من المآخذ الكبرى والخطيرة التي وصم بها الشلهوب المعتزلة القدامى والجدد ما سماه [رد الأحاديث الصحيحة والطعن في الرواة]، ذلك أن المستند الأكبر لكل البنيان السلفي هو أولئك الرجال الذين قدموهم على كل شيء.. على العقل والنقل وكل شيء.. وأعطوهم حصانة خاصة، فلذلك يشكل نقدهم أو التعرض لهم أكبر مهدد للبنيان السلفي.. ولهذا وقفوا بشدة مع كل من تسول له نفسه استعمال العقل والمنطق في تحليل أمثال تلك الشخصيات، أو وزنها بالموازين الشرعية، لأن الموازين الشرعية خاصة بالخلف لا بالسلف.
وقد ذكر الشلهوب أنواع التحريفات التي فعلها سلفه بالحديث وألصقها كما هي بمن يسميهم المعتزلة القدامى والجدد([237])، فقال: (وقف (أهل الأهواء) العقلانيون –قديماً وحديثاً- من السنة النبوية الصحيحة موقفاً مشيناً، وذلك لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة تقتلع أصولهم من جذورها، وتفسد عليهم منهجهم الذي أصلوه وبنوا عليه طريقتهم. ولذلك سلكوا في رد الأحاديث الصحيحة التي خالفتها عقولهم المريضة طرقاً مختلفة، فأول شيءٍ يؤولون الحديث بما يوافق أهوائهم وعقولهم، فإن أعياهم تأويل الحديث ولم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لجئوا إلى رد الحديث، فإن كان غير متواتر استراحوا وقالوا: هذا خبر آحاد ظني لا نقبله مطلقاً، وهؤلاء هم المعتزلة القدماء، والمعتزلة الحديثة والمعاصرة، قصروا قبول خبر الآحاد على الأحكام دون العقائد، وليس لديهم على هذا التفريق دليل صحيح، وهم مع ذلك تراهم لا يلتزمون بهذا التأصيل الذي أصلوه في خبر الآحاد، فحتى الأحكام يردون بعض الأحاديث الظنية ! فعاد الأمر إلى الهوى وتحكم العقل، ولا يعنيهم بعد ذلك أن يكون في الصحيحين أو في غيرهما من كتب الحديث، وإن كان متواتراً بحثوا في سنده، فإن كان أحد رواته قد روى شيئاً من الإسرائيليات ردوا حديثه لأنه قد يكون مأخوذاً من التوراة، أو بحثوا في سيرة رواته علّهم يجدون قشة يتعلقون بها للطعن بهم حتى يردوا الحديث. وقد تطاول العقلانيون قديماً وحديثاً على الصحابة وخصوصاً رواة الأحاديث، ونالوا من عرضهم وكذبوهم، معرضين بذلك عن تزكية الله لهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم. وهم – أي العقلانيين- سلكوا هذا السبيل لكي يسهل عليهم رد الحديث، فإذا طُعن في الراوي في أمانته وصدقه وعدله، كان ذلك مدخلاً لرد مروياته)([238])
ومن العجيب أن كل هذه الممارسات التي ذكرها مارسها سلفه الصالح، فتلاعبوا بالحديث كما شاءوا.. لكن إن تدخل أحد من العقلاء، فأول حديثا أو رده قامت عليه القيامة.
لكنهم يتصورون أن ذلك حق لهم وحدهم دون سائر الناس، أو كما نقل الشلهوب عن ابن تيمية قوله: (ومن المعلوم: أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه. فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم كما قال بعض السلف: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل)، فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان أو اليد والسنان. وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام. والمقصود: التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله: أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث فهو - إن كان من المؤمنين بالرسل - فهو جاهل فيه شعبة قوية من شعب النفاق وإلا فهو منافق خالص من الذين ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13]، وقد يكون من ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ [غافر: 35]، ومن ﴿الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 16] وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه - وإن كان ذلك ظاهرا بالفطرة لكل سليم الفطرة - فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق وأقومهم قولا وحالا: لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق)([239])
وهذا الكلام الخطير من ابن تيمية، والذي ادعى فيه احتكار أهل الحديث للسنة النبوية، بل اعتبرهم الفرقة الناجية الوحيدة، هو نص في تكفير كل المخالفين.. وقوله (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل) وحده كاف في بيان تكفير ابن تيمية الجماعي للأمة جميعا ما عدا سلفه.
ومن النماذج التي ساقها الشلهوب للمعتزلة القدامى موقفهم من الحديث الذي يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها)([240])
فقد قال الزمخشري تعقيبا عليه: (وما يروى من الحديث ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما.. واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه.. وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه)([241])
فهذا الكلام العقلاني الجميل والممتلئ بالأدب لم يعجب السلفية، بل اعتبروا صاحبه طاعنا في السنة، لأنه يقضي على ذلك الدجل والشعوذة والخرافة التي فتحوا بها عياداتهم في الرقية التي يصفونها بالشرعية.
ومن النماذج التي ساقها للمعتزلة الجدد، إنكار الشيخ محمد عبده لحديث سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله: (وعلي أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل)([242])
فمع كون الشيخ محمد عبده عرض الحديث على القرآن، فرأى مخالفته له، فأنكره، لكون القرآن الكريم أقوى ثبوتا، وأوضح دلالة.. لكن السلفية لا يعجبهم هذا.. لأنهم مستعدون لضرب القرآن الكريم.. ولو بحديث واحد يرويه من كان، وكيف كان.
ولهذا، فقد عقب عليه بقوله: (رد الأحاديث والاقتصار على القرآن موافق لما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)([243])
وهكذا ينقل عن الشيخ محمد رشيد رضا ـ متهما إياه بالاعتزال والعقلانية ـ قوله: (وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز، ليست من أصول الدين ولا فروعه.. وأنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري، مهما يكن موضوعه)([244])
وينقل موقفه من كعب الأحبار مجرما له، لكونه سماه: (بركان الخرافات)، وقال فيه: (كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه، بل لا أثق بإيمانه)([245])
وعقب على هذا بغضب قائلا: (قلت: كعب الأحبار أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في كتبهم، واتهامه بتعمد الكذب يطعن في نقل أئمة الحديث عنه.. فكيف يصح لنا بعد ذلك أن نأخذ عنهم وهم يروون عن كذابين يتعمدون الكذب، لا نظن بهم ذلك إلا أن يذكروا في رواية –حاشا مسلم- تكون للاعتضاد، فهذا قد تجده)([246])
وبسبب هذا الموقف اتهم الشيخ محمد الغزالي بالعصرانية، والعقلانية والاعتزال، ونقل عنه ليثبت ذلك قوله: (إن ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التي صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لا بسها، كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وقد كنت أزجر بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح، حتى يكشفوا الوهم عن معناه، إذا كان هذا الوهم موهماً، مثل حديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) إن طوائف من البطالين والفاشلين، وقفت عند ظاهره المرفوض)([247])
هذا مجرد نموذج عن القمع الفكري الذي يمارسه السلفية على كل باحث ومفكر وعاقل، وصدق نصر حامد أبو زيد حينما سمى كتابه [التفكير في زمن التكفير]، ذلك لأن الموازين السلفية في التكفير تدعو المؤمن إلى إلغاء عقله وتفكيره وكل قدراته التحليلية ليحافظ على الإيمان، وإلا فإنه سيقع في التجهم والاعتزال والعقلانية والعصرانية.. وكل ذلك عندهم كفر وضلال.
قد يعتقد الكثير أن التكفير السلفي يتوقف على المدارس العقدية، باعتبارها تبحث في المسائل العقدية.. وهذه المسائل تتعلق بأصل أصول الدين، ولذلك فإن التعامل معها يحتاج إلى الشدة والحزم، لتحفظ حقائق الدين من التحريف والتأويل والتعطيل.
لكن ذلك غير صحيح.. فطوفان التكفير السلفي الذي شمل الأمة جميعا، لم يتوقف عند متكلمي المعتزلة والأشاعرة والجهمية، بل راح يغرق كل فقهاء الأمة وتلاميذهم وأتباعهم على مدار التاريخ الإسلامي، ولم يستثن من ذلك إلا ثلة محدودة، قد لا تعدو أصحاب المذاهب وتلاميذهم الأوئل، بل إن منهم من تكلم فيه السلف وكفره وكفر كل من تبعه، وكفر كل من لم يكفره.
أما أسباب تكفير هؤلاء، فكثيرة جدا، لكنا سنقتصر في هذا الفصل على نوعين كبيرين منها، لنبين انطباقهما على جميع علماء الأمة ما عدا تلك الثلة القليلة التي نجت من سيف التكفير السلفي.
أما النوع الأول، فهو التكفير بسبب الوقوع في أخطاء أو انحرافات عقدية، مثل نفي الجهة عن الله تعالى، أو القول بخلق القرآن، أو ما يسميه السلفية تعطيل الصفات.. وجماهير علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها يقولون بهذا، ومنهم الفقهاء والمحدثون والمفسرون وغيرهم.. وسنرى النماذج الكثيرة عنهم، وعن تكفير السلفية لهم.
أما النوع الثاني، فهو التكفير بسبب الوقوع في بعض الأخطاء الفقهية، والتي يوليها السلفية شأنا كبيرا، بل يعتبرونها من مسائل العقائد، بل يعتبرونها من أهم ركن فيه عندهم، وهو توحيد الألوهية، وهذه المسائل كثيرة تشمل التوسل وزيارة قبور الصالحين والتبرك بها ونحو ذلك.. والسلفية يعتبرون كل هذا شركا جليا يكفر فاعله، سواء كان عالما أو عاميا، ويتأكد التكفير إن كان عالما.
ولهذا نرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب يطلق الفتاوى الكثيرة على كفر علماء عصره من المذاهب الأربعة، ولا يكتفي بالتكفير المطلق، بل يضم إليه التكفير العيني، فيسمي الكثير من العلماء، ويعتبرهم كفرة.
وقد سار على دربه كل مشايخ السلفية المتأخرين، اللهم إلا تلك الثلة القليلة التي تستعمل التقية، فتصرح بالتكفير المطلق، وتصرح باحترامها لتكفير سلفها للعلماء، بل تعتبرهم مجددين، وأنه لولاهم لما حفظ الدين.. لكنها وحرصا على ألا توصم بالتكفير تغيره إلى ألفاظ قريبة لا تفيد عندهم إلا التكفير من أمثال [قبوريين]، وهي قد تتظاهر بالورع فتتوقف عن تكفير الأعيان، وإن كان واقعها لا يقول بذلك، ذلك أن من كفر واحدا من الناس لسبب من الأسباب، فقد شمل بتكفيره كل من وقع في ذلك السبب، لأنه لا محاباة في أمثال هذه المسائل.
ولذلك فإننا سننطلق من تلك المواقف التكفيرية الصريحة التي قام بها السلفية متقدموهم ومتأخروهم، ونبين انطباقها على سائر علماء الأمة.
وقد كان في إمكاننا في هذا الفصل أن نقتصر على مكفر واحد، كنفي الجهة، ونذكر النماذج عن كل العلماء الذين قالوا به، وكان ذلك وحده كافيا لتكفيرهم، لكنا لم نشأ ذلك، بل آثرنا أن نذكر النواقض المختلفة، حتى إذا جادلوا في أي ناقض منها، وجدوا أمامهم غيره، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق