الموقظة، في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة
راجعه
فضيلة الشيخ علامة العراق الأستاذ الدكتور أحمد عبيد عبد الله الكبيسيأستاذ الشريعة والقانون في جامعة بغداد سابقا
وراجعهفضيلة رئيس رابطة علماء العراق العلامة الشيخ عبد الكريم محمّد (بيارة) المدرس في الحضرة القادرية في بغداد
وقال بعد المراجعة:(والله لم ينسج على منواله!)عني بتخريج أحاديثهأحمد فائق جواد العاني
معاون مدير ثانوية الحضرة المحمّدية / في الفلوجة
إعداد العبد الفقير إلى الله تعالىهشام عبد الكريم آل الطيار الآلوسي الكيلاني
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم، على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد : فإن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة من الأمور التي لا ينبغي التعصب لإثباتها أو نفيها، فهي وقبل كل شيء من خوارق الأمور التي لا تقع لحساب ولا تحدث بقاعدة ولا تخضع لإرادة بشر وبالتالي فهي إن صحت لأحد من الناس فإنما هي من منن الرحمن، التي يمن بها على من يشاء من عباده الصالحين، شأنها في ذلك شأن معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء التي قد يستوعبها هذا ولا يحيط بها ذلك، ولا حرج عليهما في كلا الحالين ما دام لم يرد بها نص ملزم، لأنهّا من الأمور الذوقية التي يتأثر النظر إليها وفيها بعدة مؤثرات نفسية وعقلية وقلبية وبناء على هذا فإن الحديث عنها والتحدث فيها لا يتطلب معركة جهادية، بل يأخذ طابع المحاورة الهادئة القائمة على تبادل وجهات النظر وإبعاد التأمل وليس سبيل المناورة العنيفة التي تقوم أساساً على هدف إفحام الخصم وبيان خطئه وإظهار فساد رأيه وقصور حجته، وقد عرضنا البحث في ثلاثة فصول وخاتمة :
الأول : حوار في عصر التقدم العملي .
الثاني : أقوال العلماء والأولياء في هذه الرؤية الشريفة .
الثالث : كيفية هذه الرؤية المباركة وتساؤلات فيها .
الخاتمة .وقصدنا بذلك وجه الله تعالى، وقربة إلى حبيبه المصطفى سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام والحمد لله رب العالمين .
الفصل الأول
حوار في عصر التقدم العلمي
رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة ، مسألة إن جاز لكل عصر من عصور الإسلام أن يحتار فيها أو يتردد في فهمها أو يتحفّظ في القول بصحتها فلا يحق لأهل هذا العصر أن يقعوا بمثل ذلك وهم يواكبون هذا التطور العلمي الزاحف على عقول الناس وعيونهم دقيقة فدقيقة وليس شهراً بعد شهر أو سنةً بعد سنة! وحينئذٍ لا يعقل أن يقال : إن الله تعالى يعجز عمّا مكّن منه عباده! ولا يعقل أن يقال : إن العباد والعبيد يقدرون على ما ليس في قدرة خالقهم وخالق القدرة في عقولهم!.
وإن من أبرز المخترعات العلمية التي تجعل رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم يقظة أمراً ممكناً بل أمراً واقعاً هي مجموعة (التلي)TELE. وهي التلفون والتلفزيون و التلكسوب والتلكس.. إلى آخر قائمة هذه المجموعات العجيبة، والتي لا ندري إلى أين ستصل مما لا يتصوره عقل لولا المشاهدة والتجربة الفعلية .
ولكي نفهم موضوعنا هذا الذي نتحاور فيه تأمّل جيداً فيما يلي من الأمور الواقعة :
• رجل يتحدث في القمر أو في نيويورك أو في موسكو ، فيراه كل الناس وهم جالسون في بيوتهم في آن واحد، فكيف تفتّتتْ أجزاء صورته ثمّ تجمعت مرة أخرى حتى وصلت إلى هذا الصندوق الخشبي الذي أمامك وبيدك فنجان من القهوة؟ فيعرض عليك رجل بكل حركاته وسكناته و تعابير وجهه وعدد أنفاسه، مع كل ما يجري في العالم كلّه، وكأنك حاضر في كل أرض وشاهدٌ في كل بلد وموجود في كل قطر في آن واحد! فإذا استطاع البشر المخلوق أن يفعل ذلك بالواسطة والآلة، فماذا يمكن للخالق الذي يقول للشيء كن : فيكون أن يفعل بدون آله ولا واسطة؟ فهل يصعب عليه ما سهل على عبيده أن يبث صورة حبيبه محمّدصلى الله عليه وسلم إلى من يحب من عباده بدون جهاز أو كهرباء؟ أم أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت من آيات الله عجباً؟.
• إن أجهزة التصوير والتسجيل والفيديو تحتفظ بمئات الأفلام لمئات الأشخاص الذين ماتوا وتعرضهم علينا حيناً بعد حين وهم أحياء يتحركون ويتكلّمون رغم كونهم ميتّين فعلاً، وليس ثمة عاقل يقول : إن هذه الحالة تناقُض بين حقيقة كونهم أحياء في هذا الفلم، وحقيقة كونهم أمواتاً في واقع الأمر، وإنما التوفيق بين الأمرين معقول وواقعي جداً، فهل يصعب على الله سبحانه وتعالى ما سهّل على عبيده من التوفيق بين حقيقة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقة أن صورته لا تزال باقية ولكن من غير جهاز ولا كهرباء، وإنما بقدرة القادر على كل شيء، وإذا كان لابد من جهاز وكهرباء فما الفرق بين الخالق والمخلوق؟ أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم . يقظة كانت من آيات الله عجباً؟
• إن جهازاً من أجهزة التلفون قد شاع في العالم كلّه وهو تلفون الصوت والصورة، فما أن ترفع السماعة ويدق الجرس في الرقم المطلوب فيرفع صاحبها السماعة هو الآخر حتى ترى صورته وتسمع صوته حيثما وأينما كان، رجل في أقصى المغرب ورجل في أقصى المشرق يرى بعضهم بعضاً بجهاز صغير لو فتحته وتأملت فيه لعجبت من قوّة قدرته رغم صغر حجمه، هذا من عمل المخلوق فماذا تنكر من قدرة الخالق عزّ وجلّ على أن يريك صورة حبيبه محمّد صلى الله عليه وسلم ويسمعك صوته سواء كان ذلك بواسطة أو بغير واسطة؟ أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظةً كانت من آيات الله عجبا؟
• إن من الأبحاث الجارية الآن في العالم والتي وصلت إلى مرحلة متقدمة هي تجميع الصورة والصوت من الأثير، من حيث أن كليهما لا يفنى، وقد جمعت أصوات العديد من شخصيات التأريخ من ذرّات أصواتهم المتناثرة في الهواء، وما هي إلا فترة زمنية قادمة حتى يستطيع العلم أن يجمع لك صورة أي إنسان من الماضين ويسمعك صوته كما كان قد فعل في حياته وهذا من عمل المخلوق فماذا تنكر من عمل الخالق ؟ أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظةً كانت من آيات الله عجبا؟
فلو تأمل المسلمون في معنى قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف 9 ] لفهموا الإشارة التي كان الله سبحانه وتعالى قد ضمنها هذه الآية، فهو يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم وللناس :
أعجبت من أمر أصحاب الكهف؟ أراعك أمرهم ؟ أأدهشك أن ننيمهم ثلاثمائة سنة ثمّ نوقظهم ؟ أترى أن ذلك آية من آياتنا العجيبة؟ إنك لو تأملت لرأيت أن هذه من أقل آياتنا!
فلقد خلقنا آدم من غير أب ولا أم فقلنا له : كن فيكون، وخلقنا عيسى من غير أب فقلنا له : كن فيكون، وخلقنا لزكريا الذي بلغ من الكبر عتياً ومن زوجته العجوز العاقر خلقنا لهما يحيى، وأحيينا لأيوب أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا، وأحيينا العزير بعد إن أمتناه مائة عام، وأحيينا له حماره أمام عينه وقد مات هو الآخر منذ مائة عام، واحتفظنا له بطعامه وشرابه صالحاً لم يتغير طعمه ولم يتسنّه كل هذه المدّة، فماذا تكون آية أهل الكهف إلى جانب آياتنا هذه؟
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟.
ونحن نقول : أم حسبت أن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة كانت من آيات الله عجبا؟.
وقد مكن الله لعباده الكافرين أن يبثوا صورة الأحياء والأموات عبر ملايين الأميال وما بين السموات والأرض، فلقد رأى أهل الأرض (آرمسترونج ) وهو على القمر عبر شاشة مركبته الفضائية، وأصيب رأسه بصداع حاد وهو في القمر، فبثتْ له محطة إطلاق الصواريخ العلاج عبر الأثير فشفي من مرضه!
فإذا كان الله قد مكن لعباده الكافرين كل هذا ولا ندري ماذا سيمكن لهم أكثر بعد ذلك! فماذا تنكر من عبد مسلم بلغ من شدة عبوديته لله أن تقرب من ربه فتقرب منه ربه وبثّ له صورة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أثبت العلم أن أجزائها وأجزاء صوته الشريف موجودان في الأثير وأن للعلم وأدواته المعاصرة والآلة الحديثة طرقاً في جمعها؟.
• إن العلم يتوصل اليوم إلى اكتشاف آيات الله في الآفاق وفي أنفس الناس حتى يتبين لهم أنّه الحق، فالعلم لم يخلق الصورة التي جمعها من الأثير ولكنه اكتشف آية من آيات الله موجودة فعلاً وقدرة من قدراته عزّ وجلّ جارية في ملكه وملكوته، فإن من المعروف أن للضوء الآن دوراً عظيماً في كل خطوات التقدم العلمي، حيث اكتشف العلم الطاقة الهائلة للضوء ابتداءً بأشعة (أكس) و(الليزر) وانتهاء بالحزمة الضوئية التي يمكن أن تكون وعاء لملايين الكتب التي تخزن في حزمة ضوئية كما تخزن في فيلم ونحوه، فإذا أردت أية معلومة من أي كتاب فما عليك إلاّ أن تدير جهازاً صغيراً يومض لك ومضة ضوء صغيرة وسريعة ترى عليها ما تريد من معلومات بلمح البصر، فالعلم هنا اكتشف قدرة من قدرات الله وأسلوباً من أساليب إدارته لهذا الكون، إن طاقة الضوء موجودة من قبل إن تكتشف علمياً في هذا العصر، وهذا يعني أن العلم كاشف للحقائق وليس منشئاً لها .
فلماذا لا يقال :
أن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رؤية صورته الشريفة يقظة داخلة في هذا المضمار وسائرة على هذا النهج من إمكانية ذلك قبل أن تعمل الآلة عملها المعروف اليوم من تسجيل الصور والحركات والأشخاص والأموات فتحتفظ بها وتعرضها على الناس بعد مئات السنين من موت أصحابها، وما يقدر عليه البشر بالآلة يقدر الله عليه بدون آله .
وقد خلق الله بشراً بآلة كما خلقنا نحن، وخلق بشراً بدون آلة كما خلق آدم عليه السلام، وخلق بشراً بنصف آلة كما خلق عيسى عليه السلام …وهكذا، بل إن الله سبحانه تعالى استجاب لبشر صالحين من عباده ليسوا بأنبياء ولا مرسلين، فحقق لهم من الخوارق بدون آلة ما قد يعجز البشر عن بعضه حتى بالآلة
فلقد روى ابن تيمية (1) رحمه الله بسنده فقال: فأولياء الله المتقون هم المقتدون بسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بيّن لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف في قلوبهم من أنواره، ولهم من الكرامات التي يكرم الله أولياءه المتقين بها ..(2)
وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسولصلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر(3)، وتسبيح الحصى في كفه(4)، وإتيان الشجر إليه(5)، وحنين الجذع إليه(6)، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس(7) وإخباره بما كان وما يكون(8)، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور(9) وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفاً(10)، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه(11)، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعـمائة أو خمسمائة (12)، وردّه لعين قتادة (13)، حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه (14)، ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية لقتل كعب بن الأشرف ، وقع الحارث بن أوس بن معاذ وانكسرت رجله، فمسحها فبرئت (15)، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلاً منهم حزّ له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثمّ فضل فضلة (16)، ودين عبد الله أبي جابر لليهود وهو ثلاثون وسقاً، قال جابر فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل، فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ قال لجابر : "جدّ له" فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا (17) ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة .
ولا يزال الكلام لابن تيمية رحمه الله :
وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداً:
مثلما كان لأُسيّد بن حضير (18) يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلّة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته ، وكانت الملائكة تسلّم على عمران بن حصين (19)، وكان سليمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحّت الصحفة أو سبّح ما فيها(20)، وعبّاد بن بشر وأسيّد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما(21) .
ونحن نقول :
أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة من آيات الله عجباً ؟
ويضيف بن تيمية رحمه الله تعالى فيقول : وقصّة الصدّيق في الصحيحين ، لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلاّ ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا حتى شبعوا (22)، و خبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتي بعنب يأكلّه وليس بمكة عنبة (23) .
وعامر بن فهيرة قُـتل شهيداً فالتمسوا جسدهُ فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل قد رفع، وقال عروة فيرون الملائكه رفعته(24) .
وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولاماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسّاً على رأسها فرفعت رأسها فإذا دلو معلق فشربت حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها (25) .
أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة كانت من آيات الله عجبا؟
و لايزال الكلام لابن تيمية : وسفينـة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنّه رسول رسول اللهصلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده(26) .
و البراء بن مالك(27) كان إذا أقسم على الله أبرّ قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء أقسمْ على ربك فيقول : يا رب أقسمت عليك لمّا منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلمّا كان يوم القادسية قال أقسمت عليك يا رب لمّا منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد!فمنحوا أكتافهم وقتل براء شهيداً (28).
وخالد بن الوليد (29). حاصر أسوار مدينة حمـص فقالوا لا نسلّم حتى تشرب السمّ، فشربه فلم يضرّه(30) .
وسعد بن أبي وقاص (31) هو سعد بن مالك ، واسم مالك اهيب بن زهرة ، أبو إسحاق ، قرشي . من كبار السن قديما وهاجر ، وكان أول من رمي بسهم في احد الستة أهل الشورى . وكان مجاب الدعاء جيوش الفرس وفتح الله علي يديه العراق أيام علي ومعاوية . توفي بالمدينة كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلاّ استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق (32) .
وعمر بن الخطّاب لمّا أرسل جيشا أمّر عليهم رجلا يسمى (سارية) فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر : يا سارية الجبل الجبل، يا سارية الجبل الجبل! فقـدم الجيش، فسأل فقال : يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح : يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله (33).
أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت من آيات الله عجبا؟.
ويستمر ابن تيمية رحمه الله تعالى فيقول :
ولما عذبت الزنيرة على الإسلام فأبت إلاّ الإسلام وذهب بصرها قال المشركون : أصاب بصرها اللاّت والعزى ، قالت : كلا والله، فرد الله بصره(34) .
و دعى سعيد بن زيد(35) على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه، فقال اللهمّ إن كانت كاذبة فأعمِ بصرها واقتلها في أرضها، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت(36) .
والعلاء بن الحضرمي (37) كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه : يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم فيستجاب له، و دعى الله أن يسقوا و يتوضؤوا لمّا عدموا الماء و الإسقاء لما بعدهم فأجيب، و دعى الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمّروا كلّهم على الماء وما ابتلت سروج خيولهم، و دعى الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد.. (38) .
أم حسبت أن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم من آيات الله عجبا؟
وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني(39) والكلام لا يزال لابن تيمية: الذي ألقي في النار، فإنـّه مشى ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدّها، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : تفقدون من متاعكم شيئاً حتى أدعو الله عزّ وجلّ فيه؟ فقال بعضهم : فقدت مخلاة، فقال : اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشي فأخذها (40) .
وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوّة فقال له : تشهد أن محمّداً رسول الله؟ قال : نعم . فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائماً يصلي فيها وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله (41) ، وخببت امرأة عليه زوجته (42) فدعا عليها فعميت ، و جاءت فتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرهـا (43) .
و لازلنا في كرامات الصحابة، و لا يزال الكلام لابن تيمية رحمه الله تعالى .
وعامر بن عبد قيس (44) كان يأخذ عطاءه ألفي درهمٍ في كمه وما يلقاه سائل في طريقه إلاّ أعطاه بغير عدد، ثمّ يجيىء إلى بيته فلا يتغير عددها ولاوزنها (45)، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مسّ بثيابه الأسد ثمّ وضع رجله على عنقه وقال : إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحيي أن أخاف شيئاً غيره، ومرّت القافلة (46) ، ودعا الله تعالى أن يهوّن عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار (47)، ودعا ربه أن يمنع قلبه الشيطان في الصلاة فلم يقدر عليه (48) .
أما كرامات التابعين فهي أيضا بلا حصر كما رواها ابن تيمية أيضا فقال :
صلة بن أشيم (49) جاع مرّة بالاهواز فدعا الله عزّ وجلّ واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زماناً (50) .
ويستمر ابن تيمية رحمه الله في سرد هذه الكرامات للصحابة والتابعين فيقول :
ولما مات أويس القرني (51) وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه قبل ووجدوا له قبراً محفوراً في لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب (52) .
وكان مطرف بن عبد الله الشخير(53) إذا دخل بيته سبّحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط(54) .
وكان عتبة الغلام (55) قد سأل ربه ثلاث خصال صوتا حسنا، ودمعا غزيرا، وطعاماً من غير تكلف فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية، وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته لا يدري من أين يأتيه(56) .
وكان عبد الواحد بن زيد (57) أصابه، الفالج فسأل ربه ان يطلق له أعضاءه وقت الوضوء، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثمّ تعود بعده(58) .
وختم ابن تيمية رحمه الله هذا الباب بقوله وهذا باب واسع ... قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضوع، وأما ما نعرفه عن أعيانه، ونعرفه في هذا الزمان فكثير(59) .
ونقول بعد ذلك : أي كرامة من هذه الكرامات التي أثبتها ابن تيمية رحمه الله هي من المعقول أو من الأمور التي يقرّها العلم وقواعد الحياة ؟
ففي بحر الكرامات هذا أكثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرى صورته بعض أحبابه الصالحين وهي محفوظة في علم الله كما حفظت صورة المئات من الأموات في علم الإنسان المترجم إلى شريط أو فلم أو نحوها ، أم حسبت أن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة كانت من آيات الله عجبا؟.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ أحَدٍ يُسَلِّمُ عَليَّ إِلاَّ رَدَّ اللهُ عَليَّ رُوحي حتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ (60) .فماذا بقي من حاجز بين الأحياء وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلاشى حاجز الموت بينهم .
وسعيد بن المسيب(61) رحمه الله كان يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مرات في اليوم، وذلك في أيام الحرّة حين أغلق المسجد ومنع الناس من الدخول إليه ولم يكن يسمح لأحد إلا لسعيد بن المسيّب(62)
فمن أين كان يأتي صوت الأذان من القبر؟ (63).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مِنْ أَشَدّ أُمّتِي لِي حُبّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي ، يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي، بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ (64) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: السّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهَ بِكُمْ لاَحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا! قَالُوا: أَوَ لَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ .(65).
والسؤال أين تقع هذه الرؤية التي يتمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتمناها أحبابه؟
لابدّ أنّها تقع في الدنيا وذلك لأمرين : أحدهما : أن أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنون ذلك ويدفعون أموالهم وأهليهم ثمناً لذلك، وهذا لا يكون إلاّ في الدنيا، والثاني : أن كل الناس يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، إذن تعينت الرؤية في الدنيا وحينئذٍ نقول : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى أمراً مستحيلاً أم ممكناً؟
وعن أوس بن أوس (66) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة عليّ قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ( أي بليت) ؟ فقال : إن الله حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء(67).
وعن أبي الدرداء (68) رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإن أحداً لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها قال : قلت : وبعد الموت؟ قال : إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (69) .
والسؤال ما هو وجه المنع في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة إذا كانت صلاتنا عليه تعرض عليه؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله ملائكة سيّاحين يبلغونني عن أمتي السلام (70).
فإذا كانت الملائكة تبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة أمّتهِ عليه، فلا بد أن في الأمر خصوصية من حيث إمكان الرؤية، كما لا يخفى أن عدم رؤية البعض لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا ينفي عدم وجودها لآخرين أو عدم وجوده في حقيقة الأمر، فقد روى ابن تيمية : إن الحسن البصري تغيّب عن الحجاج، فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عزّ وجلّ فلم يرهُ منهم أحد وكان أصحابه يرونه في تلك الساعة و لا يراهُ حجّاب الـحجاج (72) .
والسؤال أين كان الحسن البصري ساعة لم يكن الحرس يرونه؟ هل كان موجوداً أم كان معدوماً ؟ ولماذا يراه البعض ويحجب عنه البعض الأخر؟ .. وماذا يمكن أن نستدل بذلك على جواز رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة من بعض الناس دون بعض؟.
إن الخضر عليه السلام موجود يرى ويُرى من بعض صالحي هذه الأمة، وقد تواتر النقل عن كثير من صالحي الأمة منذُ الرسالة إلى يومنا هذا أنهّم يرونَ الخضر عليه السلام بأشكال عدّة، فإذا كان الخضر يُرى فلماذا لا يُرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والمرسلين؟ وإذا كان الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون فلماذا لا يكون الأنبياء أحياء أيضاً وهم أفضل من الشهداء؟ خاصة قد صح أنّه صلى الله عليه وسلم أمّهم ليلة الإسراء حيث صلّى الأنبياء خلفهُ (73) .
كما صح النقل عن قوم رأوا الخضر، فقد صحّ النقل عن قوم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرونه يقظة وهؤلاء القوم وإن لم يكونوا معصومين إلا إن صلاحهم وثقة الناس بهم ومدى خوفهم من الله ومدى حبهم لرسوله ومدى حذرهم من الكذب يجعلهم في حكم المعصومين في مسألة إخبارهم برؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة ومن هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي و .. والشيخ النّبهاني رضي الله عنهم أجمعين .
وإذا قلنا : إن هذا الإنسان لا يكذب ولكنه يتخيل فالسؤال هو لماذا يحدث هذا التخيل لفلان من الناس دون فلان؟ وحينئذ فإن الجواب الوحيد هو : لأنّ فلاناً هذا كثير التفكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فامتلأ عقله الباطن بصورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيّل إليه وهو من باب قوله عليه الصلاة والسلام : الرؤيا ثلاثة : فبشرى من الله، وحديث النفس، وتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصها إن شاء، وإذا رأى شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل (74) .
وحينئذ نقول هل هذا من علامات الصلاح أو من علامات الفساد؟ ولا بد أن يكون الجواب هذا من علامات الصلاح إن يمتلئ قلبك بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فان كان الأمر كذلك فما هو وجه التشنيع على أمثال هؤلاء بالابتداع، والخرافة، والتدليس، والتلبيس ونحو ذلك، على فرض كونه تخيلاً، فماذا ونحن نبرهن على أنّه حقيقة ومشاهدة وصلاح نفس .
ولا شك أن من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام تكون له ميزة على غيره بالوعد بأنّه سيراه حقاً، كما هو نص الحديث من رآني في المنام فسيراني في اليقظة (75) فأين تكون هذه الرؤية؟ إن كانت في الآخرة فهي عامة لكل الناس من رآه في المنام ومن لم يره، وإن كانت في الدنيا فالأمر واضح، إلا أن النص الآخر الوارد في الحديث هو الذي النظر حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رأني في المنام فقد رأى الحق (76) أي رأى الأمر الحق، فالحق صفة لموصوف محذوف تقديره الأمر الحق، أو الرسول الحق، أو المقصود الحق وهكذا، فماذا يعني هذا التعبير وما المانع أن نقول : أن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام كرؤيته في اليقظة من حيث إن كليهما رؤية حقيقية لشخصه الكريم وهذه الرؤيا جزء من النبوّة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات (77) وقد قال المفسرون كثيراً في قوله تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [يونس 62- 64 ] ومن المبشرات بل من أعظمها في الحياة الدنيا أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما يقول ابن تيمية رحمه الله في كلامه المتقدم عن كرامات الأولياء إن ذلك داخل في معجزات الأنبياء فقال بالحرف الواحد : وكرامـات أولياء الله إنما حصلت ببركة إتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم (78) .
وقد تواتر النقل عن بعض الناس رأوا بعض موتاهم يقظة في عرفات وحول قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن امرأة لا تزال على قيد الحياة وهي أستاذة جامعية تاهت في دولة أوربية في طريقها إلى محل زوجها هناك فأصابها من ذلك رعب شديد، حيث لم يعد معها من المال ما يكفي للعودة إلى مسكنها وأوشكت على الانهيار، إلاّ أنهّا فوجئت بوالدها المتوفى أمامها! فمدّ يدهُ إلى جيبهِ فأخرج لها مبلغاً من المال ودلّها على طريق العودة! وما من سبب يدعونا للشك في هذه القصة، حيث لا يوجد سبب واحد يدعوها لاختراعها، بل إنهّا هي الأخرى تتساءل عن تفسير ذلك وهي كالمذهولة، لأنهّا بعيدة عن فهم العالم الذي نتحدثّ عنه، نظراً لأن ثقافتها أجنبية رغم كونها تصلي وتصوم .
ما دمنا نسلّم بالخوارق على وجه العموم بشقّيها الكرامات و الإستدراجات فإن الإقرار ببعض وإنكار البعض الأخر تحكم من غير دليل، فما بالك؟!.
وإن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة قام عليها أكثر من دليل؟.
إن معجزة الإسراء والمعراج أعظم بكثير من حيث خطورتها وعظمتها من رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة، لأن الأولى منافية لكل قواعد العلم والسنن الكونية، وليست الرؤية كذلك، فمن يؤمن بالإسراء والمعراج يسهل عليهِ الإيمان و الاقتناع بالرؤية، ورضي الله عن سيّدنا أبي بكر الذي أستدلَ على صحة الإسراء والمعراج بمثل ما نحاول الاستدلال به من هذه الفقرة، حيث قال : إن قالها فقد صدق، فإذا كنت أؤمن بأن جبريل يأتيه من السماء إلى الأرض، فلماذا لا أومن بأن هو نفسه يذهب إلى جبريل من الأرض إلى السماء؟.
تأمل في الاستدلال، ولهذا كان لأبي بكر ميزة بشيء وقر في قلبه، وهذا الشيء هو مدى حبه وتعظيمه ومعرفته قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال عنه : إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر الصدّيق (79) فعلى قدر حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفتك مقامه وجليل مكانته وكبير قدره تفهم هذه الأمور.
الفصل الثاني
أقوال العلماء والأولياء وتعليقاتهم
عقلاً إن هذه الرؤية ليست مستحيلة ما دامت هي حالة برزخية ورؤية كشف وبصيرة قلبية، ومن الأمور البديهية إن كل علم أو فن، إنّما يؤخذ عن أهله، وإن فاقد الشيء لا يعطيه، كما وإن إنكار الأعمى على البصير في رؤية الشمس غير مقبول شرعاً وعقلاً وعادةً، وليس من الإنصاف أن يعترض نجار على كيمياوي أو فيزياوي فيما ثبت لديه من علم يقيني في البحوث والمختبرات .
ولما كانت هذه الرؤية منوطة بأهل القلوب وذوي الصفاء والبصيرة، الذين ينهلون فتوحاتهم من مراتب الإحسان ومناهل الشهود، فحرّي بنا سماع شهادة أهل الاختصاص في هذا الميدان العظيم، لا سيما وإن الذين نقل أخبارهم أئمة ثقات عرفتهم الأمة الإسلامية بالولاية تواتراً وقد تفاوتت أزمانهم وأماكنهم وليس فيهم من غاب عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (80)، كيف لا؟ وهم أحباب الله وخاصّة الصادقين .
1. ما وقع للسيّد أحمد الرفاعي الحسيني رضي الله عنه (81) عام خمس وخمسين وخمسمائة العام الذي رزقه الله فيه الحج، فلما وصل المدينة المنورة وقف تجاه الروضة المطهرّة المعطرة، وقال على رؤوس الأشهاد وبمحضر آلاف العباد السلام عليك يا جدّي!.
فقال صلى الله عليه وسلم… : وعليك السلام يا ولدي! سمع ذلك كل من في المسجد النّبوي، فتواجد السيّد أحمد وارتعد وأصفّر لونه، وجثا على ركبتيه ثمّ قام وبكى وأنّ وحنّ طويلاً وقال : يا جداه
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبّل الأرض عني وهي نـائبـتي
فهذه دولة الأشباح قــد حضرت فامدد يميـنك كي تحظى بها شفتي
فمّد له رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة المباركة من مرقده الأزهر فقّبلها!!(82)
وقد أفرد لإثبات هذه الكرامة الباهرة الأمام الحافظ جلال الدين السيوطي والإمام الرافعي من أجلة علماء الشافعية وكذا العلاّمة أبو القاسم أبن السيّد إبراهيم البرزنجي كل برسالة على حدة ، هي الشرف المحتم وسواد العينين وإجابة الداعي .
2. عن سيّدنا عبد القادر الجيلاني قدس سره (83) قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر، فقال لي : يا بنّي لم لا تتكلّم؟ ، فقلت : يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلّم على فصحاء بغداد؟ فقال : افتح فاك، ففتحته فتفل فيه سبعاً وقال : تكلّم على الناس، وأدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فأرتّج عليّ، فرأيت عليّا كرّم الله وجه قائماً بإزائي في المجلس فقال : يا بنّي لم لا تتكلّم؟ فقلت : يا أبتاه أرتج عليّ، فقال : افتح فاك . ففتحه فتفل فيه ستاً، فقلت لمَ لمْ تكملها سبعاً؟ قال: أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (84) .
3. قال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رضي الله عنه : رأيت جميع الرسل والأنبياء مشاهدة عين وعاشرت من الرسل محمّداً صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهوداً، وداود وما بقي فرؤية لا صحبة(85) .
4. قال أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي رضي الله عنه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حقيقة المتابعة؟ فقال : رؤية المتبوع عند كل شيء، ومع كل شيء، وفي كل شيء(86).
5 - وكان الشيخ أبو العباس أحمد التيجاني رضي الله عنه يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة، حتى سأله عن صحة نسبه إليه عليه الصلاة والسلام؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم : أنت ولدي حقاً، أنت ولدي حقاً، أنت ولدي حقاً، نسبك إلى الحسن بن علي صحيح (87) .
6- عن سيّدنا علي الخوّاص رضي الله عنه (88) شيخ الشعراني أنّه كان يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ويخبر عنه بالأمور المستقبلة في أوقات معينة فلا تخطيء أبداً من وباء أو قحط أو موت سلطان ونحو ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبره بنزول بلاء في وقت معيّن يتأهب لذلك بكثرة الاستغفار والتضرع، ولا يأكل ولا ينام حتى ينقضي أمده(89) .
7- قال الإمام الشعراني (90): ومما أنعم الله تبارك وتعالى به عليّ شدة قربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وطّي المسافة بيني وبين قبره الشريف في أكثر الأوقات حتى ربما أضع يدي على مقصورته وأنا جالس بمصر وأكلمه كما يكلم الإنسان جليسه وهذا الأمر لا يدرك إلا ذوقاً(91).
وقال أيضاً : وأخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نتبع السنّة المحمّدية في جميع أقوالها وأفعالها وعقائدها، فإن لم نعرف لذلك الأمر دليلاً في الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس توقفنا عن العمل به، ثمّ ننظر فإن كان ذلك الأمر قد أستحسنه بعض العلماء استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ثمّ فعلناه أدبا مع ذلك العالم وذلك كلّه خوف الابتداع في الشريعة المطهرّة فنكون في جملة الأئمة المضلين وقد شاورته صلى الله عليه وسلم في قول بعضهم : أنّه ينبغي أن يقول المصلي في سجود السهو سبحان من لا ينام ولا يسهو فقال : هو حسن (92) .
8- عن الشيخ احمد بن أدريس المغربي(93) ، كان له شيخ محقق من علماء شنقيط مشهورٌ بالعلامة المجيدري وكان يتردد إلى مدينة فاس حيناً فحيناً، وكان سيّدي احمد رضي الله عنه حين طلب إقامته بفاس يسرد عليه بعض الكتب المطولة ظننت أنهّا من كتب الحديث والدين غير المتداولة هناك، فمرّةً أراد الرجوع إلى شنقيط وقد بقي بعض تلك الكتب التي شرحها ولم يتمّها، فقال له : يا سيّدي لو تأذن لي بالسفر معك لأّتمم تلك الكتب؟ فقال له : اصبر حتى استأذن لك شيخي فقال له : هل لك شيخ؟ قال : نعم هو سيّدي عبد الوهاب التازي رضي الله عنه فاستغرب سيّدي احمد من كونه شيخا له لأنّه رضي الله عنه كان خامل الذكر لم يعرف مقامه أكثر الناس، ثمّ ردّ له المجيدري بعد قليل إن الشيخ لم يأذن لي في ذلك، وقال لي : أئتني به أجمعه برسول الله صلى الله عليه وسلم فازداد تعجباً من ذلك! فذهب سيّدي احمد مع المجيدري إلى سيّدي عبد الوهاب وأخذ عنه الطريق وأقبل عليه ولازمه وانقطع بكليته لديه (94) .
9 - عن الشيخ إبراهيم المتبولي رضي الله عنه (95) : كان من أصحاب الدوائر الكبرى في الولاية ولم يكن له شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيراً في المنام فيخبر بذلك أمه، فتقول : يا ولدي إنما الرجل الذي يجتمع به في اليقظة! فلما صار يجتمع به في اليقظة ويشاوره في أموره قالت له : الآن قد شرعت في مقام الرجولية(96).
وعن المتبولي رضي الله عنه أيضاً : نحن في الدنيا خمسة لا شيخ لنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجعيدي ( يعني نفسه ) والشيخ أبو مدين(97)، والشيخ عبد الرحيم القناوي، والشيخ أبو السعود ابن أبي العشائر(98)، والشيخ أبو الحسن الشاذلي(99) رضي الله عنهم أجمعين(100) .
9. وعن الشيخ أحمد أبي العباس المرسي رضي الله عنه (101) قال : لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، وفي لفظ آخر : لو حجبت عني جنّة الفردوس طرفة عين أو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فاتني الوقوف بعرفة سنة واحدة ما عددت نفسي من جملة الرجال(102) .
10. عن الشيخ أبي المواهب محمّد الشاذلي رضي الله عنه (103) : كان رضي الله عنه كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أخباره أنّه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على سطح الجامع الأزهر عام خمسة وعشرين وثمانمائة فوضع يده على قلبي وقال: يا ولدي الغيبة حرام، ألم تسمع قول الله تعالى : { وَلاَ يَغْتَبّ بَعضُكُمْ بَعْضاً } [الحجرات 12 ] وكان قد جلس عندي جماعة فاغتابوا بعض الناس، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: فان كان ولابد من سماعك غيبة الناس فاقرأ سورة الإخلاص والمعوّذتين وأهدِ ثوابها للمغتاب فان الغيبة والثواب يتوارثان و يتواقفان إن شاء الله تعالى، ثمّ قال لي: ثمّ تقول : اللهمّ اقل عثراتنا اللهمّ اغفر زلاتنا وتصلي عليّ وتقول وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين(104) .
وعنه أيضاً : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّل فمي وقال : أقبّل هذا الفم الذي يصلي عليّ ألفاً بالنهار وألفاً بالليل، ثمّ قال لي : وما أحسن { إنَّاْ أَعْطَيْنَاْكَ الْكَوْثَرَ.. } (الكوثر 1) لو كانت وردك بالليل (105) .
11. ونقل الشيخ عبد القادر الشاذلي عن شيخه الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله أنّه قال : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظةً فقال لي : يا شيخ الحديث ، فقلت له : يا رسول الله أمن أهل الجنّة أنا؟ قال : نعم ، فقلت : من غير عذاب يسبق؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لك ذلك .
وأضاف الشيخ عبد القادر الشاذلي قال : قلت له : سيّدي كم رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقظة؟ فقال : بضعاً وسبعين مرّة (106) .
12. وذكر الشيخ الشعراني رضي الله عنه في مقدّمة الميزان الكبرى ، رأيت ورقة بخط الشيخ جلال الدين السيوطي عند أحد أصحابه وهو الشيخ عبد القادر الشاذلي مراسلة لشخص في مسألة شفاعة عند السلطان قايتباي رحمه الله : اعلم يا أخي أنني قد اجتمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتي هذا خمساً وسبعين مرّة يقظة ومشافهة ولولا خوفي من احتجابه صلى الله عليه وسلم عني بسبب دخولي للولاة لطلعت القلعة وشفعت فيك عند السلطان وإني رجل من خدّام حديثه صلى الله عليه وسلم وأحتاج إليه في تصحيح الأحاديث التي ضعفها المحدثون من طريقهم ولا شك أن نفع ذلك أرجح من نفعك أنت يا أخي!
وأضاف الشعراني رضي الله عنه : ويؤيد الشيخ جلال الدين في ذلك ما اشتهر عن سيّدي محمّد بن زين المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة، ولما حج كلّمه من داخل القبر ولم يزل هذا مقامه حتى طلب منه شخص من النحراوية أن يشفع له عند حاكم البلد فلما دخل عليه أجلسه على بساط، فانقطعت عنه الرؤية فلم يزل يتطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤية حتى قرأ له شعراً فترآى له من بعيد فقال : تطلب رؤيتي مع جلوسك على بساط الظلمة؟ لا سبيل إلى ذلك! فلم يبلغنا أنّه رأه بعد ذلك حتى مات(107).
13. وعن الشيخ أبي السعود بن أبي العشائر قال : كنت أزور شيخنا أبا العباس البصير أحمد بن محمّد بن عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي الأندلسي، برع في علوم الشرع ببلده ثمّ سافر على قدم التجريد فدخل الصعيد ثمّ أقام بالقاهرة يقرىء الناس وينفعهم، أجاز سبعة آلاف رجل بالقراءات السبع، وكان بارعاً في الحديث حافظاً لمتونه عارفاً بعلله ورجاله حسن الاستنباط بذهن وقد، مات سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فلما انقطعت واشتغلت وفتح عليّ لم يكن لي شيخ إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر أنّه كان يصافحه عقب كل صلاة، وذلك يقظة وحسبه بذلك شرفاً (108) .
14. عن الشيخ خليفة بن موسى النهرملكي رضي الله عنه : كان كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرّة، قال له في إحداهن : يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي (109).
15. عن الشيخ موسى بن ماهين الزولي رضي الله عنه (110) : كان رضي الله عنه كثير المشاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أغلب أفعاله بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم (111) .
عن سيّدنا الشيخ محمّد بن أحمد النّبهان الحلبي رضي الله عنه قال :
• كنت أجلس معه صلى الله عليه وسلم لا أريد مفارقته ولا يريد مفارقتي، وكان يمشي معي في الطريق، ويعلمني كل شيء فإذا أردت أن أنفك عنه لا أقدر، حتى سلّمني إلى الحضرة الإلهية (112) .
• أجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة واكلمه كما يكلم الجليس جليسه .
• الرسول صلى الله عليه وسلم إمامنا وأمامنا وصديقنا، وإذا صدقتم فهو يمشي معكم في الطريق (113) .
والأخبار كثيرة، ومن أراد مزيداً فعليه بكتاب ( الحاوي للفتاوى ) للإمام السيوطي، و( سعادة الدارين ) للشيخ يوسف ابن إسماعيل النّبهاني، ( وتعريف الخلف برجال السلف ) لأبي القاسم الحفناوي، حيث أشار الأخير إلى حصول هذه الرؤية لعدد من العلماء المغاربة .
أدلة المحدثين
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، ولا يتمثل الشيطان بي (114)
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلنّ عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فلا يقبله أحد، ثمّ لئن قام على قبري وقال يا محمّد لأجيبنَّه (115).
وفي لفظ آخر : ليهبطنَّ أبن مريم حكماً عدلاً و إماماً مقسطاً وليسلكنّ فجاً حاجاً أو معتمراً و ليأتين قبري حتى يسلّم عليّ ولأردنَّ عليه (116) .
3. وأخرج الطبراني عن ضمرة بن ثعلبة (117) أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ادع الله لي بالشهادة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : اللهمّ حرّم دم إبن ثعلبة على المشركين والكفّار قال : فكنت أحمل في عرض القوم فيتراءى لي النبيّصلى الله عليه وسلم خلفهم فقال : يا ابن ثعلبة إنك لتغرر وتحمل على القوم، فقال : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم يترآى لي خلفهم فأحمل عليهم حتى أقف عنده، ثمّ يترآى لي أصحابي فأحمل حتى أكون مع أصحابي (118)
مناقشة في الدليل الأول
قوله عليه الصلاة والسلام : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي (119).
أقوال علماء الحديث وتعليقاتهم على هذه الرؤية :
• قال الأمام المحّدث عبد الله بن أبي جمرة (120) : ظاهر الحديث يدلّ على حكمين : عبد الله بن أبي جمرة السبتي المالكي خطيب غرناطة أبو محمّد روى عن الربيع بن سالم أحدهما : أنّه من رآه صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة .
الثاني : الإخبار بأن الشيطان لا يتمثل به عليه السلام، والكلام عليه من وجوه
أن يقال : هل هذا على عمومه في حياته عليه السلام وبعد مماته؟ أو في حياته ليس إلا؟.
وهل يتمثل بغيره من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين؟ أو هذا من الأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام؟
وهل ذلك لكل من رأه مطلقاً أو خاصاً لمن فيه الأهلية والإتباع لسنتّه عليه السلام؟.
أما قولنا : هل هذا على العموم في حياته عليه السلام وفي مماته أم في حياته لا غير؟
اللفظ يعطي العموم ومن يدّعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم فمتعسف .
وقد وقع من بعض الناس عدم التصديق بعمومه، وقال على ما أعطاه به عقله وكيف يكون من هو في دار البقاء يرى في دار الفناء؟ وفي هذا القول وجهان خطيران :
أحدها : أنّه قد يقع في عدم التصديق لعموم قول الصادق عليه السلام الذي لا ينطق عن الهوى .
والثاني : الجهل بقدرة القادر وتعجيزها، كأنّه لم يسمع في قصة البقرة وكيف قال الله عزّ وجلّ : { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 73]، فضرب قبر الميّت أو هو نفسه ببعض البقرة فقام حيّاً سوياً، وأخبرهم بقاتله وذلك بعد أربعين سنة على ما ذكره أهل العلم لأن بني إسرائيل تأخر أمرهم في طلب البقرة على الصفة التي نعتت لهم أربعين سنة، وحينئذ وجدوها، وكما أخبر أيضاً في السورة نفسها في قصة العزير، وقصة إبراهيم عليه السلام في الأربع من الطير وكيف قصّ علينا في شأنهما، فالذي جعل ضرب الميّت ببعض البقرة سبباً لحياته، وجعل دعاء إبراهيم عليه السلام سبباً لإحياء الطيور، وجعل تعجّب العزير سبباً لإحيائه وإحياء حماره بعد بقائه مائة سنة ميّتاً : قادر على أن يجعل رؤيته صلى الله عليه وسلم في النوم سبباّ لرؤيته في اليقظة (121) .
والمنكر لهذا لا يخلو أن يصدّق بكرامات الأولياء أو يكذب بها، فإن كان ممن يكذب بها سقط البحث معه فانّه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وقد تكلّمنا على هذا أول الكتاب وبينّاه بما فيه الكفاية بفضل الله تعالى، وإن كان مصدقاً بها فهذه من ذلك القبيل لأن الأولياء تكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي والسفلي عديدة فلا تنكر هذا مع التصديق بذلك .
وأما قولنا : هل جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام مثله عليه والسلام، في ذلك لا يتمثل الشيطان على صورهم أو خاص به صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟.
فليس في الحديث ما يدلّ على الخصوص قطعاً ولا على العموم قطعاً، ولا هذه الأمور مما تؤخذ بالقياس ولا بالعقل، وما يعلم من علو مكانتهم عند الله يشعر أن العناية تعمهم فإنهّم صلوات الله عليهم أجمعين أتوا إلى لإزالة الشيطان وخزيه، فأشعر ذلك أن الشيطان لا يتمثل بصورهم المباركة، كما اخبر عليه السلام في كرامته وكرامتهم أن لحومهم على الأرض حرام حتى تخرجهم كما جعلوا فيها كذلك تساويهم في هذه الكرامة والله اعلم .
وأما قولنا : هل ذلك على عمومه لكل من رآه عليه السلام أو خاص، فاعلم الخير كلّه المقطوع به والمنصوص عليه والمشار إليه بأدلّة الشرع قواعد إنما هو لأهل التوفيق ويبقى في غيرهم على طريق الرجاء للجهل بعاقبتهم فلعلهم ممن قد سبقت لهم سعادة في الأزل فلا يقطع عليهم باليأس من الخير(122) .
وأكثر ما يقع ذلك للعامة قبل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روحه من جسده حتى يراه وفاء بوعده صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، أما غيرهم فيحصل لهم ذلك بقلة أو كثرة بحسب تأهلهم وتعقلهم و اتباعهم للسنة، إذ الإخلال بها مانع كبير!
وأشار الإمام ابن حجر الهيتمي (123) إلى معنى الحديث المذكور فقال : واحتمال إرادة القيامة بعيد من لفظ اليقظة على أنّه لا فائدة من التقيد حينئذٍ، لأن أمته كلّهم يرونه يوم القيامة، من رآه في المنام ومن لم يره في المنام (124)
وسئل رحمه الله تعالى : هل يمكن الاجتماع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة والتلقي منه؟ فأجاب بقوله : نعم يمكن ذلك، فقد صرح بأن ذلك من كرامات الأولياء الغزالي (125) والبارزي (126) والتاج السبكي (127) والعفيف اليافعي (128) من الشافعية والقرطبي وابن أبي جمرة من المالكية(129) .
يفهم كلام الهيتمي رحمه الله ان النوم ظاهرة دنيوية يبعد حمل المعنى على الأخرة،قال أبن بطّال (130): قوله فسيراني في اليقظة يريد تصديـق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها وخروجها على الحق وليس المراد أنّه يراه في الأخرة لأنّه سيراه يوم القيامة في اليقظة فتراه جميع أمته من رآه في النوم ومن لم ير منهم(131) .
وقال أبن التين(132) : المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذٍ غائباً عنه، فيكون بهذا مبشراً لكل من آمن به ولم يره أنّه لابدّ أن يراه في اليقظة قبل موته(133) .
قال ابن الحاج المالكي(134) في المدخل : وقلّ من يقع له ذلك الأمر، إلاّ من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان بل عدمت غالباً، مع أننا لاننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم(135) .
قال الخطيب القسطلاني (136): فلا يمتنع من الخواص أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف بحيث لا يسكنون لشيء مما يقع لهم من الكرامات فضلاً عن التحدث بها لغير ضرورة مع السعي في التخلص من الكدورات والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله وأنّه يرى النبيّ كالشيخ عبد القادر الكيلاني (137) .
قال الإمام الغزالي (138): ومن أول الطريقة تبتدأ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهّم في يقظتهم (يعني أرباب القلوب ) يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم ويقتبسون منهم فوائد، ثمّ يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال الى درجات يضيق عنها نطاق النطق!(139)
وقال الشيخ عبد العزيز الدباغ : (140) واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب! ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة، وكيف لا؟ وهو الذي لا يغيب عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله لحظة، فهو العارف بمراد النبيّ صلى الله عليه وسلم وبمراد الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها (141) .
دليـل أهل الأصول
قال الإمام الشاطبي (142): فصل ومنها بطلان الكرامات التي لا أصل لها في المعجزات
ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته فهي صحيحة، وان لم يكن لها أصل فغير صحيحة (143) .
وقال الملا علي القاري : إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول : إن كل ما كان معجزة للنبي جاز أن يكون كرامة لولي بشرط عدم التحدي(144) .
وأورد الأمام الشعراني رضي الله عنه إجماع العلماء على هذا الأصل(145).
إذن فرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة بعد وفاته تبعاً لهذا الأصل حيث أنّه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالرسل والأنبياء يقظة بعد وفاتهم وصلّى بهم ليلة أسرى به .
وهل أن الذي يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة صحابي أم لا؟
أورد شهاب الدين بن حجر العسقلاني(146)
في الحديث المتقدم ستة أوجه قال في أحدها :
أنّه يراه صلى الله عليه وسلم في الدنيا حقيقة ويخاطبه، وقال عنه : وهذا مشكل جداً، ولو حمل على الظاهر لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة .
ويعكر عليه أن جمعاً رأوه في المنام لم يذكر واحد منهم أنّه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف(147) ودفع إشكال أبن الشيخ علي العزيزي المتوفى في 1070 هـ .
قال : وأقول الجواب على الأول : منع الملازمة لأن شرط الصحبة أن يراه وهو في عالم الدنيا وذلك قبل موته، أما رؤيته بعد الموت وهو في عالم البرزخ فلا تثبت بها الصحبة .
وعن الثاني : أن الظاهر إن من لم يبلغ درجة الكرامات ممن هو في عموم المؤمنين أنما تقع له رؤيته قرب موته عند طلوع روحه أو عند الاحتضار، ويكرم الله من شاء قبل ذلك فلا يختلف الحديث .
أما أصل رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة فقد نص على إمكانها ووقوعها جماعة من الأئمة (148) .
قال الشيخ يوسف بن اسماعيل النّبهاني (149): ولا يلزم من وقوع ذلك منهم على جهة الكرامة الباهرة أنهّم صحابة، لأنّ الصحبة انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم وإذا كان من رآه بعد موته قبل دفنه غير صحابي فهؤلاء كذلك بالأولى، فاندفع قول فتح الباري، وهذا مشكل جداً ولو حمل على ظاهره كانوا صحابة (150)
وإليك كلام الإمام بديع الزمان سعيد النورسي في هذا الباب:
قال رحمه الله : لا يستطيع أن يرقى أعظم ولّي من أولياء الله الصالحين إلى مرتبة صحابي كريم للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بل حتى لو تشرف أولياء صالحون مراراً بصحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصحوة كجلال الدين السيوطي(151) مثلاً وأكرموا بلقائه يقظة في هذا العالم فلا يبلغون أيضاً درجة الصحابة ؛ لأن صحبة الصحابة الكرام للنبي عليه السلام كانت بنور النبوّة أي كانوا يصحبّونه في حالة كونه نبياً ورسولا، أمّا الأولياء الصالحون فان رؤيتهم له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته أي بعد انقطاع الوحي فهي صحبة بنور الولاية أي أن تمثل الرسول صلى الله عليه وسلم وظهوره لنظرهم إنما هو من حيث الولاية المحمّدية وليس باعتبار النبوّة، فما دام الأمر هكذا فلا بد أن تتفاوت الصحبتان بمقدار سموّ درجة النبوّة وعلوها على مرتبة الولاية (152) .
الفصـل الثالـث
كيفية الرؤية
• قال تعالى في الحديث القدسي : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويد التي يبطش بها .. الخ (153) فإذا وصل العبد لأن يسمع بالله ويبصر بالله فقد انخرقت لديه الحجب لأن سمع الله وبصره لا يحجبهما شيء .
• وقال صلى الله عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله (154)، قال المناوي في فيض القدير : أي يبصر بعين قلبه المشرق بنور الله تعالى، وباستنارة القلب تصح الفراسة لإنّه يصير بمنزلة المرآة التي تظهر فيها المعلومات كما هي والنظر بمنزلة النقش فيها(155).
• أورد ابن أبي جمرة المالكي في بهجة النفوس : وقد ذكر بعض الصحابة وأظنه ابن عباس رضي الله عنهم أنّه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فتذكر هذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي وبقي متفكراً فيه، ثمّ دخل على بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأظنها ميمونة، فقص عليها قصته فقامت وأخرجت له جبة ومرآة وقالت له : هذه جبته وهذه مرآته صلى الله عليه وسلم قالرضي الله عنه : فنظرت في المرآة ، فرأيت صورة النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم أر لنفسي صورة! (156) .
قال الآلوسي (157) فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنّه بحجاب المرآة، وليس من باب التخيل بالنظر الّذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة والسلام(158) .
ويوضح الأمام أبو حامد الغزالي آفاق السمو الروحي التي يترقى إليها من يفتح الله تعالى عليه، ويمثلها بالطاقة أو النافذة التي ينظر من خلالها فيقول في كيمياء السعادة : ولا تظننّ أنّ هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلّص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة فإذا جلس في مكان خال وعطّل طريق الحواس وفتح عين الباطن وسمْعه وجلس القلب في مناسبة عالم الملكوت وقال دائماً : ( الله الله الله ) بقلبه دون لسانه، إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ولا من العالم ويبقى لا يرى شيئاً إلا الله سبحانه وتعالى(159) انفتحت تلك الطاقة وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم فتظهر له أرواح الملائكة والأنبياء، والصور الحسنة الجميلة الجليلة وانكشف له ملكوت السموات والأرض ورأى مالا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها (160) وقال الله عزّ وجلّ : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام 75]، لأن علوم الأنبياء عليهم السلام كلّها كانت من هذا الطريق لامن طريق الحواس كما قال الله سبحانه و تعالى : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل 8] معناه الانقطاع عن كل شيء وتطهير القلب من كل شيء والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية وهو طريق الصوفية في هذا الزمان(161) .
وعلى أيّة حال فإنهّا واقعة لبعض أحباب الله تعالى، لا يتم الإقناع بها إلاّ بالذوق والكشف الروحاني السليم، فإذا شاء الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته إياه، رآه على هيئته التي هو عليها والله أعلم
وإن إنكار المنكر على هؤلاء الأجلاء يوقع في خطأ كبير وهو تجريح الأثبات من الأئمة والثقات من الصالحين ممن تلقتهم الأمة بالقبول وأطبق على إمامتهم المتقدمون والمتأخرون .
تسـاؤلات!
1.هل تقع الرؤية بعين الرأس أم بعين البصيرة؟
2.وهل تختص بالصالحين؟
3.وهل المرئي جسمه؟ أم روحه أم مثاله؟
4.وهل تستلزم خروجه من القبر أم لا؟
5.وكيف يرى عليه الصلاة والسلام في آن واحد في أقطار متباعدة؟
6.ولماذا لم تظهر هذه الرؤية في صدر الإسلام الأول؟
الأجــوبة
قال ابن علاّن الصديقي الشافعي(162) :
1. هو على ظاهره في من رآه مناماً فلا بد أن يراه يقظة بعيني رأسه، وقيل بعيني قلبه، وحكاهما ابن العربي،(163) وقد نقل عن جمع من الصالحين رؤياه مناماً ثمّ رأوه بعد ذلك يقظةً، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى النجاة من ذلك، وجاء الأمر كذلك، وهذا نوع من كرامات الأولياء، وأكثر ما يقع له ذلك، وقد صرح بوقوع هذه الكرامة جمع منهم الغزالي وابن العربي وابن عبد السلام .
قال الشيخ إبراهيم الباجوري (164) :
2. ولا تختص رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصالحين بل تكون لهم ولغيرهم، وحكي عن بعض العارفين كالشيخ الشاذلي وسيّدي علي وفاء : أنهّم رأوه صلى الله عليه وسلم يقظة، ولا مانع من ذلك فيكشف لهم عنه صلى الله عليه وسلم في قبره فيرونه بعين البصيرة، ولا أثر للقرب والبعد في ذلك، فمن كرامات الأولياء خرق الحجب لهم فلا مانع عقلاً ولا شرعاً
3. أن الله يكرم وليه بأن لا يجعل بينه وبين الذات الشريفة ساتراً وحاجباً (165) .
4. وفي كون المرئي جسمه صلى الله عليه وسلم أو مثاله خلاف، قال بالثاني الغزالي وقال ابن العربي (المالكي) : إن رآه صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة فإدراك على الحقيقة، وإلا فإدراك مثاله، والصحيح أنّه يراه حقيقة سواء رآه على صفته المعروفة أو غيرها، وأيد الحافظ السيوطي قول من فرق بين كون المرئي بصفته أو غيرها فيكون الأول حقيقة والثاني للمثال(166) .
قال الآلوسي في تفسيره : والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض، وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظنّ أنّه رآه صلى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال إنهّا قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية .
والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسلام التي هي أكمل الأرواح تجرداً وتقدساً، بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم مع أن جبريل عليه السلام مع ظهوره بين يدي النبيّ عليهم الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلى الله عليه وسلم المجردة القدسية ولا مانع أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية، عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها، يكون هذا التعليق من قبيل الواحدة بأجزاء بدون واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد .. وغاية ما أقول : إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام (167) .
قلت : لو كان التلفزيون موجوداً آنذاك لأمكن الغزالي والآلوسي وغيرهما التمثيل به بتعدد الجسد المثالي إلى مالا يحصى من الأجساد مع تعلقها جميعاً بكائن واحد في محطة البث التلفزيوني، وهل يكون البث التلفزيوني أقوى وأعمّ من البث المحمّدي وهو سيّد الوجود؟ لاسيّما أن روحه المطلقة صلى الله عليه وسلم دائمة البث والإرسال لا يحجبها البرزخ، فرؤيته عليه الصلاة والسلام وسماع صوته يتوقفان على أجهزة الاستقبال، أعني بها النفوس الزاكية والقلوب الطاهرة والبصيرة الصافية المؤهلة لاستلام الصورة والصوت كليهما أو على انفراد! فالحجب منا لا منه صلى الله عليه وسلم بسبب إهمالنا وتعطيلنا لتلك الأجهزة المقيدة بعالم الشهادة بدلاً من أن تخرق الحجب وتتلقى من عالم الشهود..
5. هل تستلزم رؤيته صلى الله عليه وسلم خروجه من القبر أم لا؟
وأجاب الملا علي القاري الحنفي فقال : إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظةً لا تستلزم خروجه من قبره لأن من كرامات الأولياء كما مرّ أن الله تعالى يخرق لهم الحجب فلا مانع عقلاً ولا شرعاً ولا عادة أن الولي وهو بأقصى المشرق أو المغرب يكرمه الله تعالى بأن لا يجعل بينه وبين الذات الشريفة وهي في محلها من القبر الشريف ساتراً ولا حاجباً، بأن يجعل تلك الحجب كالزجاج الذي يحكي ما وراءه، وحينئذ فيمكن أن يكون الولي يقع نظره عليه الصلاة والسلام، ونحن نعلم أنّه صلى الله عليه وسلم حي في قبره يصلي وإذا أكرم إنسان بوقوع بصره عليه الصلاة والسلام فلا مانع من أن يكرم بمحادثته ومكالمته وسؤاله عن الأشياء وأنّه يجيبه عنها، وهذا كلّه غير منكر شرعاً ولا عقلاً، وإذا كانت المقدّمات والنتيجات غير منكرين عقلاً ولا شرعاً فإنكارهما أو إنكار أحدهما غير ملتفت إليه ولا معوّل عليه(168) .
6. وكيف يرى عليه الصلاة والسلام من أقطار متباعدة في آن واحد؟
أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي (169) فقال : مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق وهو حي في قبره يصلي فيه بأذان وإقامة بأنّه صلى الله عليه وسلم سراج، كما قال تعالى { وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [الأحزاب 46] ونور الشمس في هذا العالم مثال نوره في العوالم، وكما أن الشمس يراها كل من في المشرق والمغرب في ساعة واحدة وهي في محلها وبصفات مختلفة، فكذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ نوره أتمّ وأعلى منها
وهذا الجواب نسبه بعضهم للصوفية (170) .
قال : وهو باطل ( أي الزركشي ) فإنّه صلى الله عليه وسلم يراه زيد في بيته وعمرو كذلك في بيته بجملته والشمس إنما تُرى من أماكن عدة وهي في مكان واحد، فلو رؤيت داخل بيت بجرمها استحال رؤية جرمها داخل بيت آخر وهذا هو الذي يوازي رؤيته صلى الله عليه وسلم .
فالإشكال إنما يريد في رؤيته في مواضع عدة، وإذا ورد بحسب ما قلنا فلا يتجه الجواب إلا بإثبات الأمثال وتعدادها فالمرئي في آن واحد في مكانين مثالان فلا إشكال(171) .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : وليس المراد أنّه يرى بدنه، بل مثالاً له صار آلة يتأدّى بها المعنى، والآلة تكون حقيقية وخيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من التشكيل ليس روح النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله(172) .
وردّ عليه السيوطي فقال : لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال لأنّه عليه الصلاة والسلام حي بروحه(173) .
قال الشيخ يوسف بن إسماعيل النّبهاني رحمه الله في همزيته
هو حي في قبره ولهــذا حرمت من تراثه الزهــراء
ورث العلم والشريعـة لا المـال وورثه العــلمـاء
خصه الله بالحياة على أكمـ ـل حال يسير حيـث يشاء
كم رآه بيقظة ومنـــام من محبيه سادة أصــفيـاء
7. لماذا لم تظهر هذه الرؤية في صدر الإسلام الأول؟
أجاب الآلوسي في تفسيره فقال : وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جداً وأنّى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع! فيمكن أن يكون وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال : إنّه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلى الله عليه وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك(174) .وأضاف رحمه الله فقال : وهذه الرؤية إنما تقع للكاملين الذين لم يخلّوا بإتباع الشريعة قدر شعيرة ومتى قويت المناسبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوى أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوّة الجمعية حينئذٍ(175) .
وقال أيضا : وجوّز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسلام روحانية، ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ عنه يقظة(176) .
وهاك أخي وصية الإمام الشعراني رضي الله عنه : فسلّم يا أخي للفقراء فيما يدّعونه من مثل ذلك ولا تنكر عليهم إلاّ ما صرّحت الشريعة بمنعه، فقد أجمعوا أن من أنكر شيئاً من مقاماتهم حرم الوصول إليه ورب قائل يقول : لو سلّمنا لهؤلاء بما يدّعون فلماذا لا نتذوق ما ذاقوا ونرى ما رأوا؟.
فالجواب : لو أننا سلكنا ما سلكوا وتجردنا كما تجردوا وصفت قلوبنا كما صفت قلوبهم وتزكت أنفسنا كما زكت أنفسهم ورغبنا في الله ورسوله كما رغبوا، لجنينا ما جنوا من ثمرات قال تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا } [ الإسراء 20] .
تنبيه
إن من أخطر الأمور على الإسلام أمرين
أحدهما : أن تقرر قاعدة دينية ثمّ تبني عليها أحكاما، وفي الحقيقة هي ليست قاعدة دينية، وحينئذٍ يفسد كل ما بني عليها من أحكام!
والثاني : أن تقرر قاعدة علمية ثمّ تحاول تطويع الإسلام لها، ثمّ يكتشف بعد فترة من التقدم العلمي أن هذه القاعدة العلمية خطأ وأن القاعدة العلمية الجديدة تقول غير ذلك .
ومن هنا وقع كثير من المسلمين في ورطة! عندما انخدعوا بأحد الأمرين أو بهما، فقد توهم المسلمون أن معرفة نوع الجنين في بطن أمه أمر لا يعرفه إلا الله فجعلوا ذلك قاعدة دينية (177) فجاء جهاز (السونر ) ونحوه من أنواع أجهزة الأشعة فأصبح التعرُّف على نوع الجنين ممكناً، فتبين أن تلك القاعدة ليست قاعدة دينية وأننا كنا مخطئين في فهمها على هذا النحو .
ومثل مسألة صعود الإنسان إلى القمر، فقد صرّح عالم جليل من علماء المسلمين أن ذلك مستحيل بناء على توهُّم قاعدة دينية(178)، فتبين أنّه واهم في تلك القاعدة، فقد هبط الكثيرون على القمر، ويقول الدكتور ( فاروق الباز ) الذي كان مرافقاً (لجيمس أروين ) وهو يلقي محاضرته عن مركبته الفضائية التي صعد بها إلى القمر يقول :
لقد استغل الغربيون النصارى هذه الفتوى أشد الاستغلال، فكانوا يوزعونها مطبوعة على الآف الحاضرين في إطلاق أي مركبة الى الفضاء بعد ذلك، ليبدو الإسلام والمسلمون حمقى في نظر الجمهور المحتشد حول قاعدة إطلاق الصواريخ ساعة إطلاقها .
والسؤال الآن ما هي القاعدة الدينية التي يستند إليها من يمنع رؤية المصطفى يقظة؟ نجد أن أبرز قواعدهم هي قوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر 30] وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً! ونحن نرى أن ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة كما بينا سابقاً وذلك من وجوه :
الأول : إن الله قادر على أن يحييه كما فعل الله ببعض من أحياهم، بل إن الله تعالى أعطى هذه القدرة لعبد من عبيده وهو سيّدنا عيسى عليه السلام : { وَأُحْيِـي الْمَوْتَـى بِإِذْنِ اللّهِ } [آل عمران 49] وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في مسألة رده سلام من سلّم عليه .
الثاني : إن هذه الرؤية ليست للرسول المسجى في قبره، وإنما هي لصورته السابحة في الفضاء والمسجلة فـي فلم من أفلام الله، كالصورة المسجلة على فلم من أفلام البشر لأموات يعرضون علينا أحياء يتحركون ويتحدثون
الثالث : إن الأرواح البشرية لا تفنى و لا يطرأ عليها العدم كما صرح بذلك كثير من العلماء، قال الشيخ عبد الغني النابلسي(179) رحمه الله تعالى : وليس هذا بأمر عجيب و لا شأن غريب، فشأن أرواح الموتى مطلقاً لم تمت و لا تموت أبداً، ولكنها إذا فارقت الأجساد الترابية العنصرية تصورت صورها كتصور الروح الأمين جبريل عليه السلام في صورة أعرابي وفي صورة دحية الكلبي كما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا في أرواح عامة الناس الذين لم تحبس أرواحهم بالتبعات والحقوق التي ماتوا وهي عليهم كما قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [المدثر38، 39] فما بالك بأرواح النبيّين والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وليس الموت بإعدام للأرواح وإن بليت أجسامها، وسؤال القبر حق وكذلك نعيمه وعذابه حق في مذهب أهل السنّة والجماعة والنعيم والعذاب إنما يكون في عالم البرزخ لا في عالم الدنيا، وعالم البرزخ بابه القبر وليس في القبور إلا أجسام الموتى لأن القبور من عالم الدنيا أحياء بأرواحها، فلما عزلت عن التصرف فيها ماتت الأجسام والأرواح باقية في حياتها على ما كانت، وإنما الموت نقلة من عالم إلى عالم، فالأرواح المكلفة غير المرهونة بما كسبت تسير في عالم البرزخ وهي في صور أجسامها وملابسها وتظهر في الدنيا لمن شاء الله تعالى أن يظهرها له، كأرواح الأنبياء والأولياء والصالحين من عباد الله تعالى، وهذا أمر لا ينبغي للمؤمن أن يشك فيه لأنّه مبني على قواعد الإسلام وأصول الأحكام و لا يرتاب فيه إلا المبتدعة الضالون الجاحدون على ظواهر المعقول و الأفهام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو بكل شيء عليم(180) .
خاتمة الموقظة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم، على سيّدنا محمّد وعلى آلـه وصحبه أجمعين .
وأما بعد : فإن رؤية سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة ليست من جنس الرؤية المادية المتعارفة، إنّما هي رؤية كشف وبصيرة قلبية، لأفراد قوم صفت سرائرهم واستقامت أحوالهم، بعد أن قطعوا المفائز والمسافات بالصدق مع الله تعالى والإتباع لرسولهصلى الله عليه وسلم حتى أصبحت قلوبهم كالمرآة ينعكس لها كمال المصطفى صلى الله عليه وسلم فهي على التحقيق رؤيةٌ للمثال اللطيف المتجسد.
ولكونها امتداداً للمعجزات ومن أجلّ الخصوصيات التي تستنهض بها همم السالكين الصادقين وأهل المحبة والعنايات خضت بحرها وولجت ميدانها، لكي لا تبقى ( عرائس الحقائق ) عن محبيه صلى الله عليه وسلم محتجبات، وتوثيقا لما جاء في سيرة سيّدنا النّبهان رضي الله تعالى عنه، وليحذر مدّعوها ممن تشبهوا بأهل الشهود والكرامات أن يغفلوا البلاغ المحمّدي: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (181) .
وقد يتبادر للبعض سؤال: لماذا لا تحدث لنا هذه الرؤية الشريفة؟ وهل الباب مفتوح للجميع؟ أم أنهّا اختصاص ومواهب؟.
فنقول: لا شك أن رؤية اليقظة مسألة ذوقية، تندرج في خوارق العادات، ولا خلاف بأنهّا من أعظم المنح الإلهية، وأن الأخذ بالأسباب الممكنة طريق إليها، فالمقدّمة أسباب، والنتيجة مواهب، وإن مهر الفتوحات: صدق في الطلب، وتجرد للهدف، وإخلاص بالوجهة إلى الله، و إتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم وسير حثيث على يد مرشد كامل يجذب قلب مريده، ويضع له إشارات المرور على الجادّة، حتى يصل به إلى جواز العبور من العالم المحسوس إلى عوالم البرزخ ، ليستلم الصورة والصوت كالتلفزيون، فعندما تصفو السرّيرة وتنجلي البصيرة تنكشف للسالك العجائب والغرائب، وحين تترقى النفس من أمّارة إلى لوامة، إلى ملهمّة فمطمئنة، إلى راضية فمرضية، إلى زاكية كاملة، تصبح النفس نفَساً، يرتحل معه العبد من (أشهد) اللسانية، التي تعني الإقرار والاعتراف لله بالوحدانية، إلى (أشهد البصيرية) التي تشهد الله بالله، وتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والجنّ والملائكة وعوالم الغيب.
وإن نظرة متفحص في سيرة سيّدنا محمّد النّبهان صلى الله عليه وسلم منذ إشراقات البداية إلى إطلالات النهاية تكفي تبيانا للمنصفين، وتفتح أبوابا للطالبين الصادقين، ومن جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل، والله ولي التوفيق، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق