الجمعة، 18 يوليو 2014

الإمام أبوالعزائم وجهاده ومقاومته للإستعمار

دوره في إحياء روح الجهاد ومقاومة الإستعمار

 تركزت أبحاث المؤرخين الإنجليز الذين أرخوا لاستعمار 
بريطانيا العظمي للسودان، ذلك الاستعمار الذي جَهِدَ غلاة 
الاستعماريين علي توطيد أركانه وتثبيت جذوره وتدعيم وجوده 
بنية إبقاء السودان تحت الحكم البريطاني لقرون طويلة حتى 
يستطيعوا أن يحكموا قبضتهم ويعززوا سيطرتهم علي القارة 
كلها:
علي أن أسباب فشل جهود طواغيت الاستعمار البريطاني في 
إطالة أمد استعمارهم للسودان ترجع كلها إلى مناهضة الإسلام 
لهم كدين تعمقت جذوره في أفئدة المؤمنين السودانيين فهبوا في 
انتفاضتين عارمتين جرفتا كل مخططات الإستعماريين فدمرتا
كل آمالهم في دوام إحتلالهم للسودان المسلم.
أما الانتفاضة الأولي : فكانت الحركة المهدية.
وأما الانتفاضة الثانية: فكانت الحركة العزمية.
ولقد أسهب هؤلاء المؤرخون، ومن بينهم جون سبنسر 
تريمنجهام في كتابه (الإسلام في السودان) علي المقارنة بين 
الحركتين: المهدية والعزمية، 
وأجمعوا علي أن الحركة العزمية كانت أعظم خطرًا وأقوي 
تأثيرًا لأنها قامت علي أفكار زرعها داعيتها الإمام المجدد السيد 
محمد ماضي أبو العزائم في عقول الصفوة المثقفة الممتازة من 
أبناء السودان، ودأب علي رعايتها وتنميتها حتى أثمرت وآتت 
أُكُلها وانتشرت بواسطة تلاميذه ومريديه بين كل أفراد الشعب 
السوداني وطوائفه، فتأسست علي مبادئه وأيديولوجيته الجمعيات 
الوطنية التحررية، وقامت صحف سياسية تلهب حماس الشعب 
للنضال من أجل حريته والدفاع عن كرامته.
وعندما تحدث المؤرخ الإنجليزي جون سبنسر تريمنجهام عن 
الحركة المهدية والعزمية قال: (.. أما العزمية فإنها أخذت طبيعة 
مؤسسها الأستاذ الذي مهنته التعليم والتثقيف فكان يتعامل بالفكر
 مع عقول رواد حلقاته وبث فيهم المباديء الإسلامية التحررية،
 وأحسن عرض الشريعة الإسلامية في محاضراته بأسلوب شيق 
رزين، ولذلك فإن رواد حلقاته يمكن تصنيفهم
 علي أنهم تلاميذ لا مريدون).
إن الإمام قد أبهر طلابه السودانيين بمحاضراته غزيرة العلم 
وذات الأسلوب الأدبي الشيق الجذاب فلازموه وفتح لهم بيته.
 لقد تركزت محاضراته علي أن الإسلام ليس فقه شرائع تعبدية، 
بل هو أيضًا سياسة شرعية، ومن أوليات هذه المباديء الشرعية 
أن لا يتولي أمور المسلمين إلا خليفة يرتضونه، وحرام عليهم
 أن يستكينوا لمستعمر كافر.
واتسعت دائرة رواد بيته حتى غدي كعبة للمثقفين السودانيين 
وذوي النوازع الوطنية والتحررية، ومن ثم نشأت في بيته حركة 
وطنية تحررية أدت إلى قيام أحزاب سياسية وصدور صحف 
تنادي بالاستقلال وطرد المستعمر.
سلط كتاب (تاريخ السودان الحديث) الأضواء علي حال المسلمين
 في الوقت الذي كان الإمام يعمل به في السودان وقبلها، وكذلك 
نظرة المستعمر إلى الإسلام، فقال: " اهتم البريطانيون بالإسلام 
اهتمامًا خاصًا نابعًا من إدراكهم لخطورته في المجتمع وفرق 
البريطانيون بين نوعين من الإسلام في السودان:
إسلام صوفي سموه الإسلام الشعبي
وإسلام سني سموه الإسلام التقليدي .
وحاربوا الإسلام الشعبي الذي يمثله الصوفية لأنهم السبب 
الأساسي في الثورة المهدية حيث تمكن حفنة من الصوفية من 
نفجير ثورة قوضت النظام التركي ، وعزي الإنجليز ذلك
 إلى قوة ونفوذ الصوفي أو الشيخ.
ومما ضاعف من تخوف الحكم البريطاني من الحركات الدينية
 أن القيادة البريطانية في السودان كانت في يد شخصيات ذات 
خلفية أمنية وتدريب أمني ، فالحاكم العام (رونالد ونجت)
 والمفتش العام (سلاطين) كانا في جهاز الإستخبارات، فكان أي 
تحرك ديني يوضع تحت المجهر الأمني ، وكانوا يتوهمون 
بهاجسهم الأمني أن المهدية يمكن أن تتكرر.
تعامل البريطانيون مع العلماء السنيين ليكونوا لهم عونًا في تحقيق الإستقرار، كما اتجهوا إلى الطرق الصوفية التي عارضت المهدية. وأصدرت الحكومة قرارًا بمنع الاجتماعات الخاصة بما في ذلك نشاط الطرق الصوفية، وكانت الحكومة البريطانية 
بالسودان كثيرًا ما تستدعي اللجنة للتحقيق في نشاط رجال 
الصوفية الذي يحمل تهديدًا للأمن واعتمدت علي تلك التحقيقات 
في اتخاذ خطواط قمعية.
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولي عام 1914م ودخول تركيا 
الحرب ضد بريطانيا وإعلانها الجهاد الإسلامي، استنجدت 
الحكومة بالعلماء وبعض الزعماء الدينيين فأعلنوا تأييدهم 
للحكومة وعارضوا دعوة السلطان العثماني وأرسلوا برقيات 
التأييد للحاكم العام ((ونجت)) والتي جمعت ونشرت في كتاب 
باسم ((سفر الولاء)). وعندما انتصرت بريطانيا في الحرب كان
 ضمن الوفد السوداني الذي ذهب إلى إنجلترا لتهنئة الملك 
مجموعة من العلماء والزعماء الدينيين".
من هذه المقدمة يتبين لنا الجو العام الذي أحاط بعودة الإمام إلى 
مصر نهائيًا. ومن ناحية أخري ، فقد كشف الإمام الغطاء عن 
العلماء بالدنيا والجهلاء بالآخرة وكذلك أدعياء التصوف، وهم 
الذين استمالهم الحكم البريطاني إليه لتنفيذ مآربه، وهم منسوبون
 إلى الصوفية والتصوف ظلمًا وزورًا.
قام الإمام في دروسه بتوعية المسلمين من شر هؤلاء، مبينًا أنهم 
يُمَوِّهُونَ علي العامة بأنهم الدعاة إلى الله الوارثون لأحوال 
الأقطاب وأنهم يمكنهم النفع والضر، ويلفتون المسلمين عن العمل 
الواجب عليهم شرعًا وعقلاً من العلم والعمل للدنيا، ومن هؤلاء 
من يعلن شرف انتسابه لأهل البيت.
بين أن من ينتسب لأهل بيت رسول الله ﴿ ص وآله﴾ ويخالف 
سنته فليس منه، وإنما هو دَعِيّ ينتسب إلى غير أبيه.
كشف الإمام الغطاء عن هؤلاء الأدعياء، لذا قاموا بالوشاية والكيد
 له عند الحكام الإنجليز وأوهموهم بأنه يعمل علي تحطيم نفوذ 
الأئمة الدينيين والذين يعتمد عليهم الإنجليز في قبول حكمهم لدي
 الأهإلى ، وبلغ بهم الأمر أن أتهموه بأنه يدعي المهدية وأنه 
سوف يظهر كمهدي يحمل الراية السوداء، كما جندوا بعض 
أتباعهم للعمل كجواسيس لدي الإنجليز لينقلوا ما يدور في 
مجالس ودروس الإمام.كان الإمام على الدوام يستنهض الهِمم 
ويثني بالخير دائماً على أبطال الإسلام وينشر بطولاتهم، حتى أنه عندما وقع الأمير 
عثمان أبو بكر دقنه (وهو أمير الشرق وقائد قوات المهدية بها)
 في الأسر بعد فتح السودان عام 1898م بالقرب من سواكن 
واقتيد مكبلا بالحديد من سواكن ومنها إلى سجن حلفا، جعل 
الناس يضحكون عليه شماتة واستهزاء، فانبرى لهم الإمام قائلا 
ومنبهاً (أتضحكون على مسلم يحارب أعداء دينه ووقع في 
الأسر؟!).وفي المدرسة الأميرية بسواكن أخذ الإمام يلقي على
 تلاميذه الدروس في عظمة الجهاد والمجاهدين، مبينا مآثر الأمير
 عثمان دقنه وما لـه من فضل في محاربته الإنجليز وأعوانهم، 
مما جعل التلاميذ يتأثرون بذلك وتنمو فيهم الروح الوطنية 
والغيرة على الإسلام. وأثمرت هذه النفثات المباركات على 
تلاميذه، ومن بينهم المؤرخ السوداني الشهير محمد صالح ضرار
 الذي دون تاريخ السودان عامة وتاريخ سواكن خاصة. وقد كتب
 هذا المؤرخ الكبير مفدمة كتابه "تاريخ سواكن والبحر الأحمر"
 قائلا : وفي أحد أيام الدراسة ألقى علينا أستاذنا السيد محمد 
ماضي أبو العزائم محاضرة كلها بطولة وثناء على الأمير عثمان
 أبو بكر دقنه، فتاقت نفسي منذ ذلك التاريخ للبحث عن حياته.
لقد أثمر وجود الإمام بسواكن في تكوين رجال حملوا مشعل 
الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فنشروا الطريق وأقاموا
 المساجد والزوايا وأحيوا موات القلوب وصححوا عقائدهم 
وجاهدوا في الله حق جهاده.
وكان البريطانيون مدركين لدور الدين في حياة السودانيين 
لاسيما وأن حكمهم في حقيقته إنما هو احتلال صليبي استعماري
 علي أنقاض دولة وطنية مسلمة. فقد كتب اللورد ملنر: (إن 
خضوع المسلم لحاكم مسيحي يعارض روح الإسلام نفسها)، 
وعبر أحد البريطانيين عن تخوفه من الحركات الدينية وإمكانية 
انفجارها في السودان حيث التطرف الديني كامن في عمق بسيط 
تحت السطح. وكان الحاكم العام البريطاني (ونجت) باشا أكثر 
وضوحًا وصراحة حين قال: ( يتعين علينا ألا نتراخي لحظة في 
احتياطاتنا ضد انتشار هذه الحركات، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك 
بإمكانياتنا المحدودة أن نسحقها بلا رحمة في بدايتها) .
بهذا الفهم تعامل البريطانيون مع كل من يمثل قيادة دينية شعبية 
قد تقوّي الرابطة الإسلامية وتبث روح الإسلام في النفوس كدين 
لا يفصل بين الدين والدولة، وبين الفرد والجماعة، وبين الدنيا 
والآخرة.
والإمام كان يبث بين طلبته وتلاميذه ومريديه روح التدين،
 ويقوّي ويعمّق الرابطة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية علي 
أساس أن الإسلام هو النسب وهو الوطن وهو الدين، ويحذ
الجميع من الوقوع في حبائل الاستعمار، ويبين مكايده وعمله 
علي استنـزاف ثروات وعقول المسلمين. لذا كان كثيرًا ما 
يصطدم بإدارة الكلية.
ولما اندلعت الحرب العالمية الأولي في العام 1914م، دخلت
 تركيا الحرب ضد الإنجليز، وتركيا تمثل دولة الخلافة الإسلامية
 والتي أعلنت الجهاد المقدس ودعت كل المسلمين لمناصرتها 
والوقوف بجانبها. وفي الجانب الآخر، دعا الحاكم البريطاني في 
السودان الموظفين والأهإلى للوقوف مع بريطانيا مؤكدين أن 
البريطانيين أصدقاء الإسلام وحماته، واستمال البريطانيون بعض
 العلماء وبعض زعماء الطرق الصوفية بإغداق المنح والإعانات
 المالية عليهم فقاموا بتأييدهم وطمأنة الأهإلى وإقناعهم بالوقوف
 ضد دعوة السلطان العثماني.
و إزاء هذه الأحداث قام (الإمام) بكشف الحقيقة وإبطال دعواهم، 
وكان الإمام يبث روح الدين والرابطة الإسلامية وحب الوطن 
والأخذ بأسباب التقدم وتعلم الفنون، وذلك من أجل النهوض 
بالأمة الإسلامية، ويحارب الاستعمار لعلمه بأنه يعمل علي هدم 
الدين في نفوس المسلمين، وليقينه بأن المسلمين لو تمسكوا 
بشريعتهم وأخذوا بالعلوم فسوف يكون لهم الشأن والعلو والمكانة 
في الدنيا والفوز في الآخرة، لذا كان الإمام يربي تلاميذه 
ومريديه علي هذا ويبين لهم مغبة الوقوع في حبائل الاستعمار 
وكيف أن الاستعمار يعمل علي استنـزاف ثروات المسلمين.
و أثناء درس من دروس الإمام، أمسك بجوربه المصنوع من 
القطن سائلاً: مم صُنِعَ هذا الجورب؟ فقالوا من القطن، فسأل:
 ومن زرع هذا القطن؟ فقالوا: نحن زرعناه في بلادنا، فسأل: 
ومن الذي اشتراه؟ فقالوا: الشركات الإنجليزية، فسأل فأين تذهب 
به؟ فقالوا إلى مصانع لانكشاير حيث تصنعه جواربًا وغير ذلك 
ثم يرجع إلينا بثمن أعلي . وبهذا يكون الإمام قد وضع النقاط علي
 الحروف، ثم أكد فقال: هل رأيتم القطن الذي زرعناه؟ ماذا لو 
صنعناه؟!!و قد كثر صدور مثل ذلك في دروس الإمام، لذا كانت 
المخابرات البريطانية في السودان تسترق السمع لدروسه سواء 
كانت في الأماكن العامة كقاعات الدراسة والمساجد أو في داره 
(ببري)، حيث كان مدير المخابرات بنفسه يسترق السمع لدروس
 وأحاديث الإمام.
والإمام لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ولم تلن له قناة، ولم 
يغض طرفه عن أصغر الأمور، فعندما لاحظ أن الطلاب يكتبون
 اسم (غردون) علي الكراسات لم يقبل ذلك واستنكره، إذ كيف 
تدرس الشريعة الإسلامية تحت اسم (غردون) الإنجليزي ؟ لذا 
طلب من طلابه أن يشطبو اسم كلية (غردون) ويكتبوا بدلاً منها 
كلية (أهل الله)، وبالفعل قام الطلبة بذلك، فاستشاط المستعمر 
غضبًا.
امتدت دروس الإمام بمسجد الخرطوم الكبير لفترة زمنية طويلة،
 فالتف حوله الكثيرون من المتعلمين ومحبي العلم والمريدين، 
وجعلت حلقة دروسه تكبر وتكبر ويكون لها الأثر الفعال في 
المجتمع، مما أثار حفيظة بعض الزعماء الدينيين، فعملوا علي 
إثارة الإنجليز وتأليبهم عليه، وبدأت المضايقات والعقبات توضع 
أمامه، مره بالتشويش عليه أثناء الدرس، وتارة بإلصاق التهم 
عليه بدعوي المهدية، حتى كان اندلاع الحرب العالمية الأولي
 عام1914م، فوقف الإمام مؤيدًا لدولة الخلافة الإسلامية تركيا 
ضد الإنجليز وحلفائهم.
لقد تحقق الإنجليز وأعوانهم من الخطر الداهم الذي يمثله بقاء 
الإمام بالسودان، فاستقر الرأي علي إخراجه منها بشكل أو بآخر،
 واتجهت نيتهم في البداية لنفيه إلى جزيرة مالطا أثناء سفره في 
إجازته إلى مصر، وصدر قرار النفي إلى مالطا.
ولما وصل الإمام إلى الشلال عائدًا من السودان كان ينتظره 
هناك الآلاف من تلاميذه، وعدد من محبيه ومن مريديه من خيرة 
رجالات مصر، وكان في الباخرة التي أقلته من حلفا إلى الشلال 
(ونجت) باشا، وقد تقابل مع (ونجت) تلاميذ الإمام من رجالات مصر علي رأسهم محمود سليمان باشا، ومحمود الشندويلي باشا، وأحمد باشا الشريعي ، وحمد الباسل باشا، وكثيرون من أعلام الطب والمحاماة والعلماء والأعيان. وقد طلب هؤلاء من الحاكم العام أن يكون نفي الإمام إلى بلدة المطاهرة بالمنيا بدلاً من جزيرة مالطا، فاتصل (ونجت) لاسلكيًّا بإنجلترا، وصوَّرَ لحكومته خطورة نفيه إلى مالطا فوافقوا.
وبمجرد وصوله إلى بلدته وافاه خطاب وكيل حكومة السودان 
بعدم سفره مرة أخري إلى السودان. وقد تحولت بلدة المطاهرة 
وما حولها إلى مدارس للإمام خرجت أعلام الوطنيين وأئمة 
المجاهدين الذين بدأت بهم الثورة الوطنية عام 1919.
كان منزل الإمام بمصر كعبة وفود الأمم الإسلامية من مختلف 
الأجناس، ومحط أنظار سفراء الممالك الإسلامية وعظماء مصر 
ممن لم يحجبهم حجاب المعاصرة والمجانسة، فكان - ولا تأخذه 
في الحق لومة لائم- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أيًا كان.
واتسع أمامه مجال الدعوة إلى الله تعالى فأسس مجلة ( المدينة 
المنورة) – التي بدأ صدورها عام 1920م واستمرت لسنوات 
طوال بعد انتقاله إلى جوار ربه- حاملة لواء العلم الصحيح، ينشر
 بها الدين وتعاليمه وأخبار الصحابة في هذا العصر المظلم، حتى 
أراد الله أن يتم مقصده فأقبل عليه من أراد الله أن يجعل لهم نورًا 
يسعون به ومنهم الذين ينطقون وينشرون فضله في هذه المجلة.

لقد دافع عن حرمة الدين كما بث روح الغيرة علي الوطن 
الإسلامي بين المسلمين، فالوطنية المصرية إنما تدين له بإذكاء 
نارها وتأجج إزارها بين الشباب المتعلم الذين قذف بهم للعمل في 
خلاص الوطن من رتقة الاستعباد، مبينًا لهم في داره فضل
 الجهاد وما فيه من مزية وأجر قد لا يحلم به العباد.ثم لم يقف به 
الحد عند هذه الدائرة الضيقة بالديار المصرية فحسب بل هب 
لتنبيه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالنذر الكتابية 
وبالكتب التي كان يمليها علي أهل خاصته ثم يوزعها بلا مقابل 
في الهند وجاوه والصين واليمن والحجاز والترك وبلاد العجم..
كل ذلك كان ابتغاء رضوان الله تعالى .لقد كان يبتدأ الكتاب 
الصغير صبيحة الجمعة ثم يفرغ منه إنشاءً فجر الاثنين الذي يليه
 ثم يطبعه ويجتهد أهل بيته وخاصته في إدارة المطبعة فلا راحة للكل حتى يطبع ويوزع، لا رغبة في المال..فقد كان متوفرًا لديه.
أعيا الإنجليز أمره في السودان وفكروا في الخلاص منه، فكان 
جذوة تركها بين أبنائه الناشئين في ذلك القطر الشقيق، وجاء 
مصر فألهبها غيرة وحماسة في التفكير للخلاص من هذا الداء 
الوبيل والكابوس الثقيل حتى قامت الثورة فكان سعد زغلول
علمها الظاهر وكان الإمام المحرك لأفراد الأمة إلى هذا العمل 
الباهر.
وكانت للدروس التي ألقاها بالقاهرة فضل كبير في إيقاظ الشعور
 بين طبقات الأمة السودانية، فما من حر أبي رفع رأسه في 
النهضات الإسلامية الوطنية منذ أن رحل الإمام أبو العزائم عن 
السودان سنة 1915م إلا وهو يدين بهذا الشعور وهذه الروح 
القوية التي تسوقه سوقًا إلى ميادين الجهاد وتشعل النار في قلوب 
السودانيين حقدًا علي الغاصبين. وقد كان حين عم هذا الوعي 
الإسلامي في بلاد السودان 1924م حين ثارت فصيلة علي عبد 
اللطيف وبعض إخوانه علي جيش الإنجليز المدجج بالسلاح 
والعتاد وكادت الدائرة تدور عليه لولا خيانة أعداء الحرية من 
أرباب السلطة في ذلك الحين الذين اتخذهم الإنجليز مخلب القط 
فسلم الجيش المصري تسليمًا مخزيًا لأعدائه الإنجليز.
إن البطل علي عبد اللطيف حين سأله القاضي الإنجليزي أبان
 محاكمته: من أين لك هذه الروح القوية الوطنية؟ فأجابه علي الفور:
من شيخ مصري يدعي "محمد ماضي أبو العزائم" كان يخصنا 
بها في دروسه بالكلية وعظاته بمسجد الخرطوم الذي ألهب بها 
قلوبنا حين كان يقول: إن الإسلام وطن وإن ذلك الوطن يجب أن 
يحرر وإن كل قاعد عن التحرير هو مشرك بالله لن ينال رضاه 
وإن صلي وصام وحج البيت وإن الجهاد فريضة علي كل مسلم 
حر قادر كسائر الفرائض.

مواقف مشرفة للإمام
وكان الإمام المجدد من ذوي النفوس الكبار، ومن شأن كبار 
النفوس هؤلاء أنهم يستعذبون الآلام لتحقيق الآمال، وقليل ما هم، 
ولكنهم وحدهم الذين دفعوا بالإنسانية قفزات إلى الأمام في طريق 
التطور إلى الحياة الأفضل.
  • ومن البديهي أن يستنتج القاريء أن الإستعمار البريطاني في 

  • مصر كانت مناهضته هدفًا استراتيجيًا للإمام أبي العزائم كما 
  • كان الحال في السودان، ومع تضافر الجهود الوطنية في مصر
  •  ضد الاحتلال قامت ثورة 1919م، وكان الإمام المجدد من 
  • أوائل الذين قبضت عليهم السلطات البريطانية وأودع السجن في محاولة منها لوأد هذه الثورة في مهدها، وكان معه ولده الأكبر السيد أحمد محمد ماضي أبو العزائم الذي كان ملازمًا 
  • لوالده ملازمة كاملة، ليس له طلب في الدنيا إلا أن يشارك أباه 
  • نضاله ويشد أزره وينظم له برامج تنقلاته ويرعي شئونه 
  • الشخصية وينشر دعوته ويردد عنه أفكاره ومبادئه، فأصبح 
  • خليفته الأول بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلي .

ومن كانت طبيعته العطاء فإن عطاءه لا يتوقف، ولذلك كان 
الإمام في السجن كما كان خارجه كالبحر الزاخر الهادر لا توقفه 
سدود ولا تحده قيود، فلم يلبث إلا أن صار مجتمع السجن كله- 
مساجين وحراسًا وضباطًا- من أتباعه والمتحمسين لدعوته 
ومبادئه.
وانتقلت أنباء النشاط العزمي إلى مسامع طغاة الإحتلال 
البريطاني ، فذهب أحد طواغيتهم ليتحقق من واقع الأمور
 بنفسه،وكان هذا الطاغوت هو رَسِل باشا الذي يشغل حكمدار
 القاهرة ولكن نفوذه وسلطاته الغاشمه تتعدي حدود منصبه إلى
 جميع أنحاء القطر المصري بسائر مدنه ودساكره وقراه.

فماذا رأي رسل باشا؟ لقد وصل إلى السجن وقت صلاة الظهر، 
فرأي أن جميع المسجونين ومعهم جميع جنود الحراسة بالسجن 
ومن بينهم ضباطهم قد اكتظ بهم الفناء الأكبر للسجن صفوفًا 
يؤدون الصلاة خلف الإمام المجدد الذي ختم الصلاة وانبري إلى
 المأمومين يدعو بأن يخلص الله الوطن من الاستعمار اللعين 
وأعوانه، والمصلون من خلفه يُؤَمِّنون. وكان صوت الإمام يهدر
 بالدعاء عميقًا جهوريًا، وصوت المصلين بالتأمين يعلوا ليصل 
إلى عنان السماء قويًا راسخًا ثابتًا، مما جعل رسل باشا يرتعب 
وترتعد فرائصه مما أدي به أن يكتشف أن هذا الإمام في سجنه 
يشكل خطورة أكبر من خطورته خارجه، فنفاه من السجن بأن 
أمر بالإفراج عنه مع ابنه فورًا !!
  • عقب إعلان الحماية البريطانية علي كل من مصر والسودان 

  • في نوفمبر سنة 1914م، أقام (ونجت) باشا الحاكم العام 
  • الإنجليزي بالسودان حفلاً بهذه المناسبة، ودعا إليه بعض 
  • الشخصيات السودانية والموظفين المصريين ليتعرف علي أثر
  •  ذلك في نفوسهم، وأقيم الإحتفال بسراي الحاكم العام.
حضر الإمام ذلك الإحتفال عن كره وبعد إلحاح تلاميذه 
وأصدقائه، ذهب معه أحدهم وهو الشيخ محمد واد أحمد، وجلسا 
في الحديقة يتجاذبان أطراف الحديث عن حالة العالم الإسلامي 
المحزنة.
وقدم الطعام فقال الإمام لجليسه: والله لإن آكل الزَّقُّومَ في
هذا اليوم خيرٌ لي من أن أُطْعَم من هذا الطعام.
أوصل الوشاة هذا القول إلى ونجت باشا الذي جاء إلى الإمام وسأله: لماذا لم تأكل؟
فأخبره أنه صائم، فتعجب وسأله عن سبب صيامه
فقال له علي سبيل التبكيت: أشكر الله علي نعمة المساواة التي 
حدثت للمجتمع السوداني نظير فرض الحماية البريطانية حيث 
أصبح المصري والسوداني والبريطاني أمام القانون سواء.

سأله ونجت عما يقصده
فقال له الإمام: يعني إذا ضربتك الآن- ووضع يده علي خد 
ونجت- فسوف لا تعلق لي المشنقة لأشنق باكر، ولكن أمامي 
وأمامك القضاء، والقصاص بين الندين عادل مهما كان، وأنا 
أتساوي معك في الرعوية الإنجليزية. فارتبك ونجت وقال: أنت 
رجل طيب كتير، ادعو لي يا شيخ ماضي.

  • كشأن الاستعمار في أي بلد يدخلها، فإنه يبدأ بزرع بذور الفتنة والشقاق للتفريق بين أهلها ليصبحوا شيعًا وأحزابًا، وإذا كان الدين هو المسيطر علي الشعوب فإنهم يدخلون من هذا الباب للتشكيك فيه. استطاع الإنجليز تجنيد بعض أدعياء العلم 
  • بالسودان، فأذاعوا بين الناس أن طاعة الإنجليز واجبة بصفتهم 
  • أولي الأمر ويتلون قوله تعالى : : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ 
  • وَأُولِي الْأَمْرِ)(النساء: 59) ، ولا يصلون إلى بقيتها وهي 
  • (منكم) . وشاعت تلك الأفكار الخبيثة بين المسلمين في 
  • السودان.
خطب الإمام في الجامع الكبير بالخرطوم مبينًا في خطبته أن 
الذين قالوا ذلك من علماء السلطة خائنون لدينهم كالذين قالوا:
 ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ )(النساء: 43) ولم يكملوها بقوله تعالى
 ( وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) فالقرآن يقول: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )
(النساء:59) أي : أولي الأمر منكم أيها المسلمون وليس أولي 
الأمر منكم أيها الإنجليز.
وتطورت سمة المواجهة بين الإمام من جانب والإنجليز
 وأعوانهم من جانب آخر مما جعلهم يفكرون في طريقة للخلاص
 منه.
  • استدعي ونجت الإمام ذات يوم محاولاً استمالته وكسب ولائه للإنجليز، وطلب منه أن يثني علي بريطانيا ويكتب عن إصلاحاتها بالسودان مظهرًا مساويء الحكم العثماني.
فسأله الإمام: أتكتب ضد الإنجليز؟ فقال كيف هذا وأنا رجل متعلم
 ؟ فرد عليه الإمام قائلاً: إذن كيف تطلب مني أن أكتب ضد 
وطني وأنا معلم ؟!.. وجعل يشرح له نسب الإسلام ونظرياته في
 الجنسية. وأخذ ونجت قرارًا بينه وبين نفسه بإقصائه عن السودان.
  • توجه مدير المخابرات البريطانية في السودان ومعه بعض الشخصيات الموالية للإنجليز لزيارة الإمام في بري وقال له: أنت تكرهنا
فرد عليه الإمام: لأي سبب؟ قال: لأننا غير مسلمين وأنت شديد 
التمسك بدينك فرد الإمام بقوله: ما جلست علي هذه الأريكة التي 
أجلس عليها الآن إلا لأنها تريحني ، فلو كنتم مريحين للمسلمين
 فكيف أكرهكم؟ ولا سيما أنكم من البشر، والإنسان أفضل من 
الجماد، وما دمتم تتعبون المسلمين فكيف أحبكم؟.
  • كان الشيخ مصطفي المراغي قاضي القضاة بالخرطوم من أشد الحاقدين علي الإمام، وكان ينتهز فرصة سفره في إجازته السنوية إلى مصر ويجلس مكانه بمسجد الخرطوم يلقي الدروس محاولاً أن يكتسب جمهورًا له ولكنهم لم يجدوا في دروسه شيئًا مما يسمعونه من الإمام، فأخذوا يرددون المثل القائل (مرعي ولا كالسعدان)، والمقصود أن ما يسمعونه منه كالحشائش الكثيرة التي يأكلها الحيوان ليملأ بطنه وقيمتها الغذائية منخفضة، أما ما يسمعونه من الإمام فهو كالسعدان ذات القيمة الغذائية العالية.
إزداد حقد الشيخ المراغي وجاهر بالعداوة وذهب إلى ونجت 
وقال له كيف تتركون أبا العزائم - وهو موظف عندكم- يلعن 
الإنجليز من علي المنبر ويقول: فلعنة الله علي الكافرين؟.
 استدعي ونجت الإمام وأبلغه قول المراغي فسأله الإمام: لو جاءك أمر ملكي أتعصاه أم تنفذه؟ فقال أنفذه فقال الإمام: ولو 
جاءك الأمر ممن هو أعلي من الملك؟ فقال أكون أحرص في 
تنفيذه فقال الإمام: الله يقول: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)(البقرة: 
89) وأنا مدرس وأمين علي الدين.
ولِما كان يشَكّله بقاء الإمام من خطورة علي وضع الإنجليز في
 السودان، فقد صدر قرار إبعاد الإمام عن السودان في أغسطس 1915م.
ووقف القائد الإنجليزي عند مغادرة الإمام للسودان يودعه بشماته
 قائلاً: أتي اليوم الذي يخضع فيه أبو العزائم للإنجليز، وستذهب 
إلى مصر ولن تجد عملاً، وستعود إلينا فتقبل يدي لأعيدك لعملك،

فرَدّ عليه الإمام بقوله: بمشيئة الله سيأتي اليوم الذي يقبل فيه القائد الإنجليزي يد أبي العزائم وقدمه.
وعاد الإمام إلى مصر وكأن لسانه ينطق بما سطره القدر، فلقد 
قامت ثورة 1919م في مصر، وكان الإمام في القاهرة وقتها 
والمظاهرات العارمة تجوب شوارعها لا تري إنجليزيًا إلا وفتكت به. وشاء القدر أن يذهب القائد الإنجليزي ليزور ناظر 
مدرسة الخديوية وهو إنجليزي ، فوجد مظاهرة خارجة منها،
 فلم يجد شارعًا إلا شارع سوق مسكة، فلما وصل إلى منتصفه 
وجد مظاهرة أخري من ناحية مدرسة القربية ومدرسة الخديوي 

إسماعيل، فلم يجد إلا حارة متفرعة من هذا الشارع وهو عطفة 
الفريق، فوجد بوابة كبيرة فدخلها علي أمل أنها ستؤدي به إلى 
شارع آخر، ولكنها كانت بوابة سراي آل العزائم الذي يقيم فيه الإمام.
ولما دخل من البوابة وجد نفسه في فناء المنـزل، وإذا بالإمام 
واقف أمامه، فقبل يده وجثي علي ركبتيه يقبل رجليه وقدميه، 
ويستعطفه ويطلب منه النجاة. وطاش عقله لما تذكر ما كان من 
قبل وما رآه من أن نبوءة الإمام تحققت، فصار يصرخ قائلاً للإمام أنت المسيح، أنت المسيح!! ولكن الخُلُق المحمدي غالب
 علي الإمام، فقد أجاره وأبلغه مأمنه، وأكرمه، وبعد انتهاء تلك
 المظاهرات أمره بالخروج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق