنه لا يُفطر، ويُفطر حتى يُظَن أنه لا يصوم. ولم يُرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياماً منه في هذا الشهر - أي في شهر شعبان -. وقد روى البيهقي من حديث عائشة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، وإن الله يعتق فيها من النار بقدر شعر غنم بني كلب)) أي يعتق فيهات من النار بقدر شعر غنم هذه القبيلة - أي يعتق عدداً لا يحصى -. وروى البيهقي أيضاً من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة فصلى وسجد فأطال السجود. قالت عائشة: فقمت وخشيت أنه قد قُبض، فحركت إصبعه فتحرك، فعدت وأنا أسمعه يقول: ((اللهم إني أعوذ بعافيتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)). فلما فرغ من صلاته قال لي: ((أتعلمين أي ليلة هذه يا عائشة؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((إنها ليلة النصف من شعبان، يتجلى الله عز وجل فيها على عباده، فيغفر للمستغفرين، ويدع أهل الحقد والشحناء كما هم))، ويقول البيهقي هذا حديث مرسل جيد.
وأعود فأقول: أما الذين يحتاطون لدينهم، الذين انتقلت حقائق الإسلام إيماناً من عقولهم، فهيمنت عاطفة على أفئدتهم ووجدانهم تمثلت هذه العاطفة بمحبة لله، ومخافة منه، وتعظيم لحرماته، فلا شك أن هذا الفريق يحتاط لنفسه وإذا وقع على هذا الحديث يقول: فلأفرض أنه ضعيف - ومعنى كونه ضعيفاً أن احتمال صحته وارد. ولكن احتمال الصحة أضعف من احتمال عدم الصحة. فإذا كانت صحة هذا الحديث بنسبة عشرين بالمئة إذن فلأحتط لنفسي، ولأتقرب إلى الله سبحانه وتعالى في هذه الليلة، ولأصم بياض هذا اليوم - يوم الخامس عشر من شعبان - محتاطاً لنفسي. هكذا يقول المنطق - لكن لمن؟ لمن كان قلبه وعاء لمحبة الله، لتعظيم الله، لمخافة الله عز وجل. أما من كان فؤاده مرتعاً للدنيا وأهوائها وللمال وما إلى ذلك فهو يقول: أنا أشم من هذا الحديث رائحة الضعف، ويذهب يناقش العاملين به، إنه حديث ضعيف. يقولها في المجالس المختلفة المتنوعة، وهو يُري الناس من هذا الكلام قوة عضلاته، أي يُري الناس من هذا الكلام قدرته العلمية على البحث والنقاش وما إلى ذلك. فهل يتفق المنطق مع سير هذا الإنسان إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى؟ عندما ننظر إلى هذا الإنسان وهو يتعامل مع دنياه التي تعلق بها، يتعامل مع تجارته التي يغدو ويروح وهو يحلم بنتائج الربح الذي يحلم من ورائها، هكذا يتصور. إذا قيل له عن صفقة تجارية: إن هو دخل في غمارها كان بالإمكان أن يربح ونسبة الربح لا تزيد على عشرين في المئة، يركض ويغامر ويحقق هذا الذي سمعه وقيل له. فإن قيل له: فإنك لا تضمن الربح. يقول: ينبغي أن أحتاط لنفسي. إنه الحب، منطق الحب يا عباد الله. لماذا يغامر المقامر وهو يعلم أن ربحه لا أقول مضمون بل متوهم؟ ولكن تعلقه بالمال وهيمنة الربح على فكره وعاطفته ووجداته يجعله يغامر على الرغم من أنه قد وجد النتائج السيئة، على الرغم من أنه قد ابتلي بعصي الخسران، ولكنه مع ذلك يعتمد على الاحتمال الواهي. وهكذا المحب يغامر - أيها الإخوة - معتمداً على احتمال ضعيف، سواء كان ذلك متعلقاً بأمور الدنيا أو بأمور الآخرة.
ومن هنا أعود فأقول: عندما نتحدث في مثل هذه الأيام عن فضيلة هذا الشهر، وعن فضيلة ليلة النصف من شعبان، وعن فضيلة صوم رمضان مذكراً الناس بالحديث الآخر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً ((إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها)). أنظرُ فأجد المسلمين الذين يصغون إلى هذا الكلام فريقين: فريق هيمنت حقائق الإسلام عاطفة على أفئدتهم بعد أن استقرت يقيناً في عقولهم هذه العاطفة في حب عارم لله، في مخافة من سخط الله عز وجل، في تعظيم لحرمات الله عز وجل، ماذا يصنع هؤلاء الناس عندما يسمع أحدهم إلى هذه الأحاديث الضعيفة؟ يحتاط ويقول: كم أنا محتاج إلى أن أتعرض لنفحات الله، كم أنا محتاج إلى أن أتعرض لرحمات الله سبحانه وتعالى، لعل الله يعتقني في هذا الشهر المبارك، لعل الله يعتقني في هذه الليلة معتمداً على هذا الحديث الذي بلغ احتمال صحته عشرين أو عشرة بالمئة، يتعرض لنفحات الله، والله يراه، والله يراقب تَعَرُّضَه لرحمة الله عز وجل، ألا تتصورون أن الله يكرمه بهذا التوجه حتى ولو كان هذا الحديث غير واقع؟ ألا تتصورون أن الإنسان الذي يعتمد على آمال ضعيفة لرحمة الله سبحانه وتعالى ولكن هذه الآمال تحدو به إلى أن ينفذ مضموناتها؟ ألا تتصورون أن الله يُقَدِّر ذلك فيه؟ هذه هي حال من هيمنت حقائق الإسلام على كيانه عاطفة ووجداناً، بعد أن استقرت في عقله حقائق علمية ثابتة. أما ذاك الذي يتعامل مع الإسلام من منطلق التجمل بألفاظه، من منطلق التجمل بعلومه، من منطلق المباهاة بما يحفظه من أحاديث وأسانيد، أما هذا الذي يتنطع في المجالس، ويمضغ ما قد حفظه من كلام عن هذا الحديث وذاك، فهو لا يعلم للاحتياط معنى، لا يعلم للاحتياط للدين معنى بشكل من الأشكال. إذن كيف يمكن لهذا الإنسان أن يضمن لنفسه سيراً إلى الله سبحانه وتعالى؟
كثيرة هي الأحاديث الضعيفة التي تحدو بالإنسان إلى الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الإنسان الذي يتشدق بكلمات العلم لا يلقي بالاً لهذه الأحاديث، إذن هو لا يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . كثيرة هي الأحاديث التي تتحدث عن أنواع الأذكار الصباحية والمسائية - وابن السني - ذكر الكثير والكثير من ذلك.
الإنسان الذي دأبه أن يتمشدق بكلمات العلم دأبه أن يتماهى بمحفوظاته العلمية، أما فؤاده فمليء بالشهوات والأهواء والأحلام الدنيوية والمال وما إلى ذلك، هذا الإنسان لا يلقي بالاً لذكر الله سبحانه وتعالى، لأن معظم أحاديثه ضعيفة، معظم أحاديث الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفة، وإذا كان الأمر كذلك فلأُرح نفسي من هذه التبعات كلها. قولوا لهذا الإنسان: أنت عندما تتعامل مع دنياك، تتعامل معها على هذا المنوال؟ عندما تبحث عن المزيد والمزيد والمزيد من رزقك من خلال تجارة من خلال زراعة من خلال صناعة لا تقدم على ذلك العمل إلا إذا ضمنت نتائجه مئة بالمئة؟ لا تُقْبِل على زراعة أرضك إلا إذا علمت يقيناً أنك ستحصد وستستثمر نتائج زراعتك؟ من قال هذا؟ نحن نعلم أنك تسعى فتحتاط؛ تحتاط في زراعة أرضك وأنت تعلم النتائج، تحتاط في أعمالك التجارية وأنت تعلم النتائج. بل النتائج ضعيفة. تحتاط في كل الأمور الدنيوية لماذا؟ لأن قلبك يعشقها، ولأن الحب متجه إليها. هذه الحقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نتبيها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يرقى إلى مرضاة الله بجناحين اثنين؛ جناح العقل المصدق، وجناح الحب المهيمن. أولهما قراره في العقل، ثانيهما قراره في القلب عندئذ نحتاط لديننا، وعندئذ نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بكل الاحتمالات الممكنة مهما ضعفت، والله سبحانه وتعالى لن يضيّع مغامراتنا وجهودنا في سبيل مرضاته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
منقول من منتدى مصطفى حسنى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق