يضع السلفية الكثير من القوانين التي على أساسها يكون التكفير، ويسمونها [نواقض الإيمان]، ويعتبرون كل من وقع فيها، أو في أي واحد منها كافرا أو مشركا شركا جليا حتى لو صام وصلى وتحلى بكل ما يتطلب الدين من قيم.
ولهذا نرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يطلقون التكفير على سائر الأمة، لاعتقادهم أنهم وحدهم أهل التوحيد، وأن من عداهم قد وقع إما في براثن المتكلمين، فصار ينفي الجهة ويعطل الصفات، أو وقع في براثن الصوفية فصار يتوسل ويتبرك.. وكل ذلك عندهم كفر وضلالة.
بناء على هذا، سنتحدث في هذا المبحث عن أهم سببين من أسباب التكفير، يمكن تطبيقهما على الأمة جميعا، ما عدا السلفية وإن كان لا ينجو جميعهم منها.. أولهما الوقوع في النواقض العقدية، كنفي الجهة والتعطيل والقول بخلق القرآن وهي جميعا مما اهتم به سلفهم الأول، وكفروا الأمة على أساسه.. وثانيهما الوقوع فيما يسمونه الشرك الجلي نتيجة القول بالتوسل أو الاستغاثة أو التبرك ونحوها، وهي مما وضع أسسه المتأخرون كابن تيمية، وطبقها من بعده محمد بن عبد الوهاب ومدرسته، وهي جميعا مسائل عملية فقهية أعطاها السلفية بعدا عقديا لإرضاء شهوة العدوانية والتكفير التي تربوا عليها من لدن سلفهم الصالح.
ذكرنا في الفصل السابق النواقض العقدية الكثيرة التي اختص بها السلفية دون غيرهم من الفرق والمذاهب، والتي على أساسها شمل تكفيرهم كل المدارس العقدية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة بالإضافة للصوفية والإمامية والزيدية والإباضية، فكل هؤلاء جميعا ينزهون الله عن الجهة والمكان والتركيب والأعضاء ونحوها..
وبما أن المدارس الفقهية ارتبطت بالمدارس العقدية التي كفرها السلفية، فإن التكفير صار يشملها أيضا، فلم يستثن من ذلك إلا المتقدمون من أصحاب المذاهب الذين وقع الخلاف في بعضهم.
يقول الحافظ تاج الدين السبكي في كتابه [معيد النعم ومبيد النقم] عن علاقة أكثر المذاهب الفقهية بالمدرسة الأشعرية: (وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الإعتزال ورعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبرّأ الله المالكية فلم نر مالكيا إلا أشعري عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعرية هي ما تضمّنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة)([248])
وكل مقولات هؤلاء ترجع للتنزيه المحض الذي يسميه السلفية تجهما وتعطيلا، كما قال ابن عساكر معبرا عنهم: (فإنهم – يعني الأشاعرة – بحمد الله ليسوا معتزلة، ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات، وبما وصفه به نبيّه ‘ في صحيح الروايات وينزهونه عن سمات النقص والآفات، فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من المجسمة والمشبهة، ولقوا من يصفه بصفات المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذ يسلكون طريق التأويل، ويثبتون تنزيهه تعالى بأوضح الدليل، ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفاً من وقوع من لا يعلم في ظُلم التشبيه، فإذا أمنوا من ذلك رأوا أن السكوت أسلم، وترك الخوض في التأويل إلا عند الحاجة أحزم، وما مثالهم في ذلك إلا مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي كلّ داء من الأدواء بالدواء الموافق، فإذا تحقق غلبة البرودة على المريض داواه بالأدوية الحارّة، ويعالجه بالأدوية الباردة عند تيقنه منه بغلبة الحرارة.. وما مثال المتأوّل بالدليل الواضح إلا مثال الرجل السابح، فإنه لا يحتاج إلى السباحة ما دام في البر، فإن اتفق له في بعض الأحايين ركوب البحر، وعاين هوله عند ارتجاجه وشاهد منه تلاطم أمواجه، وعصفت به الريح حتى انكسر الفُلك، وأحاط به إن لم يستعمل السباحة الهُلك، فحينئذ يسبح بجهده طلباً للنجاة، ولا يلحقه فيها تقصير حبّاً للحياة، فكذلك الموحّد ما دام سالكاً محجّة التنزيه، آمناً في عقده من ركوب لجّة التشبيه، فهو غير محتاج إلى الخوض في التأويل لسلامة عقيدته من التشبيه والأباطيل، فأما إذا تكدّر صفاء عقده بكدورة التكييف والتمثيل، فلا بدّ من تصفية قلبه من الكدر بمصفاة التأويل، وترويق ذهنه براووق الدليل، لتسلم عقيدته من التشبيه والتعطيل)([249])
وكلا المنهجين ـ كما رأينا في الفصل السابق مرفوض لدى السلفية ـ بل يكفر القائل به، وسأسوق هنا بعض أقوال أئمتهم التي يرجعون إليها من مصدر مصادرهم المعتبرة، وهو كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، لنطبق من خلاله تكفيرات السلفية على أعلام الأمة ومدارسها المختلفة.
فمن تلك النصوص الواضحة في التكفير، والتي لا تحتاج إلى أي شغب أو جدل، ما رواه عبد الله بن أحمد عن خارجة أنه قال: (الجهمية كفار بلغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه: 1 - 5] وهل يكون الاستواء إلا بجلوس)([250])
وهذا النص واضج جدا في تكفير كل المدارس الفقهية، لأنها جميعا تقف من الاستواء موقف التأويل أو التفويض.. وكلها تتفق على تنزيه الله عن الجلوس والمكان والحيز.
وروى عن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سألت عبد الله بن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف، ربنا عز وجل؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض)([251])
وهذا الكلام واضح في تكفير كل المدارس، لأنها جميعا تتفق على تنزيه الله عن المكان.
أما الإمام أحمد، فقد روى عنه ابنه عبد الله الكثير من النصوص التي لو طبقت على جميع المذاهب الإسلامية لحكم عليها بالكفر، ومنها قوله: (من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل وفيه أسماء الله عز وجل)([252])، وكل المذاهب الإسلامية ـ ما عدا السلفية ـ تقول بخلق القرآن كما سبق وأن ذكرنا ذلك في الفصل السابق.
وروى عبد الله عن أبيه: (من قال ذلك القول لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها: إلا أنا لا ندع إتيانها فإن صلى رجل أعاد الصلاة، يعني خلف من قال: القرآن مخلوق)، وروى عنه: (إذا كان القاضي جهميا فلا تشهد عنده)([253])
وروى عن سفيان بن عيينة ـ أحد سلفهم المعتبرين ـ قوله: (القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر)([254])، وقوله: (من قال القرآن مخلوق كان محتاجا أن يصلب على ذباب يعني جبلا)([255])
وروى عن بعضهم أنه قال: (كنت عند عبد الله بن إدريس [وهو من أئمة السلفية المعتبرين]، فسأله بعض أصحاب الحديث ممن كان معنا فقال: ما تقول في الجهمية يصلى خلفهم؟ قال الفضل ثم اشتغلت أكلم إنسانا بشيء فلم أفهم ما رد عليه ابن إدريس فقلت للذي سأله: ما قال لك؟ فقال: قال لي: (أمسلمون هؤلاء لا، ولا كرامة، لا يصلى خلفهم)([256])
وروى عن آخر قال: حضرت عبد الله بن إدريس فقال له رجل: يا أبا محمد، إن قبلنا ناسا يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: (من اليهود؟) قال: لا، قال: (فمن النصارى؟) قال: لا، قال: (فمن المجوس؟) قال: لا، قال: (فممن؟) قال: من الموحدين، قال: (كذبوا ليس هؤلاء بموحدين هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق، ومن زعم أن الله تعالى مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة هؤلاء زنادقة)([257])
وروى عن وكيع بن الجراح قوله: (أما الجهمي فإني أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته)([258])، وقوله: (من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدث ومن زعم أنه محدث فقد كفر)([259])، وقوله: (من زعم أن القرآن، مخلوق فقد زعم أنه محدث يستتاب فإن تاب وإلا ضربت رقبته)([260]) وروى أنه سئل عن ذبائح الجهمية، فقال: (لا تؤكل هم مرتدون)([261])
وروى عن بعضهم قال: سألت معتمر بن سليمان، فقلت: يا أبا محمد: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ فقال: (ينبغي أن تضرب عنقه)، قال فطر: وسألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل لنا إمام يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: (صل خلف مسلم أحب إلي) وسألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: (لا ولا كرامة)([262])
وروى عن عبد الرحمن بن مهدي قوله: (من زعم أن الله تعالى لم يكلم موسى صلوات الله عليه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه)([263])، وقوله: (لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال: إنه مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء)([264])، وقوله: (الجهمية يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم)([265])
وهكذا روى عن يزيد بن هارون قوله ـ وقد ذكرت الجهمية عنده ـ: (هم والله زنادقة عليهم لعنة الله)([266])، وقوله: (والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من قال: القرآن مخلوق فهو زنديق)([267])، وقوله: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي)([268])
بل إن عبد الله بن أحمد يروي عن أبيه وغيره شمولية هذه الأحكام حتى لمن يقول بأن القرآن كلام الله، ولكن التلاوة والألفاظ مخلوقة، وهو قول أكثر الأمة بناء على تبعيتها للمدرسة الأشعرية، فقد روى عنه أنه سأله: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: (هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق)([269])
وروى عنه قوله: (من قال شيء من الله عز وجل مخلوق علمه أو كلامه فهو زنديق كافر لا يصلى عليه، ولا يصلى خلفه ويجعل ماله كمال المرتد ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت المال)
وقال: سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: (هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم)، وسألته عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: قال الله عز وجل: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6])([270])
بل إن هذه الأحكام المتشددة الممتلئة بالعنف لم تشمل المتكلمين في تلك العقائد فقط، بل شملت أيضا أولئك البسطاء الورعين الذين توقفوا أو فوضوا أو اعتبروا البحث في أمثال هذه المسائل نوعا من الترف الذي لم نطالب به، وقد روى عبد الله بن أحمد في هذا عن أبيه قال: (من كان من أصحاب الحديث أو من أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول: القرآن ليس بمخلوق فهو جهمي)([271])
وقال: سمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية، والواقفة فقال: (من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي، وقال مرة أخرى هم شر من الجهمية)([272])
وروى أنه ذكر ليحيى بن أيوب الشكاك الذين يقولون لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق فقال: كنت قلت لأبي شداد صديق لي: (من قال هذا فهو جهمي صغير)، قال يحيى: (وهو اليوم جهمي كبير)([273])
هذه أمثلة عن بعض أعلام السلف، ومواقفهم من بعض الفروع التنزيهية البسيطة التي أصبح القول بها بديهيا عند جميع المدارس الإسلامية.
ولو أن السلفية تابوا من هذه المقولات، وخطأوا سلفهم فيها، وتراجعوا عنها، وذكروا أن الخلاف فيها وفي أمثالها فرعي، لما وصمناهم بالتكفير.. ولكنهم لا يزالون يصرون عليها، بل يذكرونها كل حين، ويؤيدونها، ويطبعون الكتب التي تنشر مثل هذا الفكر التكفيري الخطير، فكيف لا نعتبرهم مكفرة بعد هذا كله؟
بل إنهم يعتبرون مجرد النقد لمثل هذه الطروحات الإرهابية الخطيرة الممتلئة بالعنف والعدوانية طعنا في السلف والأئمة.. ومن طعن في السلف والأئمة طعن في الدين نفسه.
بناء على هذا، سنذكر نموذجين هنا للتكفير السلفي لإمامين كبيرين من أئمة الدين، هما أبو حنيفة وابن حجر..
معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق