قد يتصور البعض ممن لا يعرف تاريخ المدارس الفقهية، ولم يطلع على تراثها وأعلامها أن الحنابلة شيء واحد، وأنهم مدرسة ممتدة من أحمد بن حنبل بل من قبله من أهل الحديث إلى عصرنا الحالي، وهذا خطأ جسيم.. لأن الحنابلة كسائر المذاهب الفقهية كان فيها الكثير من الصوفية ـ الذين يكفرهم السلفية لتصوفهم ـ وكان فيهم الكثير من المؤولة والمفوضة ـ الذين يكفرهم السلفية لتجهمهم وتعطيلهم ـ وكان فيهم الكثيرمن الذين يمتلئ تاريخهم بمحبة الصالحين والتبرك بقبورهم، ممن يسميهم السلفية قبورية ومشركين.
ومن أقوى الأدلة على ذلك أن ابن عبد الوهاب كفر الحنابلة المعاصرين له، بل المساكنين له في نجد بسبب رميه لهم بالقبورية والشرك الأكبر، وقد سبق ذكر بعض النماذج على ذلك.
بل حتى أحمد بن حنبل نفسه، نجد له صورتين: صورة سلفية هي التي يعظمونها، ويقدرونها، ويلصقون بها كل تجسيم ونصب.. وصورة أخرى نجدها عند الفريق الآخر من الحنابلة تمثله ورعا تقيا عفيفا منزها.
ونحن لا يعنينا أي صورتين هي الصحيحة.. لأن الأمر فوق الأشخاص، وإنما يعنينا هنا أن نبحث في شمولية التكفير السلفي للأمة جميعا، بما فيها فريق كبير محترم من الحنابلة.
وحتى لا نقع في أي جدال مع أي طرف حول ما يصح وما لا يصح في تاريخ أي شخص، وما روي عنه، فسأكتفي هنا بنموذجين للتكفير السلفي للحنابلة، وكلاهما يمثل قسما محترما منهم، أما أولهما فيرتبط بالمنزهة من الحنابلة، وتكفير السلفية لهم بتهمة التعطيل والتجهم، وأما الثاني، فيرتبط بالصوفية أو من يتبركون بالقبور ونحوها، وهم ممن يطلق عليهم السلفية لقب القبورية، ويتهمونهم بالشرك الجلي.
وقبل ذلك أسوق نصا مهما من رجل تربي بين الحنابلة، وفي المدرسة الوهابية، وهو أدرى بها، وبأقسامها، وهو الشيخ حسن بن فرحان المالكي، وذلك في كتابه المهم [نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية]، والذي ذكر فيه الكثير من نماذج تكفير كبار علماء السعودية للمسلمين، وغلوهم في ذلك.
وقد احتاج في مقدمة كتابه أن يوضح معنى كلمة علماء السعودية، ومذاهبهم، ويعنينا من كلامه مدى ارتباطهم بالمذهب الحنبلي، فقد قال تحت عنوان [القيد السابع: علماء في (عقائد الحنبلية) فقط]: (كان هذا القيد ضرورياً وعلمياً أكثر من القيود السابقة، وهذه القيود تأتي فائدتها عندما نرى أنها من أكبر عوامل الوحدة وأقوى محفزات التواضع والهدوء والعلمية، فقد سبق أن ذكرنا أن لقب (أهل السنة) لقب استحوذ عليه مذهبان (الأشاعرة والحنابلة)، فهذا ما لا ينكره علماء المملكة.. كما أن (لقب السلفية) محل تنازع في التفسير لا في الاسم.. وعلماء المملكة لا يدعون أنهم أشاعرة في العقيدة، بل هم يذمون الأشاعرة ويبدعونهم ويعدونهم من الفرق الهالكة يوم القيامة، ولا يستطيعون إثبات أن تلك التفصيلات العقدية كان يعتقدها (السلف) من الصحابة وكبار التابعين، فما بقي إلا كونهم (حنابلة) فهنا يقل النزاع... ويسلم خصومهم من أهل السنة الآخرين.. ويستطيعون أن ينسبوا لأحمد بن حنبل ماعجزوا عن نسبته إلى السلف من الصحابة والتابعين.. إذن فهم (حنابلة في الأصل، رغم أنهم منتسبون إلى الألقاب المتنازع عليها كأهل السنة والسلفية)([544])
وهنا يقع إشكال كبير في مدى صدق انتساب هؤلاء للمذهب الحنبلي، وقد حل هذا الإشكال بقوله: (لكننا نجدهم لا يتسمون بـ(الحنابلة) إلا من جهة الفقه فقط، أما من جهة العقيدة فإنهم يتسمون أو يتلقبون بالألقاب الأكثر سعة (كأهل السنة والسلفية) ربما لأنهم يريدون أن يثبتوا أنهم هم (أهل سنة) فقط وغيرهم (مبتدعة) وإن انتسبوا (للسنة)... وأنهم (أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين) وإن انتسب غيرهم لسلف صالح من صحابة وتابعين.. ربما.. لكن بما أنهم يرون أن الإمام أحمد هو إمام أهل السنة.. وأن عقيدته ومدرسته سنية سلفية فهم (حنابلة) في العقيدة... مادام أن الحنابلة سنة وسلفية... فلا ضير في نسبتهم إلى أحمد عقيدة وفقهاً.. لقلة من ينازعهم على هذا اللقب، وكثرة من ينازعهم على الألقاب الأخرى العامة)([545])
لكن الشيخ حسن يعود فيتساءل: (هل هم حنابلة في العقيدة؟ وهل الحنابلة في العقيدة مذهب أم مذاهب؟)([546])
ثم يجيب عن هذا التساؤل بقوله: (سؤال لا يعرف دقته إلا من قرأ المسيرة الحنبلية.. عندها سيعرف أن الحنابلة مذاهب وتيارات.. فمن أي هذه التيارات أتت المدرسة الحنبلية التي ينتمي إليها علماء المملكة؟.. إنها مدرسة ابن تيمية.. إذن فالقيد الواجب إضافته يكون على النحو التالي: القيد الثامن: علماء في (العقيدة الحنبلية التيمية) فقط.. [ذلك] أن (العقيدة الحنبلية) تنازع فيها فريقان من الحنابلة المتفقين في الفقه والمختلفين في العقيدة.. ثم جاء فرقة ثالثة (وهي فرقة ابن تيمية) خالفتهما معاً في العقيدة في أمر هو عندها (لب العقيدة) وهي مسألة القبور وتوابعها من تبرك وتوسل وتعظيم وصلاة عندها... وبما أن هذه المسألة (القبور والصالحين والتبرك..) هي من صلب العقيدة عند ابن تيمية فلا بد أن تكون كافية لجعل (التيمية) فرقة مستقلة رغم أنها تلتقي مع الحنابلة في كثير من العقائد كالصفات والرؤية والصحابة والقدر)([547])
ثم يبين الشيخ حسن انقسام الحنابلة من حيث العقائد إلى قسمين أولهما: (حنابلة هم أقرب للأشعرية كابن الجوزي فهو حنبلي اتفاقاً من حيث الفقه، ولكنه من حيث العقيدة هو من (المنزهة)، وكونه من المنزهة أنكر بعض الحنابلة حنبليته في العقيدة وإن أقر بها في الفقه، وعلى كل ففيه خلاف هل هو أشعري ينتسب لأحمد أم حنبلي ينتسب لأحمد.. فهو ينتسب لأحمد ويقول عن نفسه (حنبلي) ويكتب في (مناقب أحمد) ويصنف في (الفقه الحنبلي) ويقول إن أحمد (كان مثله منزهاً) فابن الجوزي لكن بالإجماع (منزه ومؤول) سواء كان هذا التأويل هو مذهب أحمد أو مذهب الأشعري.. ومن قرأ كتابه (دفع شبه التشبيه) وجده مؤولاً في العقائد بوضوح... وقد كان لهذا الشيخ الحنبلي المنزه صولة في القرن السادس ثم اضمحل مذهبه شيئاً فشيئاً... إلى أن قضى عليه ابن تيمية في القرن الثامن)([548])
والقسم الثاني: (حنابلة هم أقرب للكرامية [وهي فرقة جمعت بين التصوف والتجسيم] كالحنابلة المتقدمين من تلاميذ أحمد كعبد الله بن أحمد والمروذي والدارمي (قبل 300هـ) ثم تلاميذهم كالخلال والبربهاري (بعد 300هـ) ثم تلاميذهم كابن بطة (قبل 400هـ) ثم تلاميذه كابن حامد (على رأس الـ400هـ) ثم تلاميذه كأبي يعلى (458هـ)... وهم أغلبية الحنابلة المتقدمين.. ومن قرأ كتبهم في العقائد يجدهم (مشبهة).. وهذه الحنبلية انتصر لها ابن تيمية إلا في مسألة القبور وتوابعها)([549])
وبذلك فإن هذا القسم من الحنابلة، وإن كان معتبرا من ناحية التجسيم والتشبيه عند السلفية إلا أنه مكفر من جهة تعظيم القبور، أو الميل للتصوف.
وقد بين المالكي مزايا الحنبلية التيمية ودوافع ظهورها، فقال: (الحنبليتان السابقتان حنبلية ابن الجوزي وحنبلية المتقدمين – مع اختلافهما القوي في الصفات- إلا أنهما يتفقان في الفقه وفي التصوف.. أما الفقه فلا يهمنا هنا فقد سبق الكلام عنه.. وليس ذي إشكال كبير لا عند ابن تيمية ولا عند علماء المملكة.. وأما الصفات فقد انتصر ابن تيمية لفرقة الحنابلة المتقدمين.. وقضى على ما تبقى من حنبلية ابن الجوزي كما سبق.. وأما التصوف ومسألة القبور فقد كانت منطقة الإفتراق بين ابن تيمية والمذهبين الحنبليين السابقين كليهما.. ومن هنا (نشأت الفرقة الحنبلية الثالثة وهي: التيمية).. وهذا اللقب معروف عند كثير من المؤلفين في العقائد)([550])
وقد ختم المالكي هذه التحليلات التاريخية المهمة جدا، باعتبار الحنابلة مدسة تشمل تيارات متعددة، والتكفير على أكثرها سار مثله مثل سائر المذاهب، فقال: (إذن فليس الحنابلة على مذهب واحد في العقيدة.. ومن حسن الحظ أننا نستطيع اليوم أن نقول هذا باطمئنان لأن كتب هذه الفرق الثلاث مطبوعة متوفرة وهي مختلفة في العقائد يرد بعضها على بعض ويضلل بعضها بعضاً ويبدعه... إذن فليس عندنا الرغبة في تقسيم المقسم... وإنما هذه حقيقة... الحنابلة أنفسهم مختلفون في العقائد... وانتقل هذا الإختلاف من التبديع في عهد ابن الجوزي إلى الحكم على الفعل بالشرك في عهد ابن تيمية.. إلى تبادل التكفير الصريح بين علماء الحنابلة في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومدرسته)([551])
وقد ضرب بعض الأمثلة على ذلك، فقال: (من يقرأ مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي (المؤول المنزه) يجده معظماً لمسألة القبور وتوابعها، ومن يقرأ آراء الحنابلة المتقدمين (المشبهة المثبتة) في التراجم... يجدهم معظمين لمسألة القبور وتوابعها... بل بعضهم موغل في التصوف إلى القول بوحدة الوجود كالهروي الحنبلي.. ومن يقرأ كتب ابن تيمية يجده مستنكراً لمسألة القبور وتوابعها، ففارق ابن تيمية في هذه المسألة المذهب الحنبلي كله)([552])
وبذلك فإن مدرسة الحنابلة بالنسبة للسلفية لا يختلف الحكم عليها عن سائر المدارس، اللهم إلا من تبع ابن تيمية منهم.. بل لا يكفي ذلك، فقد كان من أتباع ابن تيمية من كفره ابن عبد الوهاب..
وقد لخص المالكي الفروقات بين ابن تيمية والحنابلة، فقال: (فابن تيمية اتفق مع حنبلية ابن الجوزي في الفقه فقط.. واتفق مع حنبلية المتقدمين في الفقه والصفات معاً.. ولكنه اختلف مع الحنبليتين في (موضوع القبور والتبرك والتوسل)..من هنا قلنا: إن ابن تيمية له مذهب في العقائد يختلف عن الحنابلة كلهم في هذه المسألة)([553])
ولخص الفروقات التي ميزت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن مدرسة ابن تيمية بقوله: (ومن هنا نعلم سر اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمدرسة ابن تيمية دون غيرها من مدارس الحنابلة العقدية.. فضلاً عن مدارس السنة..لقد اختار مدرسة ابن تيمية وجلبها إلى نجد لأجل هذه العقيدة ضد أصحاب القبور والتوسل والتبرك والتصوف فقط.. فهو لم يجلب (ابن تيمية) من أجل (الفقه).. ولا من أجل (ذم الجهمية والمعتزلة والشيعة).. ولا من أجل (مسألة خلق القرآن).. ولا الرؤية والميزان والصراط والشفاعة وصفة نعيم الجنة وعذاب النار... كلا.. لأن هذه الأمور (الفقه والعقائد) كانت موجودة أصلاً عند حنابلة نجد.. وهي أصيلة في التيارات أو الاتجاهات الحنبلية الثلاثة.. وقد كانت كتب ابن تيمية (الفقهية لا العقدية) محل اهتمام عند حنابلة نجد.. وبما أن كتب ابن تيمية (الفقهية) معروفة عند حنابلة نجد.. فكأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: هذا شيخكم الحنبلي شيخ الإسلام صاحب الإختيارات وماليء الدنيا وشاغل الناس يقرر بأن ما أنتم عليه هو (الشرك الأكبر) الذي يوجب القتل والجهاد)([554])
ولخص الإضافات الوهابية للمدرسة الحنبلية والتيمية، فقال: (أما إضافات الوهابية، فأشهرها الحكم على البلدان الإسلامية التي فيها (تعظيم للقبور أو تبرك وتوسل بالصالحين) بأنها بلا د شرك وليس بلاد إسلام.. والحكم على سكانها أو المتأولين من علمائها بأنهم كفار.. والتصريح بتكفير للمعينين من علماء الحنابلة فضلاً عن غيرهم.. وإنزال الآيات التي نزلت في المشركين وجعلها في المسلمين...وتقسيم بلاد الإسلام لديار إسلام تابعة للوهابية وديار كفر تابعة لمخالفيهم.. وإضافة شروط لـ (لا إله إلا الله).. وإضافة نواقض لها... وجعلها في المسلمين المخالفين للوهابية.. فإذا كان من نواقض الإسلام التي ذكرها ابن تيمية (مظاهرة المشركين على المسلمين) فقد جعلها الوهابية (في مظاهرة المشركين من أهل العيينة على المسلمين من أهل الدرعية).. أعني أنزلوا خصومهم منزلة المشركين الأصليين وأنزلوا أنفسهم منزلة المسلمين فقط الذين لا يوجد في الأرض غيرهم)([555])
وتأكيدا لهذا الوصف الدقيق الذي ذكره الشيخ حسن بن فرحان المالكي للتاريخ الحنبلي، والذي يدل عليه كل التراث الحنبلي، سأنقل هنا وصفا من كتاب علمي أكاديمي أرخ فيه صاحبه لنجد وحنابلتها في الوقت الذي ظهر فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو يبين بوضوح أن السيطرة في المذهب الحنبلي كانت للجناح الذي اختارته الأمة جميعا: التنزيه في العقائد على منهج المتكلمين، والتربية الروحية على منهج الصوفية.
وبذلك فإن المدرسة الحنبلية في الحقيقة لم تكن تختلف كثيرا عن سائر المدارس الإسلامية، وخاصة في مواقفها التنزيهية أو التبرك بالأولياء وزيارة القبور ونحوها، ولهذا بدأ تكفير ابن عبد الوهاب وتلاميذه للأمة من تكفيره للحنابلة المعاصرين له ومن قبلهم.
والكتاب بعنوان [مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية: خلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر] من تأليف د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، وهو أستاذ مشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد قال الكاتب في مقدمة كتابه: (هذا بحث يهدف إلى جمع آراء علماء نجد في مسائل الاعتقاد قبل الدعوة الإصلاحية، وخلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري، وتبرز أهمية هذا البحث بأن الواقع العقدي لبلاد نجد قبل الدعوة لم يأخذ حظّه من الدراسة والتحرير، وإن وُجدت دراسات فهي تقتصر على الجانب التاريخي فحسب، وقد يخفى على الكثير أن المسالك الكلامية وطرائق الصوفية قد غشيت بلاد نجد – كما هو مذكور في هذا البحث- فلا يزال واقع نجد قبل الدعوة محل اختزال عند بعض الباحثين، كما أن هذا الواقع وما يحتمله من الذم أو المدح هو محل جدل ونقاش بين الباحثين المعاصرين، ففريق يغرق في ذم هذا الواقع، ويعمم في قدحه، وآخر يقلص هذا الانحراف، ويقلل من شأنه. إضافة إلى ذلك فإن جملة من العداء والخصومة بين الدعوة ومخالفيها في مسائل التوحيد والشرك والتكفير والقتال، فإنه لا ينفك عند الخصوم من جذور كلامية، وشطحات صوفية، وقد تتبع الباحث آراء مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة، واستخرجها من كتب الاعتقاد والفقه، والتاريخ والتراجم، والرسائل الشخصية والأشعار.. ثم صنفها)([556])
ومن فصول الكتاب المهمة التي بين فيها الباحث التوافق الشديد بين سائر مذاهب الأمة والمذهب الحنبلي: (الفصل الثاني: علم الكلام عند علماء نجد.. والفصل الثالث: التصوف عند علماء نجد)، وقد بين فيهما بالأدلة الكثيرة من كتب الحنابلة أنفسهم، ومن كتب أئمة الدعوة الوهابية أن الحنابلة في ذلك الحين دخلهم علم الكلام والتنزيه الكلامي الذي يتناقض مع الرؤية السلفية التي تعتبره تجهما وتعطيلا وكفرا.. ودخلهم كذلك البعد الصوفي بجميع آثاره، والذي يرميه السلفية بالقبورية والشرك الجلي.. والأدلة كلها تشير إلى أن غيرهم من الحنابلة في سائر بلاد العالم الإسلامي كانوا على منهاجهم.
وقد أشار الكاتب في الفصل الذي عقده عن حنابلة نجد وعلم الكلام إلى أن الحنابلة الحقيقيين الذين ساروا على منهج السلف لم يكونوا إلا عددا محدودا جدا مقارنة بغيرهم.
وقد نقل من ذلك عن ابن القيم قوله: (وجميع المتقدمين من أصحابه على مثل منهاجه، وإن كان بعض المتأخرين منهم من دخل في نوع من البدعة التي أنكرها أحمد، ولكن الرعيل الأول من أصحابه كلهم وجميع أئمة الحديث قولهم قوله)([557])
وقد علق الكاتب على هذا النص بقوله: (فالحنابلة الأوائل على طريقة الإمام أحمد كالخلال وأبي داود ونحوهما، وكذا من سلك طريقة المحدثين من أصحابه كالآجري وابن بطة وغيرهما، بخلاف المتأخرين من الحنابلة كالتميميين وأشباههم)([558])
وقد أشار ابن تيمية ـ في معرض حديثه عن التميميين ـ إلى هذا، فقال: (أما التميميون كأبي الحسن وابن أبي الفضل وابن رزق الله، فهم أبعد عن الإثبات وأقرب إلى موافقة غيرهم وألين لهم؛ ولهذا تتبعهم الصوفية ويميل إليهم فضلاء الأشعرية: كالباقلاني والبيهقي؛ فإن عقيدة أحمد التي كتبها أبو الفضل هي التي اعتمدها البيهقي مع أن القوم ماشون على السنة. وأما ابن عقيل فإذا انحرف وقع في كلامه مادة قوية معتزلية في الصفات والقدر وكرامات الأولياء)([559])
وبهذا الإقرار من ابن تيمية وابن القيم يصبح كبار أعلام الحنابلة وفضلاءهم من جملة المنزهة الذين لا يتوقف السلفية في تكفيرهم.. وهم يروون عن أحمد وأصحابه الكبار ما يدل على التنزيه.. وبذلك يكون يصبحون جميعا محل الخلاف من السلفية.. لأنه إذا صح ما يروى عن أحمد وتلاميذه الكبار من التنزيه أو من التبرك فلن ينجو أحد من الحنابلة ما عدا الذين يعظمهم ابن تيمية والسلف المتأخرين كابن بطة وغيره.
وهكذا أشار إلى هذا ابن تيمية في موضع آخر، فقال: (إن الإمام أحمد في أمره باتّباع السنة، ومعرفته بها ولزومه لها، ونهية عن البدع، وذمّه لها ولأهلها بالحال التي لا تخفى ثم إن كثيراً مما نصّ هو على أنه من البدع، صار بعض أتباعه يعتقد أن ذلك من السنة، وأن الذي يُذم من خالف ذلك.. وكذلك ما أثبته أحمد من الصفات التي جاءت بها الآثار، واتفق عليها السلف، كالصفات الفعلية من الاستواء والنـزول والمجيئ والتكلم إذا شاء وغير ذلك، فينكرون ذلك بزعم أن الحوادث لا تحل به، ويجعلون ذلك بدعة، ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع، وهم من أهل البدعة الذين فهم أحمد، لا أولئك، ونظائر هذا كثيرة، بل قد يُحكى عن واحد من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحلّ بذاته، لينفي بذلك ما نصّ أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء، ومن هذه الأفعال المتعلقة بمشيئته)([560])
وهكذا نرى علما كبيرا من أعلام السلفية ينكر على الحنابلة ميلهم إلى المنزهة، وذلك في فصل عقده لذلك بعنوان: [الحذر من الركون إلى كل أحد، والأخذ من كل كتاب؛ لأن التلبيس قد كثر، والكذب على المذاهب قد انتشر]([561])، قال فيه: (إن أحوال أهل الزمان قد اضطربت، والمعتمد فيهم قد عزّ، والكذب على المذاهب قد انتشر، فالواجب على كل مسلم يحب الخلاص أن لا يركن إلى كل أحد، ولا يعتمد على كل كتاب، ولا يسلم عنانه إلى من أظهر له الموافقة، فلقد وقفت على رسالة عملها رجل من أهل أصبهان يعرف بابن اللبان، وسماها [شرح مقالة الإمام الأوحد أبي عبدالله أحمد بن حنبل] وذكر فيها مذهب الأشعري المخالف لأحمد، أعطى نسخاً إلى جماعة يطوفون بها في البلاد)([562])
ومثله ذكر أبو العباس بن الحسين العراقي (توفي 588هـ) خروج الحنابلة من العقائد التي سنها السلف، وارتماؤهم في أحضان المنزهة ـ كسائر المذاهب الإسلامية ـ فقال: (وإنما الشكوى إلى الله من قوم إلى مذهب أحمد ينتمون، وبالسنة يتوسمون، ويدّعون التمسك بقوله وفعله، وهم مع ذلك يخالفون نصوصه، ويطرحون عمومه وخصوصه، فكأنهم يدعون إليه ويبعدون منه، وجميع ما يرد عليهم من السنة الثابتة ينفرون عنها، ويسلّطون على ما جاء في الصفات من الأخبار والآيات ما سلّطه المتكلمون من التأويل، ويسلكون فيه مسالك أهل الإلحاد والتعطيل)([563])
وقد علق د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، على هذه النصوص التي تبين انحراف الحنابلة على مذاهب السلف بقوله: (المقصود أن جملة من متأخري الحنابلة قد غشيتهم طرائق المتكلمين في الاعتقاد، وظهر موجب ذلك في مصنفاتهم وتقريراتهم، مع تفاوت بينهم في هذا الأثر والتأثير؛ إذ ليسوا سواءً، فإذا كان القاضي أبو يعلى ليس كابن عقيل مثلاً، فكذا الإمام ابن قدامة ليس كابن حمدان، وهكذا، وعلماء نجد –قبل الدعوة الإصلاحية- هم امتداد لأولئك العلماء، فلا غرو أن يلحقهم أثر وموجب أسلافهم المتأخرين كابن حمدان والبلباني وعبدالباقي المواهبي ونحوهم، كما أنهم يتفاضلون في هذا الشأن، فالأثر الكلامي على ابن قائد –مثلاً – أظهر وأشدّ من أثره على ابن عطوة)([564])
وقد ذكر أمثلة كثيرة على ذلك من خلال التراث العقدي للحنابلة في ذلك الحين منها أن الشيخ ابن البسام (توفي 945هـ) -في أسئلته إلى معين الدين محمد الإيجي – (قد أثبت صفة الاستواء لله تعالى، لكنه أعقبه بقول (لا مجاز ولا معنى)، فنفي المعنى يوهم مذهب التجهيل والتفويض، اللهم إن كان مقصوده نفي المعاني الفاسدة كتأويلات المعطلة ونحوها، لاسيما وأنه قرر معنى الاستواء وأنه العلو والارتفاع، لكنه تردد في هذا الإثبات، وكذا تردد في إثبات الحرف والصوت فقال: (ثم قدح في خاطري بعد ذلك ريب أن يكون بخلاف ذلك مما رأيت من كلام العلماء في ذلك، واختلافهم فيه، وقدح لي أيضاً في الحرف والصوت مثل ذلك، لا أدري أ مخلوقان أم منـزلان)، فابن بسام كان مثبتاً للصفات الإلهية، لكن عَرَض له تردد واضطراب وتوقف بشأن صفة الاستواء والحرف والصوت، ومن المعلوم أن التوقف والشك من طرائق المتكلمين، خاصة وأن المسؤول ليس على جادة أهل السنة المحضة)([565])
ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك رسالة (طُرَف الطَّرف في مسألة الحرف والصوت) لابن عطوة (948هـ)، ففي مطلع السؤال أن أقواماً من طلاب العلم في نجد يجاهرون بتمشعرهم، ويشهدون أن القرآن لا حرف ولا صوت، وأن من يقول هو حرف وصوت كافر([566]).
هذه شهادة سقناها من باب ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ [يوسف: 26] لنبين من خلالها أن سيف التكفير السلفي كما شمل سائر المذاهب الفقهية لم يراع حرمة أتباع الإمام أحمد، بل زجهم جميعا في سجين تكفيره.
بناء على هذا سنحاول أن نذكر هنا النموذجين اللذين أشرنا إليهما سابقا.
الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق