مذهب الحنابلة فى كلام الله تعالى
أن كلام اللَّه غير مخلوق
وأنه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء ومتى شاء، وأن الكلام صفة له قائمة له بذاته، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته بحرف وصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا.قال العلامة ابن قدامة -رحمه الله- وهو من كبار علماء الحنابلة، قال:(فصل) ومن صفات اللَّه تعالى أنه متكلم بكلام قديم يسمعه منه من شاء من خلقه سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه ويأذن لهم فيزورونه، قال اللَّه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، وقال سبحانه: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ، وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}
وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
وقال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- إذا تكلم اللَّه بالوحي سمع صوته أهل السماء. روى ذلك عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وروى عبد اللَّه بن أنس عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: «يحشر اللَّه الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلا بهما فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان» رواه الأئمة، واستشهد به البخاري.
وقال بعد كلام:
(فصل) ومن كلام اللَّه سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب اللَّه المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات وآيات بينات، وحروف وكلمات، ومن قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر وأجزاء وأبعاض متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخاص وعام وأمر ونهي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
وسبق كلام شيخ الإسلام في منظومته اللامية وكلامه في رسالته الواسطية عن كلام الله.
بيان من كلام ابن القيم -رحمه الله- في نونيته.
قال العلامة السفاريني -رحمه الله- وهو من متأخري الحنابلة في عقيدته:والعلم والكلام قد تعلقا ... بكل شيء يا خليلي مطلقا
وأن ما جاء مع جبريل ... من محكم القرآن والتنزيل
كلامه سبحانه قديم ... أعيا الورى بالنص يا عليم
وليس في طوق الورى من أصله . أن يستطيعوا سورة من مثله
صفة الكلام
قال المجسمة المشبهة: الله متكلم بكلام هو حروف وأصوات متعددة يحدث فى ذاته ثم ينقطع، ثم يحدث ثم ينقطع، ووصل الغلو ببعضهم إلى اعتبار حروف اللفظ المنـزل بين دفتي المصحف قديمة غير مخلوقة.()مجموع الفتاوى لابن تيمية ج5/556، وذكروا ذلك في عدة من كتبهم ككتاب "الكواشف الجلية عن معاني الواسطية" (ص220) وكتابـهم المسمى "نجاة الخلف" (ص25). وذكروا في كتابـهم المسمّى كتاب السنّة ص77 ما نصّه: "وكلّم الله موسى تكليمًا من فيه وناوله التوراة من يده إلى يده" اهـ بحروفه.)
وأما المعتزلة قالوا: لا يوصف بصفة الكلام وإنما كلامه تعالى حروف وأصوات يخلقها في غيره كاللوح أو جبريل أو الرسول أو الشجرة وهو حادث ( انظر الرد عليهم كتاب المسامرة شرح المسايرة ص/82 لابن أبي شريف المقدسي الشافعي(ت 905 هـ)).
وأما إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري فقال قولاً ثالثًا وسطًا بين القولين الأولين، وحكم بأن ما نقرؤه من القرءان كلام الله بمعنى أنه ليس من تصنيف بشر ولا ملك وبمعنى أنه دال على الكلام الأزلي.
وإطلاق كلام الله على اللفظ المنـزل حقيقة شرعية ( انظر تشنيف المسامع للزركشي ص 355 (مخطوط). أما كلام الله الذاتي فقديم غير مخلوق وما كان كذلك لا يكون حرفا ولا صوتا. (أساطين الأشاعرة في رسائله في التوحيد ص12 ما نصه: "فالله متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادًا في اللوح والأوراق شكلاً ترمقه العيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنفاق بل الكتابة من أفعال العباد ولا يتصور من أفعالهم أن تكون قديمة ويجب احترامها لدلالتها على كلامه كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته" إلى أن قال: "فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شىء من ألفاظ العباد أو رسم من أشكال المداد" اهـ. وقال الإمام محمد بن إبراهيم الحموي: من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولاً يلزم منه أن الله جسم ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه، ومن قال بحدوثه فقد كفر، والكافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته اهـ.)
وقال الحافظ ابن عساكر فى (تبيين كذب المفترى) متحدثا عن عقيدة الإمام الأشعرى رضى الله عنه: وكذلك قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق مخترع مبتدع وقالت الحشوية الـمجسمة: الحروف المقطعة والأجسام التي يكتب عليها والألوان التي يكتب بـها وما بين الدفتين كلها قديمة أزلية، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: القرءان كلام الله قديم غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع فأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات والمحدودات وكل ما في العالم من المكيفات مخلوق مبتدع مخترع.اهـ (5)
وهذا ما كان عليه السلف الصالح فقد صرح الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وهو من أساطين علماء السلف فقد ولد سنة ثمانين للهجرة، في كتابه الفقه الأكبر: "ويتكلم لا ككلامنا نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بلا ءالة ولا حرف" اهـ بحروفه.(6)
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في"الفقه الأكبر" و "الوصية": "والقرءان كلام الله غير مخلوق، ووحيه وتنـزيله على رسول الله مكتوب في المصاحف مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور غير حالّ فيها والحبر والكاغد والكتابة والقراءة مخلوقة لأنـها أفعال العباد ".اهـ ()
وأنكر الإمام أحمد بن حنبل على من يقول: لفظي بالقرءان مخلوق يريد به أن القرءان مخلوق.اهـ ()
وأنكر على من يقول: لفظي بالقرءان غير مخلوق.اهـ ()
وقال الإمام أبو عبد الله البخاري في كتابه خلق أفعال العباد: القرءان كلام الله وليس بمخلوق.اهـ ()
وقال: أفعال العباد مخلوقة.اهـ ()
فوائد منثورة في مسألة الكلام
الفائدة الأولى: ذهب العلماء في تفسير قول الله تعالى في سورة يس{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82] مذهبين: قال الإمام أبو منصور الماتريدي: إنه عبارة عن سرعة الإيجاد وتكوينه عند تعلق إرادته بلا تراخ ولا تعذّر. وقال الإمام البيهقي الأشعري: عبارة عن حكم الله الأزلي بوجود الشىء فيحدث المراد له تعالى في وقته الذي شاء وعلم حدوثه فيه.اهـ
الفائدة الثانية: اتفق أهل السنة على "وحدة كلام الله تعالى" قاله الإمام أبو علي السكوني الإشبيلي (ت717هـ)، في كتابه "التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب العزيز" وعبارته: "وكلام الله سبحانه واحد بإجماع الأمة".اهـ، وكذلك الإمام البيهقي ذكر "وحدة الكلام" في كتابين من كتبه. وعبارته في كتابه الاعتقاد ما نصه: "وكلام الله واحدٌ لم يزل ولا يزال"اهـ.
الفائدة الثالثة: قال الشيخ الإمام ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي ما نصه(ص ٥٥٩ "مخطوط"): قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم فإن القديم لا ابتداء لوجوده، وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارىء جل جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه، ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محالٌ .اهـ
الفائدة الرابعة: قال المحدث الشيخ محمد زاهد الكوثري المتوفى سنة ١۳٧١هـ في مقالاته (ص۳٢) ما نصه: ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث.اهـ، وكذا قال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات (ص/٢٧۳). وقد ذكر الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي المتوفى سنة ٧٢٥ هـ في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص ٢٤٩ "مخطوط"). أثناء ترجمة الحافظ ناصر السنة أبي الحسن علي بن أبي المكارم المقدسي المالكي أنه ((صنف كتابه المعروف بكتاب الأصوات أظهر فيه تضعيف رواة أحاديث الأصوات وأوهامهم))اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري ج١/١٧٤و١٧٥: ((لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت)) ا.هـ.
الفائدة الخامسة: وأما ادعاء البعض أن علم الكلام مذمومٌ على الإطلاق، فمردود، وذلك أن علم الكلام الذي يشتغل به أهل السنة والجماعة في تقرير معتقداتـهم هو علمٌ ممدوحٌ اشتغل به العلماء من السلف والخلف ولا سيما الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة كما ذكر الإمام أبو منصور البغدادي المتوفى سنة ٤٢٩ هـ في أصول الدين والحافظ ابن عساكر المتوفى سنة ٥٧١ هـ في تبيين كذب المفتري والإمام الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤ هـ في تشنيف المسامع وغيرهم، بل سماه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه بالفقه الأكبر. وقد قال إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه المتوفى سنة ۳٢٤هـ : ((أول ما يجب على العبد العلم بالله ورسوله ودينه)) اهـ.
وهذا العلم أصله كان موجودا بين الصحابة متوفرا بينهم أكثر ممن جاء بعدهم، والكلام فيه بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة، فقد رد ابن عباس وابن عمر على المعتزلة، ومن التابعين رد عليهم عمر بن عبد العزيز والحسن بن محمد ابن الحنفية وغيرهما.
ونحيل المنكرين إلى قراءة كتاب "عقيدة العوام" للشيخ أحمد المرزوقي المولود سنة ١٢۰٥هـ وكتاب "كفاية الصبيان فيما يجب من عقائد الإيمان وعمل الأركان" للمحدث أبي المحاسن القاوقجي الطرابلسي المتوفى سنة ١۳۰٥ هـ.
وأما علم الكلام الذي يشتغل به أهل البدع كالخوارج والنجارية والمرجئة والمعتزلة والكرامية والحشوية فهو علمٌ مذموم ذمه علماء السلف، لذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ((لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بشىء من هذه الأهواء)) رواه الإمام الـمجتهد أبو بكر بن المنذر وأخرج طرقه الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري وغيرهما، والأهواء جمع هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف.اهـ
(منقوول من موقع أهل السنة )
ههنا تفصيل دقيق لا بد من الانتباه إليه عند الكلام على قول الأشاعرة والحنابلة والحشوية في هذه المسألة وسأحاول تسهيله إلى أقصى حد:
عندما نقول (كلام الله بكذا وكذا) فلا بد أن نفهم أن الكلام قد يقصد به الصفة القديمة القائمة بذاته تعالى المجردة عن أي شيء آخر يصحبها، وكلام الأشاعرة غالبا يكون على هذا النوع لأنه المقصود بالكلام على الحقيقة.
وربما يقصد به الصفة القديمة وما صحبها من عوارض عرضت واقترنت بهذه الصفة القديمة وهو مقصود الحنابلة.
فههنا عندنا أصل الصفة وعندنا عوارض تصحب هذه الصفة في بعض الأحيان.
وللتقريب أكثر أضرب هذا المثال:
نقول: (أمطرت السماء برعد وبرق)
فلو قال قائل: "إن المطر ليس ليس برعد ولا ببرق" لكان صادقا. ولو قال آخر: "نزل المطر برعد وبرق" لكان صادقا.
لأن الأول لما قال ليس برعد ولا برق أراد أن حقيقة المطر تختلف عن حقيقة الرعد والبرق، وإنما لما نزل المطر جاء معه وصحبه صوت الرعد ولمعان البرق فهو مختلف عنهما، ففي الحقيقة المطر شيء والرعد شيء آخر والبرق شيء ثالث.
وأما الثاني الذي قال: "إن المطر برعد وبرق" فإن كان يريد أن المطر نزل مصحوبا برعد وبرق فقد صدق، وأما إن أراد أن المطر حقيقته هي حقيقة الرعد والبرق وأن المطر والرعد والبرق شيء واحد فهنا قد أخطأ.
ففرق بين "المطر رعد وبرق" وبين "نزل المطر برعد وبرق" فالعبارة الأولى يفهم منها أن ماهية المطر هي بعينها ماهية الرعد والبرق فلا بد من تأويل اللفظ بأنه "المطر ينزل برعد وبرق" فعلى هذا يصح، وأما بلا تأويل فخطأ.
فكذلك قول الأشاعرة "إن كلام الله ليس بحرف وصوت" صحيح أي أن حقيقة كلام الله تختلف عن حقيقة الحروف والأصوات، كما قلنا: "المطر ليس برقا ولا رعدا"
وقول الحنابلة: "إن الله تكلم بحرف وصوت" أرادوا أن بعض الروايات نصت على أن كلام الله جاء معه حروف وأصوات وإن كانت هذه الحروف والأصوات ليست هي عين الكلام وحقيقته بل هي من العوارض.
فهذان القولان هما اللائقان بأهل السنة، والأشاعرة والحنابلة يتفقون هنا في أن حقيقة الكلام تختلف عن حقيقة الحروف والأصوات العارضة، ويتفقون على أن القديم هو الكلام الحقيقي، وأما الحروف والأصوات فحادثة، هذا محل اتفاق بين الأشاعرة والحنابلة، ومحل الاختلاف بينم هو أن الحنابلة يسوغون أن الكلام بحرف وصوت بمعنى أنه ورد أن الكلام جاء مصحوبا بحروف وأصوات، وأما الأشاعرة فجمهورهم لا سيما المتأخرون منهم لا يسوغون ذلك على أساس أن الروايات الواردة في ذلك ضعيفة أو غير صريحة، وذهب بعض الأشاعرة كالإمام ابن فورك إلى الموافقة على ما قالته الحنابلة من جواز أن يكون الكلام الأعظم ورد بحروف وأصوات أي مصحوبا بها كما دلت عليه بعض الروايات، ولا يكون في ذلك حرج لأن هذه المصاحبات حوادث ولا يكون إثباتها أو نفيها إلا كالكلام على سائر الحوادث والمخلوقات.
هذا مع ضرورة الانتباه إلى الفرق بين عبارة: "كلام الله حروف وأصوات" وبين "كلام الله بحروف وأصوات" فالعبارة الأولى ظاهرها مرفوض لأنها تجعل الكلام عين الحروف والأصوات، فلا بد من تأويلها لتكون كالعبارة الثانية القائلة بأن كلام الله بحروف وأصوات أن مصحوب بها تجيء معه، وهذه العبارة الثانية مساوية أيضا لعبارة : "تكلم الله بحرف وصوت".
فالفرق بين المذهبين هو في ثبوت الروايات أو صراحتها التي دلت على أن الكلام يجيء مصحوبا بالحروف والأصوات أم عدم ثبوتها، فالأشاعرة تشددوا في نقد هذه الروايات واستعملوا علم الجرح والتعديل فوجدوها غير قائمة ولا صالحة للحجة، والحنابلة أحسنوا الظن بها وسوغوا القول بها لا سيما أن المسألة ليست الآن في إثبات صفة قديمة برأسها وإنما في عوارض حادثة تصحب تلك الصفة القديمة.
أما الحشوية فهم مخالفون للفريقين من جهة أنهم يعتقدون أن الكلام الحقيقي القديم هو والحروف والأصوات شيء واحد وأن الأصوات والحروف هي بعينها الكلام القديم ولا فرق !! وبهذا لزمتهم لوازم شنيعة منها: إثبات الصفة القديمة بأخبار غير ثابتة، ومنها أنه لزمهم من خلال أخبارهم هذه أن هذه الصفة التي أثبتوها حادثة وأنها قائمة بذات الله وأنها تشبه الحوادث ..
وعلى هذا الذي شرحناه وعلى رأي ابن فورك ومن وافقه من الأشاعرة الذين جوزوا ثبوت أخبار الصوت، فعلى قولهم يجوز أن يقال بأن الله تعالى : "تكلم أو يتكلم إذا شاء بحروف وأصوات" فالمشيئة راجعة للحروف والأصوات فقط وليس لأصل الكلام فانتبه، فيكون المعنى أن الله تعالى تكلم بكلامه القديم ولا يزال سبحانه متكلما فإذا شاء أسمعه من شاء مصحوبا بحروف وأصوات وإذا شاء لم يسمعه إياه كذلك، فهذه العبارة مع جوازها عند بعض الأشاعرة إلا أنه من الضروري الانتباه إلى أن الكلام عندهم غير الحروف والأصوات، وأن الكلام قديم قائم بالذات لم يزل، وأما الحروف والأصوات فعوارض حادثة متعلقة بالمشيئة، يجوز عليها ما يجوز على سائر الحوادث، والله تعالى أعلم
أي أن الكلام القديم قائم بالذات العلية لم يزل، فإذا قدر الله لعبد كنبي أن يسمعه كلامه القديم خلق الله حروفا وأصواتا فأفهمه الكلام القديم بهذه الحروف والأصوات، فهذا نوع، وقيل أن كلامه لموسى كان هكذا، ولكن الجمهور أن كلامه لموسى عليه السلام كان بلا حروف ولا أصوات.
فقولنا عوارض أي حادثة مخلوقة مسبوقة بعدم وهي الحروف والأصوات وليس أصل الكلام، وقولنا تصحب تلك الصفة القديمة أي صفة الكلام القديم وتقترن بها أحيانا إذا شاء الله لكنها تختلف عن الكلام القديم في الأحكام.
لا يخرج الحنابلة عما ذكرته من المعنيين أبدا، اللهم إلا المجانين الذين قالوا بقدم أوراق المصحف والحبر وأصوات القراء فهؤلاء مهابيل جدا لا يعول على كلامهم ووجودهم في الحنابلة قليل قديما منعدم حالا (منقوول من منتدى الأزهريين )
معنى إنزال كلام الله تعالى
وأما معنى إنزال كلام الله تعالى فننقل فيه كلام إمام الحرمين قال في "الإرشاد":
"كلام الله تعالى منزل على الأنبياء، وقد دل على ذلك آي كثيرة من كتاب الله تعالى.
ثم ليس المعنِيُّ بالإنزال حط الشيء من علو إلى سفل، فإن الإنزال بمعنى الانتقال يتخصص بالأجسام والأجرام، ومن اعتقد قدم كلام الله تعالى وقيامه بنفس الباري سبحانه وتعالى واستحالة مزايلته للموصوف به، فلا يستريب في استحالة الانتقال عليه.
ومن اعتقد حدوث الكلام، وصار إلى أنه عرض من الأعراض، فلا يسوغ على معتقده أيضا تقدير الانتقال، إذا العرض لا يزول ولا ينتقل.
فالمعنِيُّ بالإنزال أن جبريل صلوات الله عليه أدرك كلام الله تعالى، وهو في مقامه فوق سبع سموات، ثم نزل إلى الأرض، فأفهم الرسول ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام.
وإذا قال القائل: نزلت رسالة الملك إلى القصر لم يرد بذلك انتقال أصواته، أو انتقال كلامه القائم بنفسه.[ الإرشاد 130.]
هذا مذهب الأشاعرة والماتريدية في كلام الله تعالى.
وبه يتبين أنهم اثبتوا لله تعالى نوعين من الكلام: الأول: الكلام المعنوي النفسي، وقد اتفقوا على قدمه، وقيامه بالله تعالى، والثاني: الكلام اللفظي، وقد اختلفوا فيه، فذهب فريق من المحققين منهم إلى قدمه أيضا، وقالوا: إن كلام الله تعالى عبارة عن اللفظ والمعنى القديمين القائمين بالله تعالى.
وذهب جمهورهم إلى حدوث الكلام اللفظي بمعنى أن الله تعالى تفرد بخلقه بدون كسب لأحد فيه، وهو كلام الله على الحقيقة دون المجاز.
ولم يذهب أحد منهم إلى ما ذهب إليه جمهور الحنابلة من أن كلام الله تعالى عبارة عن الحروف والأصوات، قالوا: لأنه من البديهي أن ذلك يقتضي الترتيب والتعاقب المقتضي للحدوث، وكلام الله تعالى منزه عن الحدوث باتفاق منا ومنهم.
ومذهب الأشاعرة هذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة. قال- رحمه الله تعالى- في الفقه الأكبر:" ويتكلم لا ككلامنا ونحن نتكلم بالآلات والحروف، والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف، والحروف مخلوقة، وكلام الله غير مخلوق"
- مذهب الأشاعرة في الصوت
وأما ما ورد من ثبوت الصوت في كلام الله تعالى في بعض الأحاديث كحديث عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (يحشر الله العباد –أو قال الناس- عراة غرلا بهما، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما سمعه من قرب أنا الملك الديان) قلم يثبتوا هذه الأحاديث وانتقدوها، انظر "الأسماء الصفات" للبيهقي[ 273-276.]، وبتقدير ثبوتها فقد جعلوا الصوت فيها راجعا إلى غير الله تعالى كما تقدم في كلام أبي المعين النسفي عن الإمام أبي منصور الماتريدي والأستاذ أبي الإسحاق الإسفراييني من أن الله يسمع كلامه بصوت يتولى تخليقه، لا أن كلامه عبارة عن الحرف والصوت، ويحتمل في بعض هذه الأحاديث أن يكون الصوت للسماء، أو للملك الآتي بالوحي، أو لأجنحة الملائكة، كما يحتمل أن يكون الصوت من تعبير الراوي، وأن النبي قال: (يناديهم نداء يسمعه...) أو نحو ذلك، فعبر الراوي بالصوت.
قال البيهقي في "الأسماء والصفات": "وقد يجوز أن يكون الصوت فيه إن كان ثابتا راجعا إلى غيره تعالى، كما روينا عن عبد الله بن مسعود موقوفا (وموقوف الصحابي في ما لا مجال للرأي فيه من المرفوع حكما): (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا) وفي حديث أبي هريرة: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعنا لقوله كأنه سلسلة على صفوان)
ففي هذين الحديثين الصحيحين دلالة على أنهم يسمعون عند الوحي صوتا، لكن للسماء، ولأجنحة الملائكة تعالى الله عن شبه المخلوقين علوا كبيرا... وكما روينا عن نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (أنه كان يأته الوحي أحيان في مثل صلصلة الجرس) وكل ذلك مضاف إلى غير الله سبحانه. انتهى.
- مذهب الإمام أحمد في كلام الله تعالى
وهنا نود الإشارة إلى مذهب الإمام أحمد في الكلام، فأقول: قد جاء عن الإمام أحمد أن الله تعالى يتكلم بصوت.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام: قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية" تأليفه: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بل تكلم –جل ثنائه- بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت....[ تاريخ الإسلام 18/88]
وقد ثبت عن الإمام أحمد بطرق صحيحة أنه كان يقول: القرآن من علم الله، واستدل على ذلك بالكتاب مثل قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواهم من بعد ما جاءك من العلم)[البقرة 120] وقوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم)[] آل عمران 61.]
قال الذهبي: قال الإمام أحمد في آخر رسالة أملاها على ابنه عبد الله: القرآن من علم الله[ سير أعلام النبلاء 11/286.] وقال: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات أشهد بالله أنه أملاها على ولده، ورواها أبو نعيم في حلية الأولياء وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد[ تاريخ الإسلام 18/99-101]
هكذا ثبت عن الإمام أحمد أن كلام الله تعالى من علمه، وعلمه ليس من الأصوات، ولم يظهر لي وجه الجمع بين قوله هذا وقوله: إن الله يتكلم بصوت.
والذي يظهر لى أن هذان القولان عنه جاريان على مذهبه من الوقوف في باب العقيدة عند ظواهر النصوص وعدم تجاوزها، وكراهة البحث والتنقيب عن الأمور الغامضة، كما قال البخاري: المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأمور الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام والخوضَ والتنازعَ إلا فيما جاء به العلم وبينه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم] خلق أفعال العباد للبخاري 62
وسطية الإمام أبى الحسن الأشعرىبين مجسمة الحنابلة والمعتزلة عمر عبدالله
«كان الأشعري معتزلياًً ولكنه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح حقيقة الوضع.. رأى الهوة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال في اتساع، فأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنة[6], واتخذ طريقا وسطاً بينها وبين مذهب المعتزلة[7]. وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس ما عدا غلاة الحنابلة.
وهذا ما بدأه الأشعري وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه وساروا على طريقة وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم وخيرة رجاله؛ كالقاضي أبي بكر الباقلاني (ت403هـ), وابن فورك (ت406هـ)، وأبي إسحق الإسفرايني (ت418هـ), وعبدالقاهر البغدادي (ت429هـ)، والقاضي أبي الطيب الطبري (ت450هـ), وأبي بكر البيهقي (ت458هـ), وأبي القاسم القشيري (ت465هـ) وأبي إسحق الشيرازي (ت476هـ) رئيس المدرسة النظامية ببغداد, وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت478هـ) والإمام الغزالي (ت505هـ) الذي أصبحت الأشعرية بجهوده كلاماً مقبولاً في الإسلام، وابن تومرت (ت524هـ) المغربي؛ تلميذ الغزالي الذي نشر الأشعرية في بلاد المغرب والشهرستاني (ت548هـ), وغيرهم كثير شرحوا عقائد الأشعري ونظموها وزادوا عليها ودافعوا عنها بالأدلة والبراهين العقلية, فكان لهم أكبر الفضل وأعظم الأثر في نجاح المذهب الأشعري وانتشاره[8].
فلما قام الأشاعرة أعادوا تنظيم علم الكلام على قاعدة أن النقل هو الأساس، وأن العقل خادم للنقل ووسيلة لإثباته والبرهان على صحته.
فالعقل على رأي الغزالي هو الأداة التي يمكن أن نعرف بواسطتها صدق النقل وهو أيضاً السلاح الذي يدافع به عن الشرع ولذلك فإنه عرّف الكلام بقوله: (علم مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة)[9].
وأورد ابن خلدون تعريفاً آخر لعلم الكلام فقال: (هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة)[10]، وأخذ بعد ذلك يشرح هذا التعريف بقوله إن علم الكلام إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه عن تلك العقائد. ويقول ابن خلدون إن الأشاعرة نظروا في مقدمات علم الكلام القديمة فتركوا ماله اختلاط بالفلسفة وكانت مسائل الكلام قد اختلطت بمسائل الفلسفة بحيث لا يمكن التمييز بينها, وصاروا في الطريقة الجديدة – أي الأشعرية – يردون على مسائل الفلسفة التي لا تتفق مع العقائد الدينية[11].
من غير العسير علينا بعد هذا أن ندرك أن ذلك المذهب الكلامي الجديد (الأشعرية) والذي حاز رضى أهل السنة وقبولهم هو ثمرة من ثمار الوسطية وأثر حسن من آثاره فالأشاعرة نجحوا في أن ينتزعوا فكرة التشبيه من أذهان الناس. فقد جعلوا المسلمين رغم عدائهم الشديد للكلام والمتكلمين يعودون فيقبلون أساليب الكلام ويستخدمونها في الدفاع عن الدين. ولهذا فإن الأشعرية عالجوا نفس المسائل التي كان المعتزلة من قبل يعالجونها وأصدروا فيها أحكاماً توافق السنة. وقد كان هذا هو السبب الذي جعل غلاة الحنابلة لا يرضون عن الأشعرية ودفعهم إلى مقاومتهم بنفس القوة التي كانوا يقاومون بها المعتزلة؛ وانبرى أحد أئمتهم ابن تيمية الحرّاني (ت728هـ) للرد عليهم على الطريقة الحنبلية».
[ بعد هذا أورد المحاضر بعض الأدلة للتمثيل بها على وسطية المذهب الأشعري بين أهل السنة والمعتزلة، وذكر معلقا من كتاب المعتزلة-زهدي حسن جار الله قائلا] :
«ومن الأمثلة الدالة على أن الأشاعرة أخذوا طريقا وسطا بين السنة والاعتزال:
1. الصفات الأزلية:
يرى ابن تيمية أن في كلام بعض الأشاعرة شيئا من نفي الصفات الذي أخذوه عن المعتزلة[12]. ومع أن الأشاعرة رجعوا إلى قول السلف في إثبات الصفات إلا أنهم اختصروها وردّوها إلى سبع صفات أزلية فقط؛ وهي القدرة والعلم والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وقالوا إن الأسماء مشتقة من هذه الصفات السبع أزلية وأما الأسماء المشتقة من صفات أفعاله كالخالق والرزاق والمعز والمذلّ فغير أزلية[13].
قلت: وتعامى ابن تيمية عن أن الأشاعرة وإن حصروا الصفات في هذه السبع، إلا أنهم لم ينكروا شيئا من صفات الأفعال، وذلك حتى لا يشتبه على الناس الأمر، فيعتقدون قدم متعلقات صفات الأفعال، بمعنى أن فعل التخليق يقتضي مخلوقا، وبالتالي نسبة القدم إلى المخلوق، كما تورط ابن تيمية ذاته في القول بقدم العالم.
2. كلام الله تعالى:
قال الحنابلة: إن كلامه تعالى أزليّ حتى حروف القرآن اعتبرها الحنابلة قديمة غير مخلوقة. والمعتزلة قالوا إن كلام الله حادث في محل ولذلك فالقرآن حادث. أما الأشعري فقد أبدع كما يقول الشهرستاني قولاً ثالثاً وسطاً بين القولين الأولين؛ وحكم بأن ما نقرؤه من القرآن كلام الله على المجاز لا على الحقيقة. أما كلام الله نفسه فقديم غير مخلوق[14]. ولإثبات صحة هذا الموقف الذي اتخذه الأشاعرة حيال مسألة الكلام رفضوا تعريف المعتزلة للكلام وقالوا إن حقيقة الكلام ليست الحروف والأصوات: بل هي الكلام النفسي القائم بالنفس الإنسانية. فكلام الله النفسي قديم والقرآن لذلك قديم أما الحروف والأصوات– أو القراءة– التي هي دلالة على الكلام النفسي والتي هي فعل القارئ فمخلوقة[15].
3. التشبيه والتجسيم:
كان الحنابلة يتمسكون بآيات التشبيه والتجسيم ويأخذونها على الظاهر على حين كان المعتزلة يرفضونها على علاتها ويعمدون إلى تأويلها.
أما الأشاعرة فقد أقرُّوا الحنابلة على قولهم بالرؤية السعيدة، وخالفوهم في باقي مسائل التشبيه والتجسيم، وتأوَّلوا الآيات الواردة فيها كما يتأوَّلها المعتزلة، فقالوا في وجه الله تعالى إنه الله وفي يده أنها قدرته وفي عينه تعالى إنها رؤيته للأشياء[16]. ومنعوا أن يوصف الله بالاستقرار على العرش ونزهوه تعالى عن ذلك لأنه لا يستقر على جسم إلا جسم ولا يحل فيه إلا عرض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض[17]. وتأول البغدادي كلمة ((العرش)) في الآية: (على العرش استوى)[طه: ٥] على أنها (الملك)، فكأنه تعالى أراد أن يقول أن الملك لم يستو لأحد غيره.
ونفى الأشاعرة الجهة أيضا فإذا اختصصنا الله (فوق) بجهة فلأنها أشرف الجهات وليس لأنه تعالى حقيقة فوق وإذا رفعنا[18] أيدينا إلى السماء في الدعاء فذلك زيادة في الاحترام لله وليس معناه أنه تعالى في السماء[19].
4. الكسب:
غلاة الحنابلة كانوا يعتقدون أن الله خالق أفعال العباد والعباد لا صنع لهم في أفعالهم ولا تقدير، والمعتزلة كانوا يرون أن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم والله تعالى لا صنع له في أفعال عباده ولا تقدير. فلما قام الأشاعرة سلكوا بين ذينك القولين المتناقضين طريقا وسطاً أيضاً، فاعترضوا على الحنابلة لأنه يلزمهم إنكار ضرورة التفرقة بين الحركة الضرورية – الرعدة – وبين الحركة الاختيارية واعترضوا على المعتزلة لأنهم نسبوا الخلق إلى من لا يعلم حقيقة ما يخلقه من الحركات. فالقول بالجبر على رأي الأشاعرة محال باطل, ونسبة الخلق إلى العباد اقتحام هائل.[20-21] ).
[ وبعد ذكر هذه الأدلة على وسطية مذهب أبي الحسن -الأشعري، خلص المحاضر إلى القول بأنه] :« لمّا غاص الإمام الأشعريّ في المذهب الاعتزاليّ، وسبر مسائلـه على ما هو المشهور، وكان من صفات الإنسان المخلص النيّة للـه تعالى أنّه لا ينجرف وراء التقليد، ولو كان الذي يقلّده هو إمام العلماء جميعاً، بل لا بد أن يعمل فكره، وينظر في الفكر الذي يتبناه ويدافع من أجلـه، ولا عيب على الإنسان أن يظن الحق في قول ثم إذا تبين لـه بالدليل القويم اعوجاج أمره، تراجع عنه إلى غيره مما ينكشف لـه، بل هذا يدل على صفاء جوهره، وهمّته العالية وإخلاصه العميق.
قلنا: لما جعل الإمام الأشعري ينظر في مسائل المعتزلة مسألةً مسألةً، بانَ لـه خطؤهم في كثير منها، فجعل يناقش مشايخهم مرة تلو الأخرى حتى يتبين ما هو الحق، وكان يتقصَّد الاعتراض عليهم وتوجيه الإيرادات الواردة عليهم كما هو معلوم. ثم مع تكاثُرِ المسائل التي تبيّن لـه رحمه اللـه غلطهم فيها؛ كان لابد لـه أن يفهم أن الأصول التي بنوا عليها مذهبهم، يلزم إعادة النظر فيها، وهذا أنتج عنده حصيلة من الأفكار والمعاني دفعته لكي ينعزل بنفسه فترة كانت بالنسبة إليه كافية للوصول إلى منهج عقلي متكامل يمكن به الوصول إلى المعاني الصحيحة من القرآن والسنة، وإلى بناء فهم عميق من الأخبار والنصوص الواردة في الشريعة الكاملة، بحيث لا يكون هذا الفهم متعارضاً مع أمر يؤيده العقل، ولا يؤدّي إلى تضارب بين ذات النصوص حتى لا يكون فيه إسقاطها، ويكون منسجماً ومفسراً وموضحاً في نفس الوقت لأقوال السلف المشهود لـهم من صاحب الشريعة بالصلاح والتقوى.
ثم إنه دوّن ما وصل إليه في كتب، هذه الكتب هي التي أخرجها إلى الناس، ثم دعاهم إليها وصار يناظر المخالفين بناء على القواعد التي وصل إليها أو اختارها. ولما أشهر هذه الأقوال والقواعد ونظر فيها علماء الشريعة بطبيعة الحال، ورأوها مطابقة لما يفهمونه هم، وما كان قد وصل إليهم من أقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، والقرآن الكريم والسنة المشرّفة، اتفقوا بعد هذا النظر والاجتهاد على أن الإمام أبا الحسن الأشعري هو الممثّل الحقيقي لأهل السنة والجماعة، وأنه هو الذي أظهر طريقتهم وردّ على المخالفين.
ويُفْهَمُ من هذا العرض المجمل، أن الإمام الأشعريّ لم ينتقل من مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة بين يوم وليلة، كما يفهم الكثير من عوامّ الناس، بل اللاّئق بحال الإمام كما ورد في سيرته من أخبار، والمناسب لما جرت عليه أحوال بني آدم عامة هو التكامل التدريجي الذي لابد أن يمرَّ به كل إنسان يحاول الوصول إلى المذهب الحق، والمعاناة التامة من التفكير والمناضلة للمخالفين التي لا بدّ أن يتعرض لـها أي إنسان.
ولم يبتدع الإمام الأشعريّ مذهبه ابتداعاً، بل كان عملـه كما قلنا عبارة عن شرح وتدعيم لأقوال أهل السنة»..
المعتزلة عند أهل السنة السادة الأشاعرة مبتدعة فسقة لقولهم بخلق القرآن ، وشتان بين قولهم وبين قول أهل السنة الأشاعرة .وباختصار فإن الأشاعرة أثبتوا لله كلاما هو صفة قديمة تقوم بذاته سبحانه وتعالى .
وكلام الله يتعلق بكل معلومات الله تعالى تعلق دلالة عليها .
وكون الكلام صفة قديمة فإن هذا يعني أن لا أول له ولا آخر ضرورة قدمه إذ ما له أول يبتدئ عنده أو نهاية ينتهي عندها يكون حادثا لا قديما .
فعليه فإن كلام الله تعالى لا أول له ولا آخر ، فوجب أن لا يكون بحروف كما هو كلامنا لأنه إن كان بحروف لم يكن قديما ، فإنك لا تنطق السين من (بسم الله) إلا بعد أن تنتهي من نطق الباء منها ، فلو كان كلامه بحروف لكان للباء بداية ونهاية وللسين كذلك ولبقية حروف كلماته ولكان كلامه مرتبا متتابعا بحيث لا يأتي آخره إلا بعد انتهاء أوله والقديم لا ينتهي ولا بداية له ، فهذا ينافي قدمها وكونها أزلية ، فوجب أن لا يكون كلامه بحرف .
ثم إن القرآن الذي بين أيدينا اليوم بحروف مرتبة متتابعة له أول وآخر ، ولكنه كلام الله أيضا فكيف يكون الفهم الصحيح لهذا الأمر بما يتوافق مع اعتقادنا كون كلام الله صفة قديمة أزلية تقوم بذاته سبحانه وتعالى .
لا فهم صحيح لهذا إلا فهم السادة الأشاعرة ، وهو أن الألفاظ التي تكتب في المصحف وتنطق بالألسنة وتسمع بالأذن والتي اسمها القرآن إنما هي عبارة عن القرآن القديم الذي هو كلام الله تعالى وصفته القائمة بنفسه .
فللقرآن إذن اعتباران :
1- اعتبار صفة قديمة : فهنا القرآن هو كلام الله القديم القائم بذاته ، ومن السخف اعتقاد أن هذا الذي في المصحف والملفوظ بأفواهنا والمسموع بآذاننا هو ذات صفة الله القديمة وإلا وجب أن تكون صفة الله قد حلت في المصحف والورق والآذان والألسنة ، ولاقتضى أن الكافر يدوس بقدمه صفة من صفات الله إن هو أهان المصحف وداسه ، ولا عاقل يقول بهذا - إلا بعض سفهاء الحشوية الوهابية ربما - وفيه مشابهة لاعتقاد النصارى حلول صفة علم الله في جسد المسيح ، بل النصارى خير من هؤلاء إذ جعلوا الصفة حالة في جسد واحد ، وهؤلاء السفهاء جعلو صفة الله حالة في كل شيء والعياذ بالله !!
2- اعتبار نظم ملفوظ وهو ما نقرأه ونسمعه ويسمى قرآنا أيضا ، وهو الألفاظ الحادثة - ضرورة أن لها بداية ونهاية - التي هي عبارة عن القرآن القديم القائم بذات الله تعالى .
فالملفوظ حادث لا يشك في ذلك عاقل ، وهو عبارة عن الصفة القديمة القائمة بذات الله .
وكلا من الملفوظ والقديم يسمى (قرآنا) ، وهل هذا اشتراك لفظي أو أن اسم (القرآن) حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر : اختلف في ذلك العلماء ، وخلافهم لا يضر فيه .
وكلاهما يسمى كلام الله تعالى باعتبار أن القديم كلامه وصفته القائمة بذاته وباعتبار أن اللفظ الحادث خلقه الله تعالى وأنزله للتعبير عن كلامه القديم فاللفظ والنظم منه سبحانه وتعالى فينسب إليه بهذا الاعتبار فهو كلامه أيضا سبحانه وتعالى .
ونحن نؤمن بأن كلام الله لا أول له ولا آخر ، ونؤمن بقدمه ، وبهذا الاعتبار فإن الله لا ينشيء كلاما حادثا يتكلم به لم يكن موجودا ، بل كلامه قديم لا يتغير ولا يتجدد ولا يحدث بعد عدم ، والوهابية الحشوية لجهلهم وضعف عقولهم لا يستطيعون تصور هذه المسألة ، فيستغربون ويقولن على هذا فإن الله قال كل القرآن قبل أن ينزله منجما على سيدنا محمد حسب الوقائع ، فإن أجبناهم بالموافقة وصحة ذلك ، ضحكوا وقالوا إذن الله عندكم قد قال : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } قبل أن يسمع ذلك منها !!
فهم يستبعدون هذا ولا يتصورونه لضعف عقولهم ، وإلا فإن كلام الله من علم الله كما قال الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية ، وكما أن الله تعالى علم قول خولة بنت الأزور قبل أن تشتكي إلى رسول الله فإن كلامه تعلق تعلق دلالة على ما علمه سبحانه من ذلك قبل وقوعه .
ويشهد لصحة فهمنا وعقيدتنا هذه ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه الحاكم وغيره قال :
[عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال:
أنزل القرآن في ليلة القدر، من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين.
قال: وتلا هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم}.
قال: نزل متفرقا.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ] مستدرك الحاكم
فإذا وفق قول ترجمان القرآن رضي الله عنهما فإن كل آيات القرآن نزلت في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا على ثلاث وعشرين سنة هي مدة نزول الوحي ، فإذا قوله تعالى { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } كان موجودا مكتوبا في السماء الدنيا قبل شكوى خولة زوجها إلى رسول الله بسنين عددا ، فبان خطل وتهافت ما تمسكت به الحشوية في هذا المقام .
وهذا العنى زيادة على ما سبق بيانه موجود بكثرة ومبثوث في كلام السلف الصالح رضي الله عنهم ، فكلهم قد نصوا وقالوا بأن (القرآن كلام الله قديم غير مخلوق) ، وتراهم يؤكدون جملة (كلام الله) ولا يسقطونها أبدا للتأكيد على أنهم لا يقصدون بالقرآن القديم غير الصفة التي تقوم بذات الله والتي تنكرها المعتزلة والتي كان الخلاف عليها قائما بينهم والمعتزلة لا في غيرها .
ولكن شيخ الحشوية والوهابية ابن تيمية في فتاواه - على ما أذكر - وغيرها يصر على عدم قول جملة (كلام الله) كما يفعل السلف ويحذر من قول ذلك رغم ثبوته عن السلف ويصر على أن يقول : (القرآن قديم غير مخلوق) لأن جملة (كلام الله) تسند قول الأشاعرة وتبطل قوله .
والعجيب أن الوهابية والحشوية المعاصرين أتباع ابن تيمية قد وافقوا المعتزلة في قولهم بخلق القرآن من حيث لا يشعرون ، إذ إن ابن تيمية وتلميذه شارح الطحاوية "ابن أبي العز" والوهابية اليوم كلهم لما تسألهم عن كلام الله يقولون لك كما في شرح الطحاوية :
(كلام الله قديم النوع حادث الآحاد) !!
فلما تسألهم ماذا يقصدون بهذا الكلام يقولون لك :
قديم النوع : أي أن لله صفة قديمة تقوم بذاته تسمى صفة الكلام .
وأما حادث الآحاد فيعني أن آحاد ذلك الكلام حادثة ، أي أنه كائنة بعد أن لم تكن ، فيتكلم الله عندهم بكلام ينشؤه وفقا للمتجددات والحوادث والمعطيات المتغيرة ليخاطب به خلقه ، فهذا الكلام متجدد متغير وجد بعد أن كان معدوما وتكلم به بعد أن كان ساكتا عنه والعياذ بالله .
فلما تسألهم ماهي هذه الآحاد الحادثة ؟؟
فإنهم يجيبونك بأنها مثل القرآن المحتوي على وصف وقائع وحوادث متجددة كالغزاوت والاحداث التي مر بها النبي وسجلها القرآن ، وكالتوراة والإنجيل والزبور ، فهذه كلها آحاد حادثة لكلام الله .
ومعنى هذا لو أن القوم يفقهون ويعقلون أن القرآن حادث أي مخلوق فإن المخلوق الحادث هو الذي يوجد بعد العدم ، وهو عين مذهب المعتزلة الذي وافقوهم فيه بجهلهم وهم لا يشعرون ثم رمونا نحن بموافقة المعتزلة والله المستعان .
فلما تسألهم هذا الكلام والقرآن الحادث أين أوجده الله وهل يقوم بذاته ، فإنهم يقولون : أوجده في ذاته ويقوم بذاته ، فجوزوا قيام الحوادث بذات الله تعالى والعياذ بالله وهو قول عظيم لم يسبقهم إليه أحد من المسلمين غير طائفة الكرامية التي أجمع أهل السنة على تكفيرها إذ قد استقر في وجدان الكل حتى الأطفال أن الله يغير ولا يتغير فكيف يقوم بذاته متغير مخلوق وجد بعد عدم والعياذ بالله وكيف تزداد ذاته وتكتسب صفة وشيئا لم يكن فيها لو أن القوم يعقلون !!
وهو أفظع وأشنع من قول المعتزلة الذين وافقوهم في خلق القرآن ، فإن المعتزلة يمنعون قيام شيء بذات الله وينفون الصفات جميعا ، وكلام الله عندهم الذي هو القرآن وغيره خلقه الله سبحانه وتعالى لا في ذاته بل في شيء آخر خلقا بإرادته وقدرته ، فلا يقوم بذاته مخلوق حادث بخلاف قول الوهابية الحشوية الشنيع .
فالخلاصة أن المعتزلة أخي ينفون صفة الكلام جملة وتفصيلا ، وكلام الله عندهم حروف وأصوات خلقها الله في شيء من خلقه بقدرته ليوصل بها معنى لخلقه ، فالله عندما كلم موسى خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى على أنه كلام الله ، ولما أراد أن يخاطبنا خلق القرآن في اللوح المحفوظ وعلمه جبريل ليوحيه إلى سيدنا محمد دون أن يكون له سبحانه وتعالى كلام يقوم بذاته من غير جنس كلامنا .
بينما أهل السنة الأشاعرة يثبتون لله صفة الكلام ويقولون ان كلام الله قديم يقوم بذاته وان الألفاظ الحادثة عبارة عن تلك الصفة لا أن تلك الصفة في نفسها معدومة كما يقول المعتزلة ، وأن الله سبحانه وتعالى لما كلم موسى كلمه بكلامه القديم وان موسى سمع كلامه القديم سبحانه وتعالى وبهذا اختص على كل الناس إذ لو سمع شيئا مخلوقا لما كان له اختصاص على أي منا وهو يسمع تلاوة للقرآن .منقوول منتدى الأصلين
المعتزلة عند أهل السنة السادة الأشاعرة مبتدعة فسقة لقولهم بخلق القرآن ، وشتان بين قولهم وبين قول أهل السنة الأشاعرة .وباختصار فإن الأشاعرة أثبتوا لله كلاما هو صفة قديمة تقوم بذاته سبحانه وتعالى .
وكلام الله يتعلق بكل معلومات الله تعالى تعلق دلالة عليها .
وكون الكلام صفة قديمة فإن هذا يعني أن لا أول له ولا آخر ضرورة قدمه إذ ما له أول يبتدئ عنده أو نهاية ينتهي عندها يكون حادثا لا قديما .
فعليه فإن كلام الله تعالى لا أول له ولا آخر ، فوجب أن لا يكون بحروف كما هو كلامنا لأنه إن كان بحروف لم يكن قديما ، فإنك لا تنطق السين من (بسم الله) إلا بعد أن تنتهي من نطق الباء منها ، فلو كان كلامه بحروف لكان للباء بداية ونهاية وللسين كذلك ولبقية حروف كلماته ولكان كلامه مرتبا متتابعا بحيث لا يأتي آخره إلا بعد انتهاء أوله والقديم لا ينتهي ولا بداية له ، فهذا ينافي قدمها وكونها أزلية ، فوجب أن لا يكون كلامه بحرف .
ثم إن القرآن الذي بين أيدينا اليوم بحروف مرتبة متتابعة له أول وآخر ، ولكنه كلام الله أيضا فكيف يكون الفهم الصحيح لهذا الأمر بما يتوافق مع اعتقادنا كون كلام الله صفة قديمة أزلية تقوم بذاته سبحانه وتعالى .
لا فهم صحيح لهذا إلا فهم السادة الأشاعرة ، وهو أن الألفاظ التي تكتب في المصحف وتنطق بالألسنة وتسمع بالأذن والتي اسمها القرآن إنما هي عبارة عن القرآن القديم الذي هو كلام الله تعالى وصفته القائمة بنفسه .
فللقرآن إذن اعتباران :
1- اعتبار صفة قديمة : فهنا القرآن هو كلام الله القديم القائم بذاته ، ومن السخف اعتقاد أن هذا الذي في المصحف والملفوظ بأفواهنا والمسموع بآذاننا هو ذات صفة الله القديمة وإلا وجب أن تكون صفة الله قد حلت في المصحف والورق والآذان والألسنة ، ولاقتضى أن الكافر يدوس بقدمه صفة من صفات الله إن هو أهان المصحف وداسه ، ولا عاقل يقول بهذا - إلا بعض سفهاء الحشوية الوهابية ربما - وفيه مشابهة لاعتقاد النصارى حلول صفة علم الله في جسد المسيح ، بل النصارى خير من هؤلاء إذ جعلوا الصفة حالة في جسد واحد ، وهؤلاء السفهاء جعلو صفة الله حالة في كل شيء والعياذ بالله !!
2- اعتبار نظم ملفوظ وهو ما نقرأه ونسمعه ويسمى قرآنا أيضا ، وهو الألفاظ الحادثة - ضرورة أن لها بداية ونهاية - التي هي عبارة عن القرآن القديم القائم بذات الله تعالى .
فالملفوظ حادث لا يشك في ذلك عاقل ، وهو عبارة عن الصفة القديمة القائمة بذات الله .
وكلا من الملفوظ والقديم يسمى (قرآنا) ، وهل هذا اشتراك لفظي أو أن اسم (القرآن) حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر : اختلف في ذلك العلماء ، وخلافهم لا يضر فيه .
وكلاهما يسمى كلام الله تعالى باعتبار أن القديم كلامه وصفته القائمة بذاته وباعتبار أن اللفظ الحادث خلقه الله تعالى وأنزله للتعبير عن كلامه القديم فاللفظ والنظم منه سبحانه وتعالى فينسب إليه بهذا الاعتبار فهو كلامه أيضا سبحانه وتعالى .
ونحن نؤمن بأن كلام الله لا أول له ولا آخر ، ونؤمن بقدمه ، وبهذا الاعتبار فإن الله لا ينشيء كلاما حادثا يتكلم به لم يكن موجودا ، بل كلامه قديم لا يتغير ولا يتجدد ولا يحدث بعد عدم ، والوهابية الحشوية لجهلهم وضعف عقولهم لا يستطيعون تصور هذه المسألة ، فيستغربون ويقولن على هذا فإن الله قال كل القرآن قبل أن ينزله منجما على سيدنا محمد حسب الوقائع ، فإن أجبناهم بالموافقة وصحة ذلك ، ضحكوا وقالوا إذن الله عندكم قد قال : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } قبل أن يسمع ذلك منها !!
فهم يستبعدون هذا ولا يتصورونه لضعف عقولهم ، وإلا فإن كلام الله من علم الله كما قال الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية ، وكما أن الله تعالى علم قول خولة بنت الأزور قبل أن تشتكي إلى رسول الله فإن كلامه تعلق تعلق دلالة على ما علمه سبحانه من ذلك قبل وقوعه .
ويشهد لصحة فهمنا وعقيدتنا هذه ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه الحاكم وغيره قال :
[عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال:
أنزل القرآن في ليلة القدر، من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين.
قال: وتلا هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم}.
قال: نزل متفرقا.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ] مستدرك الحاكم
فإذا وفق قول ترجمان القرآن رضي الله عنهما فإن كل آيات القرآن نزلت في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا على ثلاث وعشرين سنة هي مدة نزول الوحي ، فإذا قوله تعالى { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } كان موجودا مكتوبا في السماء الدنيا قبل شكوى خولة زوجها إلى رسول الله بسنين عددا ، فبان خطل وتهافت ما تمسكت به الحشوية في هذا المقام .
وهذا العنى زيادة على ما سبق بيانه موجود بكثرة ومبثوث في كلام السلف الصالح رضي الله عنهم ، فكلهم قد نصوا وقالوا بأن (القرآن كلام الله قديم غير مخلوق) ، وتراهم يؤكدون جملة (كلام الله) ولا يسقطونها أبدا للتأكيد على أنهم لا يقصدون بالقرآن القديم غير الصفة التي تقوم بذات الله والتي تنكرها المعتزلة والتي كان الخلاف عليها قائما بينهم والمعتزلة لا في غيرها .
ولكن شيخ الحشوية والوهابية ابن تيمية في فتاواه - على ما أذكر - وغيرها يصر على عدم قول جملة (كلام الله) كما يفعل السلف ويحذر من قول ذلك رغم ثبوته عن السلف ويصر على أن يقول : (القرآن قديم غير مخلوق) لأن جملة (كلام الله) تسند قول الأشاعرة وتبطل قوله .
والعجيب أن الوهابية والحشوية المعاصرين أتباع ابن تيمية قد وافقوا المعتزلة في قولهم بخلق القرآن من حيث لا يشعرون ، إذ إن ابن تيمية وتلميذه شارح الطحاوية "ابن أبي العز" والوهابية اليوم كلهم لما تسألهم عن كلام الله يقولون لك كما في شرح الطحاوية :
(كلام الله قديم النوع حادث الآحاد) !!
فلما تسألهم ماذا يقصدون بهذا الكلام يقولون لك :
قديم النوع : أي أن لله صفة قديمة تقوم بذاته تسمى صفة الكلام .
وأما حادث الآحاد فيعني أن آحاد ذلك الكلام حادثة ، أي أنه كائنة بعد أن لم تكن ، فيتكلم الله عندهم بكلام ينشؤه وفقا للمتجددات والحوادث والمعطيات المتغيرة ليخاطب به خلقه ، فهذا الكلام متجدد متغير وجد بعد أن كان معدوما وتكلم به بعد أن كان ساكتا عنه والعياذ بالله .
فلما تسألهم ماهي هذه الآحاد الحادثة ؟؟
فإنهم يجيبونك بأنها مثل القرآن المحتوي على وصف وقائع وحوادث متجددة كالغزاوت والاحداث التي مر بها النبي وسجلها القرآن ، وكالتوراة والإنجيل والزبور ، فهذه كلها آحاد حادثة لكلام الله .
ومعنى هذا لو أن القوم يفقهون ويعقلون أن القرآن حادث أي مخلوق فإن المخلوق الحادث هو الذي يوجد بعد العدم ، وهو عين مذهب المعتزلة الذي وافقوهم فيه بجهلهم وهم لا يشعرون ثم رمونا نحن بموافقة المعتزلة والله المستعان .
فلما تسألهم هذا الكلام والقرآن الحادث أين أوجده الله وهل يقوم بذاته ، فإنهم يقولون : أوجده في ذاته ويقوم بذاته ، فجوزوا قيام الحوادث بذات الله تعالى والعياذ بالله وهو قول عظيم لم يسبقهم إليه أحد من المسلمين غير طائفة الكرامية التي أجمع أهل السنة على تكفيرها إذ قد استقر في وجدان الكل حتى الأطفال أن الله يغير ولا يتغير فكيف يقوم بذاته متغير مخلوق وجد بعد عدم والعياذ بالله وكيف تزداد ذاته وتكتسب صفة وشيئا لم يكن فيها لو أن القوم يعقلون !!
وهو أفظع وأشنع من قول المعتزلة الذين وافقوهم في خلق القرآن ، فإن المعتزلة يمنعون قيام شيء بذات الله وينفون الصفات جميعا ، وكلام الله عندهم الذي هو القرآن وغيره خلقه الله سبحانه وتعالى لا في ذاته بل في شيء آخر خلقا بإرادته وقدرته ، فلا يقوم بذاته مخلوق حادث بخلاف قول الوهابية الحشوية الشنيع .
فالخلاصة أن المعتزلة أخي ينفون صفة الكلام جملة وتفصيلا ، وكلام الله عندهم حروف وأصوات خلقها الله في شيء من خلقه بقدرته ليوصل بها معنى لخلقه ، فالله عندما كلم موسى خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى على أنه كلام الله ، ولما أراد أن يخاطبنا خلق القرآن في اللوح المحفوظ وعلمه جبريل ليوحيه إلى سيدنا محمد دون أن يكون له سبحانه وتعالى كلام يقوم بذاته من غير جنس كلامنا .
بينما أهل السنة الأشاعرة يثبتون لله صفة الكلام ويقولون ان كلام الله قديم يقوم بذاته وان الألفاظ الحادثة عبارة عن تلك الصفة لا أن تلك الصفة في نفسها معدومة كما يقول المعتزلة ، وأن الله سبحانه وتعالى لما كلم موسى كلمه بكلامه القديم وان موسى سمع كلامه القديم سبحانه وتعالى وبهذا اختص على كل الناس إذ لو سمع شيئا مخلوقا لما كان له اختصاص على أي منا وهو يسمع تلاوة للقرآن .منقوول منتدى الأصلين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق