الثلاثاء، 11 يونيو 2013

حسم الجدل مع من ينسبون إلى الله المكان أو الجهة


 [1] كيف تحسم الجدل بصحيفة واحدة
مع من ينسبون إلى الله المكان أو الجهة؟

جاء في كتاب المغني أو الغنية في أصول الدين للإمام عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري، أبي سعد المتولي (المتوفى: 478هـ) (ص: 13):
" مسألة: البارئ تعالى قائم بنفسه....والغرض بهذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافاً للكرامية والحشوية والمشبهة الذين قالوا: إن الله تعالى في جهة فوق، وأطلق بعضهم القول: " لأنه جالس على العرش مستقر عليه " تعالى الله عن قولهم.....فإن استدلوا بظواهر الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ....

....... الجواب معهم أن نعارضهم بآيات تخالف ظواهرها ظواهر هذه الآيات، وذلك مثل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}وموجب الآيتين حلوله في كل مكان.
قال تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} ومقتضى ظاهرها إنه محيط بالعلم فإن أعرضوا عن التأويل هذه الآيات مع الإيمان بظواهرها، والاعتقاد بأنه لا يكون في كل مكان، وإنه غير محيط بالعالم، أعرضنا نحن عن التأويل،وصرنا إلى الإيمان بما ورد مع الاعتقاد بأن الحق تعالى مُنَزَّه عن المكان.
وإن صاروا إلى التأويل وقالوا: المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} بالعلم لا بالذات وكذلك قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} يعني بالعلم، صرنا إلى التأويل.

قلنا: المراد بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} القدرة.
فإن قيل: إذا حملتم ذلك على القدرة لم يكن لتخصيص العرش فائدة.
قلنا: إن العرش أعظم المخلوقات فإذا قدر عليه عُلِمَ من طريق التنبيه إنه قادر على ما دونه.
كما أن مثل هذا يلزمهم فيما قالوا، فإن الله تعالى عالم بكل مخلوق غير بني آدم.
فإذا حملوا على العلم لم يكن لتخصيص بني آدم فائدة.
فإن قالوا: خُصَّ بني آدم تشريفاً لهم.
وخُصَّ العرش بذلك تشريفاًَ له.

فإن قيل: الاستواء إذا كان بمعنى القهر والغلبة يقتضي منازعة سابقة، وذلك محال في وصفه.
قلنا: والاستواء بمعنى الاستقرار يقتضي سَبْقَ اضطرار واعوجاج، وذلك محال في وصفه.اهـ

[2]
قال وليد: كلام الإمام المتولي الذي نقلته في الحالة السابقة، لخّصه وأشار إلى فحواه الحافظُ ابن حجر في فتح الباري حين قال عند شرحه لحديث "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته " (1/ 508): "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك والله اعلم "
وكنت لما قرأت هذه العبارة للحافظ ابن حجر قلت في نفسي: لله در الحافظ! كيف اختصر في هذه العبارة حُجج أصحاب الجهة والرد عليها في عبارة واحدة، وكنت أتطلع إلى من يبسط هذه العبارة بالشرح حتى وجدت الإمام المتولي بسطها كما في النص أعلاه، والواقع أن هذه العبارة متينة لا يستطيع أهل الجهة نقضها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
ولقد حاول الشيخ ابن باز في تعليقه على هذه العبارة أن يرُد على ابن حجر فقال ما محصله: إن نصوص الاستواء قطعية محكمة، وحديث القبلة محتمل فيُفسَّر بما يوافق الاستواء. 
قال وليد: والرد على هذا الادعاء يكون بعكسه، فنقول: بل آيات المعية وحديث القبلة محكمة قطعية، والاستواء وحديث الجارية محتمل فيفسر بما يوافق آيات المعية، وما هو جوابكم هو جوابنا، كما أشار إلى ذلك الحافظ ولم يتنبه المعلق عليه، وقد شرح هذا المتولي في كلامه السابق.
ثم جاء الشيخ البرّاك (1) فتعقب الحافظ، فذكر نقلا عن ابن تيمية ما محصله أن "مع" في آيات المعية لا تقتضي المماسة والمحاذاة.
قال وليد: وأيضا نحن نقول: إن الاستواء لا يقتضي العلو والاستقرار والمماسة الحسية، فتأويلكم للمعية ليس بأولى من تأويلنا للاستواء.
فإن قلتم: بل الاستواء يقتضي العلو أو الاستقرار، فكذلك نرد عليكم بالقول: والمعية أيضا تقتضي المماسة والمحاذاة، ونأتيكم على ذلك بشواهد أضعاف ما تأتون على نقيضه.
ثم ذَكر البرّاك جوابا عن حديث القبلة فقال نقلا عن ابن تيمية ما محصله أن كون الله على العرش بذاته حقيقة لا ينافي أن الله في قبلة المصلي حقيقة، وضرب لنا ابن تيمية مثلا بالشمس فقال: "فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قِبَل وجهه".مجموع الفتاوى 5 / 102 
قال وليد: وهذا الكلام فضلا عما فيه من تشبيه لله بالشمس، وفضلا عن عما فيه من مغالطة جغرافية وفلكية كما هو واضح، فإننا نحن أيضا يمكن أن نقول: كون الله معنا حقيقة لا ينافي أنه على العرش حقيقة، فهو معنا بذاته، وهو على العرش بذاته، وهو في السموات بذاته وهو في الأرض بذاته، كما سورة الأنعام الآية الثالثة، وهو في قبلة المصلي بذاته، وكل ذلك على الحقيقة.
أما أن تزعموا أنه على العرش بذاته، ومعنا بعلمه، فنعكس ونقول هو على العرش بقهره ومعنا بذاته
 (2).
فإن قلتم: هو قاهر لعباد وجميع خلقه فما فائدة تخصيص العرش بقهره، قلنا: هو أيضا عالم بمخلوقاته جميعها فما وجه تخصيص أن الله معنا بعلمه، وهذا أشار إليه المتولي أيضا.
والحاصل أن النصوص التي يُتوهم منها تحيّز الله أو حلوله في مكان دون آخر كالسماء أو العرش، أو حلوله في كل الأمكنة، كلها ظواهر ظنية الدلالة، ويجب أن تُعامل بنفس السوية؛ فإما أن تؤول الجميع، ويُنزه الله عن المكان لمحكم قوله تعالى: ليس كمثله شيء، وإما إن أبيتم التأويل، فعليكم أن تَحملوا الجميع على ظاهرها، وبالتالي بطل تخصيصكم للعرش مكانا لله، طالما يفيد ظاهر الآيات الأخرى خلاف ذلك.
أمّا أن تأخذوا ببعض هذه النصوص كآيات الاستواء ونحوها وتحملوها على ظاهرها وتزعمون أنها محكمة قطعية الدلالة، وتؤولون آيات المعية ونحوها، ثم تنكرون أنكم تأولتم وإنما فسرتم المعية ونحوها، فخصومكم لا يعجزون عن مثل ذلك، فيأخذون بآيات المعية على ظاهرها ويزعمون أنها محكمة ويؤولون الاستواء تحت اسم التفسير؛ وما هو جوابكم حينئذ هو جوابنا، والسلام.
د/ وليد الزبر 
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــ(1) طبعا نحن نقول هذا من باب الإلزام للخصم، وإلا فنحن نعتقد أن الله منزه عن أن يكون في مكان أو جهة أو حيز، بل هو سبحانه موجود بلا مكان، فهو مخالف للأجسام التي تفتقر إلى مكان يحويها، لأنه ليس كمثله شيء، فهو خالق المكان، فكيف يفتقر إليه؟!
(2) انظر: تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري (ص: 5)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق