الخميس، 7 أغسطس 2014

الحيرة والتحير عند السادة الصوفية



الحـــــــــيرة
***********
- الحيرة: موقف بين اليأس في الله والطمع في الله، بين الرضـا والخوف،
 وبين التوكل والرجاء،
يقول فيها أبو نصر السراج الطوسي رضي الله عنه – في كتابه (اللمع - صفحة 421):
(والحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم، وحضورهم،
 وتفكرهم، تحجبهم عن التأمل والفكرة.
قال الواسطي رحمه الله:
(حيرة البديهة أجَلُّ من سكون التولى عن الحيرة).

و " التَّحَـــيُّر "
**********
منازلة تتولى قلوب العارفين بين اليأس والطمع في الوصول إلى مطلوبه ومقصوده، 
لا تطمعهم في الوصول فيرتَجُوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فعند ذلك يتحيرون.

وقد سُئِلَ بعضهم عن المعرفة: ما هي؟
فقال: التَحَيَّر، ثم الاتصال، ثم الافتقار، ثم الحَيَرةُ) انتهى . 

ومعنى ذلك أن موقف التَحَيَّر يتبعه الرجاء ..... ثم الوصول إلى المطلوب ..
 ثم يشعر المتحير مرة أخرى باحتياجه إلى الله وافتقاره إليه!!!
فهو الربُّ الغني الصمد ، وهو العبد الناقص المحتاج، وبدوام الطلب للقربة
والوصل يقع مرة أخرى في الحيرة.

فالعارف إذن ... بين حيرة واتصال، وافتقار دائم ... والمعرفة توجب الحيرة والقلق. 
والعارف الحق يُمَيَّز بالحيرة والقلق، وتظهر عليه الأحزان، ويرى البعد في القرب مهما وصل واتصل.
قال القائل :
قد تحيَّرتُ فيك خذ بيدي **** يا دليلاً لِمَنْ تحيَّر فيك
**
ولا شك أن الحيرة لا تنتاب إلا الصادقين في سلوكهم، وسببها وموجبها:


- شدة محاسبتهم لأنفسهم .
- ويقظتهم الدائمة في مراقبة الله عزَّ وجلَّ .
- وتلهُّفهم الشديد في الوصول إلى مقامات الكمال، وحصولهم على مواهب الكُمَّل
 من أولياء الله عزَّ وجلَّ .

ولذلك نجد الله عزَّ وجلَّ يخرجهم من حيرتهم .....
- ببشرى صادقة؛
- أو تلويحة من الحقائق رائقة، أو بعبارة كاشفة من قلوب ذائقة، 
- أو بحكمة من أفئدةٍ ألسنتُها بالحقِّ ناطقة .

ومما يشير إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض - رضي الله عنه - والذي كان يقول :
زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا *** وارحم حشى بلظى هواك تسعَّرَا
حيث يحكي عن نفسه فيقول:
(حصلت منّي هفوة ؛ فوجدت مؤاخذة شديدة في باطني بسببها، وانحصرت باطناً وظاهراً ؛ حتى كادت روحي تخرج من جسدي، 
فخرجت هائماً - كالهارب من أمر عظيم فَعَلَهُ وهو مُطالَبٌ به - 
فطلعت الجبل المقطم، وقصدت مواطن سياحتي، وأنا أبكي، وأستغيث وأستغفر،
فلم ينفرج ما بي. 
وقصدت مدينة مصر، ودخلت جامع عمرو بن العاص، ووقفت في صحن الجامع
خائفاً مذعوراً، 
وجدَّدتُ البكاء والتضرع والاستغفار، فلم ينفرج ما بي؛ 
فغلب علىَّ حال مزعج لم أجد مثله؛ فصرخت وقلت:
مَنْ ذا الذي مَا سَاءَ قطّ **** وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَط
فسمعت قائلاً - يقول من بين السماء والأرض - أسمع صوته، ولا أرى شخصه:
مُحَمَّدُ الهَادِي الَّذِي **** عَلَيْهِ جِبْرِيلُ هَبَـط


وكذلك لما حجَّ الشيخ شهاب الدين السهروردى –
 شيخ الصوفية في زمانه بالعراق، وكان ذلك سنة ثمان وعشرين وستمائة، 
وكانت وقفة عرفة يوم جمعة - حجَّ معه خَلْقٌ كثير من أهل العراق، 
فرأى كثرة ازدحام الناس عليه في الطواف بالبيت والوقوف بعرفة، واقتدائهم بأقواله وأفعاله، 
وبلغه أن الشيخ ابن الفارض رضي الله عنه في الحرم؛ 
فاشتاق إلى رؤيته وبكى، وقال في سره:
يا ترى!! هل أنا عند الله كما يظن هؤلاء القوم فيّ؟!!
ويا ترى ! هل ذُكِرْتُ في حضرة المحبوب في هذا اليوم؟!!

فظهر له الشيخ ابن الفارض رضي الله عنه وقال له: 
يا سهروردى!! لك البشارة فاخلع ما عليك، فقد ذُكِرتَ ثَمَّ على ما فيكَ من عِوَج.
فصرخ الشيخ شهاب الدين، وخلع كل ما كان عليه، وخلع المشايخ
 والقوم الحاضرون كل ما كان عليهم، 
وطلب الشيخ فلم يجده!! فقال: 
هذا إخبار من كان في الحضرة.
ثم اجتمعا بعد ذلك اليوم في الحرم الشريف، 
واعتنقا وتحدثا سرًّا زماناً.


           ولعل من أعجب ذلك ..ما حدّث به برهان الدين إبراهيم الجعبري -
             أحد الصوفية المعاصرين لابن الفارض، والذين اتصلوا به، 
ولكن هذا الاتصال كان في اللحظات الأخيرة من حياة ابن الفارض، 
وهي اللحظات التي أدركه فيها الجعبري وهو يحتضر، حيث يقول:
(كنت في السياحة بجعبر بالفرات، وأنا أخاطب روحي بروحي،
 وأناجيها بتلذذي بفنائي في المحبة، 
فمَرَّ بي رَجُلٌ كالبرق، وهو يقول:
فَلَمْ تَهْوَنِِي مَا لَمْ تَكُنْ فِيَّ فانيًا ****** وَلَمْ تَفْنَ مَا لَمْ تَجْتَلِِِِ فِيكَ صُورَتِي

فعلمت أن هذا نَفَسُ محبٍ؛ فوثبت إلى الرجل وتعلقت به، وقلت له:
 من أين لك هذا النفس ؟!! 
فقال: هذا نفس أخي الشيخ شرف الدين ابن الفارض. 
فقلت له: وأين هذا الرجل؟!! 
فقال: كنت أجدُ نفَسَهُ من جانب الحجاز، والآن أجدُ نفسه من جانب مصر،
 وهو محتضرٌ، 
وقد أمِرْتُ بالتوجه إليه، وأن أحضر انتقاله إلى الله تعالى، وأصلي عليه
، وأنا ذاهب إليه.

فلما التفتَ الرجل إلى جانب مصر التَفَتُ معه؛ فشممت أثر الرجل؛ فتبعت أثر الرائحة؛ إلى أن دخلتُ عليه في ذلك الوقت وهو محتضرٌ، 
فقلت له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، اجلس وأبشر، فأنت من أولياء الله تعالى، 
فقلت له: يا سيدي .. هذه البشرى جاءتني من الله على لسـانك، وأريد أن أسمع منك دليلاً ليطمئن به قلبي، فإن اسمي إبراهيم!! 
ولي من سِرِّ مقام هذا الاسم الإبراهيمي نصيب حين قال: 
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قال: نعم يا إبراهيم، سألت الله أن يحضر وفاتي وانتقالي إليه جماعة من أولياء الله، 
وقد أتى بك أوَّلهم، فأنت منهم.

وكنت سألت جماعة من الأولياء عن مسألة؛ فلم يجبني أحد عنها، فسألته عنها؛
 فقلت له: يا سيدي! هل أحاط أحد بالله علماً؟!!
فنظر إلى نظر معظِّم لى؛ وقال: نعم ... إذا حيَّطهم يحيطون يا إبراهيم، وأنت منهم.
ثم رأيت الجنة قد تمثلت له، فلما رآها قال: آه!! 
وصرخ صرخة عظيمة، وبكى بكاء شديداً وتغير لونه، وقال :
إن كان منزلتي في الحب عندكمُ *** ما قد رأيتُ فقد ضيَّعتُ أيامي
أمنيةٌ ظفرتْ روحي بِها زمنـاً *** واليوم أحسبُها أضغاثَ أحلام
فقلت له: يا سيدي .. هذا مقام كريم!! 
فقال: يا إبراهيم!! رابعة العدوية تقول - وهي امرأة:
(وعزتك ما عبدتك خوفاً من نارك ولا رغبة في جنتك، بل كرامة لوجهك الكريم، ومحبة فيك)، 
وليس هذا المقام الذي كنت أطلبه، وقضيت عمري في السلوك إليه.
ثم بعد ذلك سكن قلقه ، وتبسَّم وسلَّم عليَّ، وودعني وقال:
احضر وفاتي وتجهيزي مع الجماعة، وصلِّ عليَّ معهم، 
واجلس عند قبري ثلاثة أيام بلياليهن، ثم بعد ذلك توجه إلى بلادك.
ثم اشتغل عني بمخاطبة ومناجاة؛ 
فسمعت قائلاً يقول - بين السماء والأرض - أسمع صوته ولا أرى شخصه :
يا عمر! فما تروم؟
فقال:
أرومُ وقد طَالَ المَدَى مِنْكَ نَظْرَةً *** وَكَمْ مِنْ دِمَاءٍ دُونَ مَرْمَاىَ طَلَّتْ
ثم بعد ذلك تهلّل وجهه وتبسَّم، وقضى نحبه فرحاً مسروراً.

وكنا عنده جماعة كثيرة، فيهم من أعرفه من الأولياء، وفيهم من لا أعرفه، ومنهم الرجل الذي كان سبب المعرفة.
وحضرت غسله وجنازته، ولم أرَ في عمري جنازة أعظم منها، وازدحم الناس على حمل نعشه، 
ورأيت طيوراً بيضاً وخضراً ترفرف عليه، وصلينا عليه عند قبره)


                     والحكايات الواردة في هذا الأمر عن الصالحين كثيرة،
                              والقرآن يحكي عن السيدة مريم قولها:
يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) 
[آية 23 - مريم]
وكذلك ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه كان يقول:
يا ليتني كنت تبنة!! 
وأحياناً كان يقول:
يا ليتني كنت كبشا ذبحني أهلي وأكلوني!!!
ونكتفي بهذا القدر رغبة في الاختصار، 
والمؤمن يكفيه قليل الحكمة .

من كتاب علامات التوفيق لأهل التحقيق 
لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق