سعيد فودة
[ الفوقية المعنوية لله تعالى ]
واعلم أن الفوقية عبارة عن كون الشيء أعلا من غيره.
وتكون حسية ومعنوية، كزيد فوق الفرس، والسلطان فوق الوزير.
وأن الذي يحوز عليه المكان يجوز أن تكون فوقيته حسية ومعنوية، والذي يستحيل عليه المكان والجسمية لا تكون فوقيته إلا معنوية، ففوقية الله على عرشه المراد بها فوقية معنوية لما قدمنا .
فعلم مما ذكرنا أن الباري سبحانه وتعالى يوصف بالعلو حقيقة، وبالفوقية مجازاً ، وان كان معناها العظمة .
ولا يوصف سبحانه بالسفل ولا بالتحتية لا حقيقة ولا مجازاً.
وقد تكلم كبار الأئمة يبينون موقفهم في فهم هذه الآية، أي آية الاستواء:
فقال الإمام أبو حنيفة لما سئل عن الاستواء: من قال لا أعرف الله في السماء أم في الأرض كفر.
لأن هذا الفول يوهم أن للحق مكاناً، ومن توهم أن للحق مكاناً كفر .
وقال الإمام الشافعي: استوى بلا تشبيه، وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض في ذلك كل الإمساك.
وقال الإمام أحمد: استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر.
وأما الإمام مالك، فقد جاءه أحدهم وقال له: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟
وقال الإمام مالك كما روي عنه في بعض الروايات: الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .
وقد فسرها بعض العلماء فقال: قوله الاستواء معلوم أي إن عقولنا دلتنا على إن الاستواء اللائق بالله هو الاستيلاء دون الاستقرار والجلوس، لأنهما من صفات الأجسام.
وقوله والكيف مجهول معناه إن ذات الله تعالى لا توصف بالأحوال المتعقلة والهيئات الحسية من التربع ونحوه، والإيمان به واجب لوروده في الكتاب.
والسؤال عنه بدعة لأنه لم تجر العادة بالسؤال عنه من السلف ،بل يفوضون معرفته على التحقيق إلى الله تعالى.
وبناء على هذا التفسير لكلمة الإمام مالك، لا يكون مفوضاً، بل يكون الإمام مالك مؤولاً، وذلك لأنه قد فسر معنى الاستواء بما ذكرناه نحن وهو المعنى الصحيح، ونفى أن يكون معناه يستلزم الاستقرار والجلوس، وهذا هو مذهب جمهور العلماء .
وإذا كان هذا هو المعنى الذي أراده الإمام مالك من كلمته، فإن الأصل أن مذهب السلف كان هو التأويل دون التفويض خلافاً لما هو مشهور.
وقد يستعجب بعض الناس هذا التفسير لكلام الإمام،
فنقول له نحن: قد يفهم كلام الإمام على معنى آخر مغايراً للأول غير متضاد معه ولا مناقض له، وذلك كما يلي:
قوله الاستواء معلوم، أي معلوم ذكر الاستواء في القرآن الكريم، ومعلوم نسبته أي نسبة الاستواء إلى الله تعالى.
وأما قوله والكيف مجهول فمعناه أن نسبة الاستواء الكيف مجهولة لا نعرفها لا في القران ولا في السنة ولا في كلام أحد من العلماء المعتبرين، أي أن أصل نسبة الكيف غير معلومة بل مجهولة، وما كان كذلك فهو مردود.
ولذلك قال بعد ذلك: والإيمان به أي الاستواء المعلوم واجب، أي الإيمان بمجرد الاستواء المعلوم واجب، أي الإيمان بمجرد الاستواء كما ذكر في القرآن واجب،
وأما السؤال عنه بكيف فهو بدعة، ومعنى بدعة كما هو مقرر أي مبتدع مخترع لم يكن معروفاً من قبل، لأن مجرد نسبة الكيف إليه تعالى فيها تجسيم وتشبيه كما مضى، وما كان بدعة فهو مردود، ولذلك يفهم لماذا أمر يعد ذلك بالرجل أن يخرج من المسجد.
وبناء على هذا التفسير والشرح لكلام الإمام يكون الإمام مفوضاً التفويض الصحيح وهو السكوت عن الشيء مع نفي اللوازم الفاسدة أو ما يتوهم أنه من اللوازم، وذلك كالتجسيم والتحيز والكون في مكان والحركة وغير ذلك.
وهذا هو التفويض عند أهل السنة، ولذلك يقولون عنه إنه تأويل أجمالي لأنه في الحقيقة ليس سكوتاً محضاً، بل سكوت عن التفصيل، وليس سكوتاً عن المعنى العام المفهوم، فإن كل من قرأ الآية الاستواء يفهم منها أن الله تعالى قادر على كل شيء مسيطر على الكون حكيم مدبر لشؤون الخلائق. ومثل هذا المعنى يسكت عنه السلف، ولكنهم لا ينظرون بل لا يحلمون بما وراءه بل يسكتون.
ومذهب السلف كما وضحه أهل السنة لا يستلزم التجسيم مطلقاً، ولذلك ورد عن كثير منهم نفي الكيف "وكيف عنه مرفوع"، وغير ذلك من العبارات التي فيها نفي أصل نسبة الكيف إلى الله تعالى .
وقد ادعى المجسمة أن المعنى المفهوم من عبارة الإمام مالك ليس كما مضى بل قالوا: إن قوله الاستواء معلوم، أي أن الله استوى ، واستوى عندهم لها معان:استقر وجلس وصعد، ولكن الاستقرار والجلوس والصعود لها كيفيات متعددة، قالوا:فالرجل يستوي استواء معيناً على الكرسي، والفارس يستوي استواء خاصاً على فرسه، والملك يستوي أي يجلس استواء أي جلوساً خاصاً به على العرش، وهكذا فكل مخلوق له استواؤه الذي يختلف عن استواء الذي يختلف عن استواء غيره بكيفية خاصة. وكذلك فالله يستوي بالمعاني السابقة، أي يجلس ويستقر!! لكن كيفية الجلوس والاستقرار والاستواء غير معلومة لدينا، لكن يوجد كيفية وصورة وهيئة معينة يستوي بها الله تعالى عرشه، قالوا:ولذلك قال الإمام مالك والكيف مجهول !!!!!!!!
هكذا فسر المجسمة كلمة الإمام مالك، وهو تفسير غير صحيح قطعاً، وذلك لما مضى ذكره .
وأيضاً لو كان أصل الكيفية ثابتاً، لما استحق الرجل السائل أن يسمى مبتدعاً لمجرد سؤاله عن أمر هو في نفسه ثابت على زعمهم، فما الذي ابتدعه في هذه الحالة، إنه لم يبتدع إلا السؤال عن شيء يدعون أنه في ذاته ثابت، ومجرد هذا الأمر لا يكفي ليرتقي الرجل إلى المنزلة المبتدعة وإن يخرج من المسجد أيضاً، بل كان يكفي أن يقول له الإمام مالك: لا يحوز السؤال عن ذلك.
ولكن الرجل يصبح مبتدعاً حقاً عندما يثبت شيئاً هو في ذاته أصلا غير موجود، ويسأل عنه، حينذاك يصبح مبتدعاً حقاً، لأنه أثبت شيئاً غير موجود، وهذا إنما لو كانت الكيفية أصلاً غير ثابتة، بل منفية عن الله تعالى، فبناءاً على هذا، فمن جاء وقال: كيف استوى الله؟ فإنه يكون بسؤاله قد افترض وجود الكيف لله تعالى ويطلب من المسؤول أن يصوره له ويوضحه، وهذا هو المبتدع حقاً .
ويؤيد كلامنا المذكور هنا أنه قد ورد عن الإمام مالك رواية أخرى بلفظ آخر غير لفظ الرواية السابقة يقول فيها جواباً عن سؤال الرجل:[ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب].
فقوله غير مجهول، أي معلوم، أي معلوم أنه نسب إلى الله تعالى في القرآن الكريم، ويوضح معناه ما ورد عن الإمام الشافعي من أنه قال: [الاستواء مذكور]، فهذا هو معنى قوله [معلوم].
وأما قوله[غير معقول] أي أن العقل ينفيه ولا يثبته لله تعالى، فالعقل ينفي نسبة الكيف إلى الله تعالى، وهو يرادف قول كثير من السلف "وكيف عنه مرفوع"، وقولهم: "بلا كيف" .
وهذه الرواية التي فيها "والكيف غير معقول" أقوى من حيث السند من الرواية السابقة المشهورة، وهي راجحة عليها من جهة المعنى ومن جهة السند.
ومن جهة ثالثة وهي أن الذين سئلوا عن الاستواء قبل الإمام مالك وهم حماد وأم سلمة أجابوا بنفس هذه الرواية وهي [الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول… إلخ]، وهذا يعني أن الإمام مالك ليس هو صاحب هذا الجواب، بل أخذه عن غيره، وحينذاك ترجح الرواية التي توافق جواب السابقين فهذا هو الوجه الثالث .
ونحن لا نريد أن نطيل الكلام على هذه العبارة، لوجوه عديدة ونحن نعلم أن كثيراً من المجسمة لن يزحزحهم عن موقفهم أي كلام ولو كان مبنياً على قواطع الشرع .
واعلم أن كل الكلام السابق وغيره، مبني وواقع على التسليم، بأن الروايات المذكورة لها سند قوي معتبر يصح الاعتماد عليه ، وفي هذا شك. وإذا لك يكن لها سند قوي فلا حاجة لتسويد الصفحات زيادة .
وفي هذا المقام لا بد أن نوضح مذاهب العلماء في الآيات التي كثر النزاع فيها ويسميها بعضهم آيات الصفات.
ومثالها الآية السابقة وهي آية الاستواء، فمثلاً هذه الآية لا يظهر لنا عند النظر فيها إنها تشير من قريب ولا من بعيد إلى جلوس ولا إلى صعود ولا إلى استقرار، بل الظاهر منها إنما هو بيان عظمة ملك الله تعالى وتدبيره الحكيم لهذا الكون الكبير. فهذا هو الظاهر منها .
ولكن بعض الناس وهم المجسمة بقولون إن الظاهر منها إنما هو الجلوس على العرش، وأما كيفيته فغير ظاهرة، وهو كلام فاسد لما ذكرنا سابقاً .
ولا بد هنا أن نبين ما هو المقصود بلفظ "الظاهر"، فنحن عندما نقول أن هذه الآية ظاهرها هو المعنى الفلاني، نقصد من ذلك أن المفهوم منها هو ذلك المعنى، أي أننا عندما نظرنا فيها وتدبرنا معانيها ظهر لنا أن المعنى الذي تشير إليه هذه الكلمات المكونة للآية هو المذكور.
وكذلك عندما نقول: إن المعنى الظاهر عند غيرنا هو المعنى الفلاني، نقصد أنهم فهموا منها ذلك المعنى، وندعي في نفس الوقت أن ما فهموه ليس لهم عليه دليل مستقيم، ولذلك فنحن نرفض ما يقولون من ادعاءات باطلة.
ونستطيع أن نبرهن بالبراهين القاطعة أن المعنى الذي ظهر لها هو المعنى المراد لا غير .
فكلمة الظاهر لا تعني ما تظهره الآية لنا من المعاني، فإن ما يكون كذلك لا يكون إلا صحيحا ولا تجوز مخالفته .
بل الظاهر هو ما تستظهر نفوسنا من الآية، أي ما يظهر لنا حسب اجتهادنا أنه المراد، واجتهادنا صحيح ، وقد يكون باطلا، والحكم في هذا إنما هو الدليل .
لذلك فعندما يقول العلماء أن لفظ الاستواء من جملة المتشابه، كاليد والوجه والعين والأصابع ونحو ذلك مما ظاهر مستحيل على الباري سبحانه ، فإنهم يقصدون، إننا نحن البشر عندما كثر استعمالنا للكلمة اليد والعين وغيرها في الآلات والأدوات التي هي أجزاء وأعضاء ودلالات على النقص والتركيب، صرنا نتوهم مهما استعملت هذه الكلمات فأن المراد فيها هو هذه المعاني .
وغاب عن ذهن من يفهم هذا الفهم أن ما جاز على المخلوق قد لا يجوز على الخالق،وإنه إذا أطلق فلا بد أن يكون الإطلاق مجازياً لا حقيقياً كما سبق ذكره في الفوقية والعلو.
فصار البعض يتوهمون أن هذه المعاني هي الظاهرة مطلقاً من هذه الألفاظ، ولا يفهمون إنها ظاهرة بشرط إطلاقها على البشر أو على المخلوقات وبشروط معينة كما هو مذكور في كتب اللغة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق