ينظر السلفية بريبة كبيرة إلى كل العاملين في المجال الدعوي مهما اختلفت توجهاتهم ومذاهبهم وتياراتهم، فلهم عندهم جميعا لقب واحد هو لقب المبتدعة، ما داموا لم ينضموا إلى الجماعة السلفية التي تمثل وحدها الإسلام كما يزعمون..
وكل ذلك ينطلق من تلك النظرة الطائفية المستكبرة التي يتعامل بها العقل السلفي مع كل الأمور.. فهو في هذا المجال أيضا لا يرضى أن يوجد في البيئة الإسلامية أي منافس له، لأنه لا يريد إلا أن يكون وحده في الساحة، وأن يكون وحده ممثلا للإسلام.
وقد عبر عن هذا المعنى الشيخ صالح الفوزان عندما سئل: (يزعُم بعض الناس أنَّ السلفية تعتبر جماعة من الجماعات العاملة على الساحة، وحكمها حكم بقية الجماعات، فما هو تقييمكم لهذا الزعم؟)
فأجاب بقوله: (الجماعة السلفية هي الجماعة التي على الحق، وهي التي يجب الانتماء إليها والعمل معها والانتساب إليها، وما عداها من الجماعات يجب أن لا تعتبر من جماعات الدعوة لأنها مخالفة إلا إذا انضمت إلى هذه الجماعة السلفية، أما إذا استمرت مخالفة فلا نتبعها وكيف نتَّبع فرقة مخالفة لجماعة أهل السُّنة وهدي السلف الصالح.. ما خالف للجماعة السلفية فإنه مخالف لمنهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مخالف لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فقول القائل: إن الجماعة السلفية واحدة من الجماعات الإسلامية، هذا قول غلط، لأن الجماعة السلفية هي الجماعة الوحيدة التي يجب اتِّباعُها والسير على منهجها والانضمام إليها والجهاد معها لأنها الجماعة الأصيلة وما عداها فهي جماعة اصطلاحية تضع لها منهجاً اصطلاحياً، فما عدا الجماعة السلفية فإنه لا يجوز للمسلم أن ينضم إليه، لأنه مخالف،فهل يرضى إنسان أن ينضم إلى المخالفين.. هل يريد الإنسان النجاة ويسلك غير طريقها)([844])
وسُئِلَ: (هل السلفيـة حزب من الأحـزاب وهل الانتساب لها مذموم؟)، فأجاب: (السلفية هي الفرقة الناجية، وهم أهل السُّنة والجماعة، ليست حزبًا من الأحزاب التي تسمى أحزابًا وإنما هم جماعة على السُّنة والدين.. فالسلفية طائفة على مذهب السلف على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، هي ليست حزباً من الأحزاب العصرية الآن، إنما هي جماعة قديمة أثرية من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم متوارثة مستمرة لا تزال على الحق ظاهرة إلى قيام الساعة كما أخبرصلى الله عليه وآله وسلم)([845])
وهكذا نراهم عندما يتحدثون عن أي حركة من الحركات الإسلامية، فإنهم ينطلقون من مقولات سلفهم في الجهمية والمعتزلة والشيعة وغيرها ليطبقوها عليهم.
وبذلك فإن أحكامهم على هذه الجماعات والحركات لا تختلف عن أحكام سلفهم على تلك الفرق والمذاهب، وإن كانوا يختلفون في حدة الموقف، بناء على الظروف المختلفة المتعلقة بكل متحدث منهم.
أما الموقف الحقيقي لهم فهو لا يختلف عن موقفهم من سائر الأمة، وهو تسليط سيف التكفير عليهم إما تكفيرا مطلقا أو تكفيرا معينا، كما سنرى من خلال هذا الفصل.
بناء على ما ذكرنا سابقا من تكفير السلفية للأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم بسبب مواقفهم التنزيهيه من صفات الله، والتي اعتبرها السلفية تعطيلا وتجهما.. وبناء على موقفهم من الصوفية، وتكفيرهم لهم جملة وتفصيلا.. وبناء على مواقفهم المتشددة فيما يسمونه الولاء والبراء، فإن موقف السلفية من الحركات الإسلامية جميعا يصل إلى حد التكفير بناء على هذه الاعتبارات وغيرها، كما سنشرح ذلك في التهم التي يوجهها السلفية عادة للحركات الإسلامية، وهي:
لا يدرس السلفية الحركات الإسلامية من باب جدوى ما تقوم به من ممارسات في خدمة الإسلام أو التعريف به والدعوة إليه، ليحكموا من خلال ذلك على مدى جديتها وجدوى ما تقوم بها، وإنما يدرسونها من خلال الموازين التي تركها لهم سلفهم.. والتي تختصر في الموقف من الصفات والعلو وخلق القرآن ونحو ذلك..
ولهذا نرى السلفية يبحثون في تراث أي حركة، وفي عقل أي منتم إليها، فإن وجدوا شيئا مما يخالف ما ذكره سلفهم، سارعوا إلى نقله وتوثيقه ،ثم الحكم على الحركة كلها من خلاله.
ومن أمثلة ذلك ما حكم به الشيخ ربيع بن هادي المدخلي على جماعة التبليغ، فقد قال: (ولا شك أن الاختلاف بين السلفيين أهل السُنّة والتوحيد وبين جماعة التبليغ اختلاف شديد وعميق في العقيدة والمنهج. فهم ماتريدية معطّلة لصفات الله، وصوفية في العبادة والسلوك يبايعون على أربع طرق صوفية مُغرقة في الضلال ومن ذلك أن هذه الطرق تقوم على الحلول ووحدة الوجود والشرك بالقبور وغير ذلك من الضلالات. وهذا قطعاً لا يعرفه عنهم العلامة ابن عثيمين ولو عرف ذلك عنهم لأدانهم بالضلال ولحذَّر منهم أشد التحذير، ولسلك معهم المسلك السلفي كما فعل شيخاه الإمام محمد بن إبراهيم والإمام ابن باز وغيرهما)([846])
وهكذا قال التويجري في كتابه الذي خصصه لتكفيرهم ـ عند ذكره لبعض القصص التي حصلت بين السلفية وبينهم ـ (قال الشيخ الذي أرسل إليَّ المذكرة: وقد حصلت لي مع الشاهد المذكور قصة، وهي أنه جاءني مستنكراً الكلام في جماعة التبليغ! فقلت له: إنهم متصوفة وماتريدية لا يصفون الله بصفة العلو، فقال: وما الدليل على ذلك؟ فقلت له: اذهب بنفسك، وحاول أن تقف على الواقع. فذهب الرجل، وبعد أيام عاد إليَّ وهو يقول: إن ما ذكرته من كونهم لا يعترفون بعلوِّ الله واستوائه على عرشه صحيح. فقلت له: وكيف عرفت ذلك؟ قال: ذهبت إلى رئيس الجماعة سعيد أحمد الذي كان يثق بي تمام الثقة؛ لأني من تلاميذه ومريديه، فقلت له: إني لست في شك من عقيدتنا، وهي أن الله في كل مكان، وليس هو في السماء، ولكن؛ بماذا نردُّ على الذين يقولون: إن الله في السماء. فقال: اتركهم واثبت على عقيدتك؛ فهي الحق)([847])
وقد علق التويجري على هذه القصة بقوله: (وهذه طامة كبرى من عقائد التبليغيِّين، وهي إنكار علو الله على خلقه، وهذا هو مذهب الجهمية الذين كفَّرهم كثير من علماء السلف وتبرَّؤوا منهم.. وقد ذكر عبد الله ابن الإِمام أحمد في كتاب [السنة] كثيراً من أقوال العلماء في تكفيرهم، وذكرها غيره من الأئمة الذين صنَّفوا في السنة والردِّ على الجهميَّة. فليعتبر المسارعون إلى الانضمام إلى جماعة التبليغ بما ذُكر عن رئيس جماعتهم في المملكة العربية السعودية أنه يعتقد أن الله في كل مكان وليس هو في السماء! وهذا كفر صريح؛ لمناقضته للأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن الله تعالى مستوٍ على عرشه، فوق جميع المخلوقات، وأنه مع الخلق بعلمه واطلاعه وإحاطته.. فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من الانضمام إلى التبليغيين الذين ينكرون علوَّ الله على خلقه، ويزعمون أنه في كل مكان، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً)([848])
وهكذا ينظر السلفية إلى الإخوان المسلمين، فهم في كل كتاب يتحدثون فيه عنهم لا يهتمون كثيرا بأخطائهم التي وقعوا فيها أثناء ممارستهم للعمل الدعوي، فذلك لا يهمهم كثيرا، وإنما الذي يهمهم هو أن الشيخ حسن البنا عند ذكره للعقائد كان متأثرا بالأشاعرة المعطلين للصفات والمنكرين للجهة، وقد قال أحدهم في كتاب تكفيري خطير خصصه للإخوان المسلمين: (أما حسن البنا فمذهبه في صفات الله تعالى أنه (أشعري مفوض) في صفات الله تعالى أي يثبت المعنى في ثلاث عشرة صفة فقط أما باقي الصفات فيفوض في المعنى ولا يثبت معناها وهذا مذهب الأشاعرة المفوضة. فحسن البنا أثبت في كتابه (العقائد) الصفات الثلاثة عشرة التي أثبتها الأشاعرة وهي الصفات السبع التي تسمى صفات المعاني وأثبت الصفات الخمس التي تسمى الصفات النفسية ثم أثبت صفة الوجود فهذه ثلاث عشر صفة من أثبتها بطريقة الأشاعرة يعتبر أشعريا.. فحسن البنا أشعري يثبت الصفات السبع والصفات السلبية الخمسة والصفة النفسية، ثم بعد ذلك اختار الطريق الآخر من طرق الأشاعرة وهو تفويض الصفات ثم دلس وألصق كل هذا بمذهب السلف. فحسن البنا يرى بتفويض صفات الله تعالى ثم يتمادى ويدلس وينسب هذا بالباطل لمذهب السلف)([849])
بل إنه يذهب ويرمي محاولة الشيخ حسن البنا تهوين الخلاف بين السلف والخلف في تلك المسائل إلى أنه ارتكب بذلك أكبر جريمة، فقال: (لا يكتفي حسن البنا بأنه يفوض في صفات الله تعالى، ولا يكتفي بأنه يدلس وينسب مذهبه الباطل في التفويض إلى السلف بل يتمادى أكثر وأكثر، فيُهوِّن ويـُقلـِّل من الخلاف بين الأشاعرة المفوضة (الذين يكذب حسن البنا ويقول أن مذهبهم في تفويض معاني صفات الله تعالى هو مذهب الصحابة والسلف) وبين الأشاعرة المؤولة الذين يسميهم حسن البنا بالخلف؛ فيقول بأن الخلاف بين الفريقين من قبيل (خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا) أو (هو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا)..؛ فيقول حسن البنا (ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديما وحديثا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله.. وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا)([850]).. أي يجعل الخلاف في توحيد الأسماء والصفات بين الفريقين الضالَّين من باب الخلاف السائغ الهين الذي لا ينكر فيه على المخالف، وقول حسن البنا الصوفي الحصافي الشاذلي لم يقل به أحد من السلف نعوذ بالله تعالى من الخذلان)([851])
وهكذا يرمي من خلف الشيخ حسن البنا بالوقوع في نفس البدعة التي وقع فيها، بل في أشد منها، فيقول: (أما خلفاء حسن البنا كسعيد حوى والغزالي وغيرهم فكانوا أصرح منه فعطلوا الصفات بالكلية ثم أولوها ما عدا ثلاثة عشر على مذهب الأشاعرة المؤولة أو الماتريدية)([852])
بل إنه يصور مشروع الإخوان المسلمين في إقامة الخلافة الإسلامية أو إحيائها، بأنه ليس كذلك، وإنما هو مشروع لإحياء الخلافة الصوفية الأشعرية، فيقول في فصل بعنوان [السبب الحقيقي والهدف الحقيقي لإنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان الضالة]: (نريد أن نسأل: لماذا أنشأ حسن البنا الأشعري الصوفي جماعة جديدة في بدايات القرن العشرين تضم جميع الفرق الضالة المنتسبة للإسلام؟ الإجابة ببساطة نعرفها عندما نعرف الهدف الأسمى والأعلى لجماعة الإخوان؛ فالهدف الأسمى والأعلى لجماعة الإخوان هو: وصول جماعة الإخوان للحكم في البلاد الإسلامية ويليه إقامة الخلافة الصوفية الأشعرية الحامية لأهل البدع والفرق الضالة، فهي خلافة البدع والخرافات والضلالات، وإذا أنشأ حسن البنا الصوفي الأشعري جماعته لتضم فقط من هم على مذهبه من الصوفيين الأشاعرة فهذا سيُعـَطـِّل تنفيذ الهدف الأسمى للجماعة وسيضع المعوقات في طريق تحقيق هذا الهدف الأساس للجماعة ولذلك اختار حسن البنا أن يجعل جماعته تضم جميع الفرق الضالة وتحتضنها لتحقيق هدف الجماعة؛ وهذا ما سار عليه خلفاء حسن البنا وحتى الآن وهذا صميم منهج جماعة الإخوان الضالة)([853])
وهكذا كفر السلفية جماعة العدل والإحسان المغربية بسبب ميولاتها الصوفية، وقد قال بعضهم، وهو يتحدث عن الشيخ عبد السلام ياسين زعيم الجماعة: (وهذا الرجل الذي يتزعم حالياً جماعة أشبه ما تكون بطريقة صوفية، وتدعى [جماعة العدل والإحسان]، قد مر في حياته باضطرابات فكرية وعقائديه، حيث عاش ردحاً من الزمن يتغذى على الفكر المادي فكر فرويد وماركس، وفجأة ينتقل إلى توجه آخر، ومناقض له تمام المناقضة، وهذه التوجه الجديد هو التصوف، الذي لا أثر للعقل فيه البتة.. وقد لخص المغراوي مصادر التلقي عند ياسين في الأمور التالية: 1-الفكر الرافضي.. 2-فكر الحلاج المقتول على الزندقة.. 3-فكر ابن عربي الحاتمي شيخ القائلين بوحدة الوجود.. 4-فكر الشعراني صاحب الطبقات.. 5-فكر الدباغ وكتابه الإبريز.. 6-فكر التجاني)
من الاهتمامات الكبرى للسلفية أثناء دراستهم لأي حركة من الحركات الإسلامية البحث عن صلتها وعلاقتها بالطرق الصوفية.. ذلك أن وجود هذا وحده كاف لشرعنة التحذير من تلك الحركة وتبديعها.. بل وتكفيرها كما يكفر الصوفية جميعا.
ولهذا نراهم عند حديثهم عن جماعة التبليغ يستعملون كل الوسائل لربطها بالطرق الصوفية، ابتداء من بحثهم عن حياة شيخها وعلاقته بالتصوف، وانتهاء بالبحث عن أي دليل يرتبط بأي منتم لهذه الحركة لرمي الجماعة كلها من خلاله.
ومن الأمثلة على ذلك تلك الشهادات التي يوردونها عن بعض من تابوا من تبعيتهم للجماعة، ويعتبرونها مصدرا كافيا للحكم عليهم، بل وتكفيرهم.
فمن تلك الشهادات التي أوردها صاحب كتاب [الحقائق عن جماعة التبليغ] هذه الشهادة: (أشهد أنا الواضع اسمي فيه والموقع في آخره، السيد عبد اللطيف عبد الرحمن المدني؛ بأن الجماعة المدعوَّة جماعة التبليغ، التابعة لإِلياس صاحب الطريقة الجشتية، ثم بعد وفاته اتَّبعت ابنه يوسف (ديوبند) صاحب الطريقة الجشتية النقشبندية، ثم التابعة حاليّاً لإِنعام الحسن (ديوبند) صاحب الطريقة الجشتية النقشبندية، ومن ثمَّ رئيسهم بمكة المكرمة سعيد بن أحمد الهندي صاحب الطريقة الجشتية النقشبندية، وهي الجماعة المعروفة التي تدور في داخل المملكة، ومركزها بمكة المكرمة والمدينة المنوَّرة.. أعرفها تماماً حقَّ المعرفة؛ لأنني قد خرجتُ معهم في جولات التبليغ سنتين في داخل المملكة وبلاد أخرى، وأعرف عقائدهم فاسدة: عقيدة الجشتية النقشبندية البدعية الشركية، وأعرف منهم تعزيز البدع والخرافات في كل المجالات، وأنهم بعيدون عن التوحيد والكتاب والسنة، وأنهم لا يعرفون من التوحيد شيئاً، بل هم وثنيون في العقيدة والعمل، وقد أنكرت عليهم أنا شخصيّاً مراراً في العقائد والبدع والخرافات، ولكن لم يسمعوا مني أي شيء من الكتاب والسنة النبوية، بل هم ألدُّ الخصام في طريقتهم الباطلة، وهذا مبلغهم من العلم، جهلٌ على الإِطلاق، وبالرغم ينشرون في البلاد الإِسلامية وغيرها العقائد الفاسدة الوثنية الجشتية النقشبندية البدعية الشركية، ويشردون عباد الله العامة عن التوحيد والكتاب والسنة بطرق غريبة من أقوال الخرافيين.. وهؤلاء الجماعة - أعني: جماعة التبليغ - ينذرون لهؤلاء المقبورين في المسجد، ويستنصرون بهم في كل المهمات، وعندما ينكر عليهم؛ يقولون في جوابهم: لسنا وهابيين، ولسنا على مذهب الشيخ النجدي، وقصدهم الشيطان الرجيم، يمثلون به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، غفر الله له ورحمه. وأعرف عنهم كل عملهم واجتهادهم في إخفاء التوحيد والكتاب والسنة ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إليهما، كما أعرف عنهم أن تجوُّلهم في أرض الله ما هو إلا لنشر البدع والشرك والطرق الشيطانية بأسلوب ساحر للعوام بالتجمعات في قلب الجزيرة وغيرها، وكل ذلك يخدعون به العوام، حتى يدخلونهم في مذهبهم الباطل.. وللعلم؛ قد كفَّرهم جماعة السلفيين أهل الحديث بالباكستان والهند، وهذا الذي أعرفه عنهم جميعاً حقيقيّاً، ولا أقول هذا إلا إحقاقاً للحق)([854])
وهكذا نراهم في موقفهم من جماعة العدل والإحسان، فهم لا يهتمون بطروحاتها التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي والسياسي ونحوهما، وإنما يهتمون بكون شيخها كان في يوم من الأيام مريدا لدى الطريقة القادرية البودشيشية ـ الكافرة كما يعبرون ـ
وهكذا في موقفهم من الإخوان المسلمين، حيث لا نجد كتابا من كتبهم إلا وهو يرمي الإخوان المسلمين بكونهم صوفية.. وأنهم لذلك حلوليون قبوريون مشركون شركا جليا.
بل إن بعضهم يصور أن حركة الإخوان المسلمين لم تكن سوى مؤامرة صوفية أشعرية للقضاء على السنة ومن يمثلها من السلفية، وقد قال بعضهم في ذلك، تحت عنوان [ظروف إنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان وعلاقة ذلك بصوفية حسن البنا]: (لقد أنشأ حسن البنا جماعة الإخوان الصوفية الاشعرية المنحرفة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انطلاقاً من المذهب الصوفي الأشعري الضال لحسن البنا، وانطلاقاً من الفكر الضال المنحرف لحسن البنا؛ فبعد سقوط الخلافة العثمانية الصوفية الأشعرية حامية الشرك والأوثان والأضرحة عام 1924م نتيجة لانحرافها عن منهج الله ومحاربتها ومقاتلتها لأولياء الله تعالى الداعين لتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده تعالى والناهين عن الشرك والكفر – حيث قاتلت الخلافة الصوفية الأشعرية العثمانية المنحرفة دعوة التوحيد التي دعا لها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية – فأراد حسن البنا أن يعيد تلك الخلافة الصوفية الأشعرية الضالة الحاوية والحامية للبدع والشركيات، فأنشأ عام 1928م جماعة الإخوان الصوفية الحاوية للبدع والضلالات الصوفية.. بل إن حسن البنا يصرح بأنه في البداية أنشأ (جمعية الحصافية الخيرية) نسبة إلى الطريقة الحصافية الشاذلية الصوفية القبورية التي بايعها حسن البنا في شبابه ثم غير التسمية بعد ذلك وأنشأ (جماعة الإخوان المسلمين) كما جاء في كتابه [مذكرات الدعوة والداعية] ويفهم من ذلك أن جماعة الإخوان هي امتداد للجماعة الصوفية التي أنشأها حسن البنا من قبل وهي [جمعية الحصافية الخيرية] كما سبق بيانه)([855])
ثم يوضح الحيلة التي من خلالها فكر الشيخ حسن البنا في القضاء على السلفية ليحل بدلهم الصوفية والأشعرية، فقال: (فقد رأى حسن البنا أنه لو اعتمد فقط على أهل مذهبه الضال من الصوفية الأشعرية لاستعادة الخلافة العثمانية فلن يستطيع ذلك لأن مذهب الصوفية الأشعرية هو في انحدار وضعف وأما دعوة التوحيد الدعوة السلفية دعوة أهل السنة والجماعة في علو وانتشار؛ فجاءت لحسن البنا فكرة شيطانية تقضي بإنشاء جماعة حاوية لجميع الفرق التي تنتسب للإسلام والتي تدعي الإسلام على أن تضم تلك الجماعة كل من يقول [لا إله إلا الله] سواء أ كان على سنة أو على بدعة أو على ضلالة على ألا ينكر أي فريق على الآخر ضلاله وبدعه وعلى أن يتعاون الجميع لإعادة الخلافة الصوفية الأشعرية الحاوية للبدع والحامية للأوثان وللشرك بالله تعالى.. بحيث يكون الجميع أخوة فيكون الرافضي أخاً للصوفي القبوري ويكون السلفي أخاً للقبوري الذي يعبد الأوثان وأخاً للرافضي الذي يكفر الصحابة ويقول بتحريف كتاب الله تعالى ويكون الجميع أخوة في جماعة حسن البنا لكي يحققوا له هدفه ويعملوا على إعادة الخلافة الصوفية الاشعرية الضالة، وكانت تلك الجماعة هي [جماعة الإخوان] والتي أنشأها حسن البنا عام 1928م بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية الصوفية الاشعرية الضالة)([856])
ويحلل الكاتب أكثر حركة الإخوان المسلمين، بل يدخل ـ كما هي عادة السلفية ـ في عقل مؤسسها الشيخ حسن البنا، ليتعرف على نيته وخدعه ومكره، فيقول: (إن المتأمل لفكر حسن البنا خلال حياته يدرك أنه صوفي مائة بالمائة ولكنه عندما تم تعيينه كمدرس ابتدائي في مدينة الإسماعيلية عام 1927م وجد أن هناك اتجاهين في مدينة الإسماعيلية الاتجاه الأول هو الدعوة السلفية دعوة الحق، والاتجاه الثاني هو الاتجاه الصوفي الذي ينتمي له حسن البنا، وكانت الدعوة السلفية تنكر على الصوفيين بدعهم وأصبح الاتجاه الصوفي في انحسار، فأدرك حسن البنا أنه لو دعا للصوفية التي يؤمن بها فسيكون في مواجهة مباشرة مع الاتجاه السلفي وسيخسر كثيراً لذا فبدلاً من أن ينضم حسن البنا لأهل الحق السلفيين وينكر بدع الصوفية اتجه حسن البنا لفكرة خبيثة وهي أن ينشأ اتجاهاً ثالثاً يقول بالبعد عن مواطن الخلاف بين الطرفين بين أهل الحق السلفيين وبين أهل الباطل الصوفيين، وهذا الاتجاه الثالث وهي جماعة الإخوان المسلمين هي في الواقع نسخة معدلة من الصوفية أو هي صوفية معاصرة.. وبهذه الفكرة الجديدة الخبيثة لحسن البنا وهي (جماعة الإخوان المسلمين) جعل حسن البنا الخلاف مع الرافضي الشيعي من باب الخلاف السائغ الذي لا يجب الإنكار عليه فيه فحسن البنا جعل الخلافات مع الرافضة من قبيل الخلافات التي يمكن تجاوزها)([857])
وهم لا يكتفون بهذا، بل يصورون كل عمل اجتهادي تقوم به أي حركة من الحركات الإسلامية للدعوة إلى الله نوعا من أنواع البدع التي أخذتها تلك الحركة عن الطرق الصوفية..
ومن الأمثلة البسيطة على ذلك ما تقوم به الحركات الإسلامية من نشاطات فنية كالإنشاد والتمثيل وغيرهما، بغية تقريب الدين للناس، وجذبهم إليه.
فهم في هذه المسألة متشددون جدا، بل ألفوا المؤلفات في تحريم ذلك، وهم يستندون فيها لفتوى طويلة لابن تيمية ([858]) يفرق فيها بين الوسائل المشروعة للدعوة، والوسائل غير المشروعة، وقد أجاب فيها على سؤال مهم حول رجل من الصالحين أراد أن يدعو جماعة من المنحرفين إلى الله، ولم ير حلا لذلك سوى (أن يقيم لهم سماعاً ـ أي غناء ـ يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات، فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟)([859])
فمع أن السائل ذكر سوء حال المدعوين قبل هدايتهم، وأنهم كانوا مرتكبين لذنوب كبائر متعدية كالقتل وسرقة المال وقطع الطرق.. ومع أن الداعية الذي قام بذلك ـ كما ذكر السائل ـ كان شيخاً معروفاً بالخير واتباع السنة.. ومع أنه قصد من فعله الخير.. ومع أنه لم يمكنه إلا اتخاذ هذه الطريقة لهدايتهم.. ومع أنه لم يقع معهم في محرمات كبائر، وإنما دف بلا صلاصل وغناء بشعر مباح بغير شبابة.. ومع أنه ترتب على هذه الطريقة مصلحة كبيرة وخير عظيم. (ومع هذا كله لم تغلب ابن تيمية عاطفته ولم ينكسر لها، بل بنى فتواه على الأدلة الشرعية والقواعد المرعية)([860]) كما يذكر السلفية.. وهو التشدد مع هذا لمخالفته السنة.
ولطول جواب ابن تيمية على المسألة، وإيراده النصوص الكثيرة على ذلك، فسنختصر جوابه هنا لأهميته في بيان سبب النظرة السلبية للسلفية لكل عمل إسلامي يقام، مهما انضبط بالضوابط الشرعية، فقد قال: (.. والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة،فإن الشارع حكيم.فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه.. وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله: فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.. إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر، فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية، فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالإضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان –وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة – تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية. وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية. فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلاً بالطرق الشرعية، عاجزاً عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية. إما مع حسن القصد. إن كان له دين وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل.. فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل،أو عجز، أو غرض فاسد)([861])
وهكذا حول ابن تيمية هذا الشيخ الصالح الذي استطاع أن يخلص المجرمين من إجرامهم بتلك الوسائل الشرعية المباحة التي استعملها، إلى أن مبتدع وضال.. لأن كل مبتدع عندهم ضال، وكل ضال في النار.
بل إنه أومأ إلى اتهامه في نيته نفسها بأن يكون قصده الرئاسة عليهم، وقد استدل لذلك بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34]
ولم يستند في هذا إلى حجة عقلية أو نقلية، وإنما كل حججه هي أولئك السلف المعصومين الذين أحل بهم السلفية ما حرم الله، وحرموا بهم ما أحل الله، يقول ابن تيمية: (ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا. لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب، وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك)([862])
وبما أن الصوفية في ذلك الحين، وفي كل بلاد العالم الإسلامي كانوا يعتمدون السماع والغناء كوسيلة من وسائل جذب القلوب والأرواح لله.. فإن ابن تيمية حرم هذه الوسيلة العظيمة، كما حرم كل وسيلة غيرها.
بل إنه أباح السماع والغناء إذا كان في الأعراس ونحوها من باب اللهو واللعب، أما أن يتحول إلى وسيلة للتعبد، فلم ير صحة ذلك، بل وقف في وجهه، كما يقف السلفية كل حين في وجه كل مشروع لخدمة الأمة ورقيها.
يقول ابن تيمية: (وقول السائل وغيره: هل هو حلال؟ أو حرام؟ لفظ مجمل فيه تلبيس. يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه؛ وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين: (أحدهما) أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس. وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله، و(النوع الثاني) أن يفعل على وجه الديانة والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العباد لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات لا من جنس اللعب والملهيات.. فيجب الفرق بين سماع المتقربين،وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس والأفراح ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟وهل هو طريق إلى الله؟وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم وتحريك وجدهم لمحبوبهم وتزكية نفوسهم وإزالة القسوة عن قلوبهم ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة لا على وجه اللهو واللعب)([863])
وبناء على هذا كله، فقد ذكر أن (من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه ديناً، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه. فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى أمر مباح؛ بل من جعل هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين. ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلاً متكلماً في الدين بلا علم)([864])
هذه هي النتيجة التي خلص بها ابن تيمية، وعلى أساسها يتعامل السلفية مع كل نشاط دعوي بغض النظر عن الجهة التي تتبناه، ولهذه فإن هذه الفتوى استعملها صاحب كتاب [الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ] ليطبق على جماعة التبليغ، وهكذا تطبق على كل حركة إسلامية، وعلى كل ناشط في العمل الإسلامي.
بل إن تيمية لم يكتف بذلك، بل راح يصعد في موقفه من هذا الشيخ الطيب الذي استعمل هذه الوسيلة المباحة لهداية المنحرفين، فقال: (فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب)
هذه هي قاعدته في هذا الموضوع، والتي يستعملها السلفية كما يستعملون النصوص المقدسة لتحريم كل عمل إسلامي لا يتوافق مع ما فعله السلف.. الذين هم أعلم الناس وأطهر الناس وأبر الناس قلوبا وأصدقهم حديثا.. ولا يخالفهم ـ حسب تصورهم ـ إلا هالك.
وبما أن السماع أو الإنشاد الروحي كان الوسيلة التي يستعملها الصوفية في ذلك الحين للانتشار، فقد حمل عليه ابن تيمية حملة شديدة جدا، وقد وصفهم في فتواه هذه بقوله: (فهؤلاء جند الشيطان،وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين؛ فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغضه الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه؛ ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله وجند الشيطان)([865])
وهذه الفتوى تنطبق تماما على كل الحركات الإسلامية التي تستعمل الإنشاد أو غيره من الوسائل للدعوة والتربية والتوجيه والتعبئة ونحوها، فابن تيمية، ومعه السلفية يحرمون كل ذلك.
كما ذكرنا سابقا، فإن السلفية يعتبرون الولاء والبراء من أركان الإيمان الكبرى، فلا يكفي أن يكون المؤمن عندهم مؤمنا، بل يشترط كذلك أن يتبرأ من جميع الكفرة، وأول ذلك أن يكفرهم، ولا يتوقف في تكفيرهم.. فإن كفرهم جميعا، وتوقف في واحد منهم ممن وقع فيه الخلاف، اعتبر ـ عند السلفية ـ مخلا بهذا الركن الخطير، وألحق بالكفرة، ولا ينفعه أداؤه لجميع أركان الإيمان كما تتطلبها القوانين السلفية.
ومن هذا الباب أمكنهم أن يكفروا جميع الحركات الإسلامية، باعتبارها جميعا تدعو ـ ولو في الظاهر ـ بالقاعدة المعروفة المنسوبة للإخوان المسلمين [نجتمع فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه]، والتي علق عليها الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه (حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية] بقوله: (هذا تقعيد حادث فاسد، إذ لا عذر لمن خالف في قواطع الأحكام في الإسلام، فإنه بإجماع المسلمين لا يسوغ العذر ولا التنازل عن مسلمات الاعتقاد، وكم من فرقة تنابذ أصلاً شرعياً وتجادل دونه بالباطل؟ وعليه؛ فإلى الطريق الوسط الحق، طريق جماعة المسلمين على منهاج النبوة)([866])
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد البدر في تقديمه لكتاب [زجر المتهاون بضرر قاعدة المعذرة والتعاون ـ نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه]: (كان اللائق – بل المتعين – على أتباع هذا الداعية – (يقصد حسن البنا) بدلاً من التوسع في إعمال مقولته هذه (يقصد: نعمل فيما اتفقنا عليه..) لتستوعب الفرق الضالة، حتى لو كانت أشدها ضلالاً؛ كالرافضة – أن يعنوا بتطبيق قاعدة الحب في الله والبغض في الله، والموالاة فيه والمعاداة فيه – التي لا مجال فيها لأن يعذر أهل الزيغ والضلال فيما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة)([867])
وبناء على هذا الموقف راحوا ينكرون تلك المواقف المعتدلة من جماعة التبليغ أو العدل والإحسان أو الإخوان المسلمين من القضايا المختلف فيها بين المسلمين.
وقد قال بعضهم منكرا على الشيخ حسن البنا تساهله مع الخلافات مع الصوفية والأشاعرة وغيرهم: (و بهذه الفكرة الجديدة الخبيثة.. جعل حسن البنا الخلاف مع الرافضي الشيعي من باب الخلاف السائغ الذي لا يجب الإنكار عليه فيه، فحسن البنا جعل الخلافات مع الرافضة من قبيل الخلافات التي يمكن تجاوزها.. وجعل البنا الخلافات مع الصوفية حول البدع الإضافية التركية كالذكر الجماعي والحضرة والأوراد البدعية والاحتفال بالمولد النبوي هي خلافات فرعية يسوغ فيها الخلاف ولا ينكر فيها على المخالف فيقول حسن البنا في الأصول العشرين الأصل الثاني عشر: (والبدعة الإضافية والتَّركِيَّة والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان) ولا عجب فالبنا صوفي يمارس بنفسه تلك البدع الإضافية التركية ويفاخر بذلك في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية) ولا يعلن توبته أو ندمه على ذلك.. وجعل حسن البنا الخلاف بين السلف الذين يثبتون صفات الله تعالى وبين الخلف كالمعتزلة والأشاعرة المفوضة أو المؤولة الذين ينفون صفات الله تعالى أو يفوضون فيها هي كما قال في آخر رسالة العقائد من قبيل (..خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا) أو (.. وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا).. وطبعاً هذا الفكر الضال لجماعة الإخوان المسلمين الذي وضعه حسن البنا لا يتطرق إلى التوحيد بشكل خاص كتوحيد الألوهية ومحاربة الشركيات لأن حسن البنا يرى أن هذا يثير الخلاف والفتنة بين المسلمين، ولأن توحيد الألوهية يتطلب الإنكار على الصوفية التي ينتمي لها حسن البنا، كما يستنكر الفكر الضال لحسن البنا إنكار أهل السنة السلفيين أي شيء على الفرق الضالة الواردة في الحديث الشريف سواء الأشاعرة أو المعتزلة أو المفوضة في باب توحيد الأسماء والصفات لأن هذا يثير الخلاف والفتنة بين المسلمين ولأن حسن البنا وجماعته أصلاً أشاعرة صوفية)([868])
الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق