يعتبر الشاعر الكبير محمد بن سعيد البوصيري (توفي 695هـ) من أكبر شعراء المديح النبوي المشهورين، والذين سنوا سنة حسنة في الشعر تبعتها أجيال كثيرة من المسلمين الذين تركوا تلك الأغراض الشعرية القديمة كالمدح والرثاء والغزل وغيرها. ليحولوا قبلة شعرهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وقد تلقت الأمة ذلك بقبول كبير بين العوام والخواص، وفي جميع المناطق المحافظة، ولفترة طويلة في التاريخ الإسلامية، وفي مساحة واسعة منه ـ حتى صارت قصائده ـ وخاصة البردة ـ تحفظ وتنشد في كل المجالس والمناسبات.. لا لجمالها الشاعري فقط، لأنه يوجد ما هو أكثر جمالا وشاعرية منها، وإنما لكونها تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي لذلك اكتسبت قيمتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولقيت القبول في الأمة لأجل هذا المعنى.
إلا السلفية الذين خالفوا سائر المسلمين في كل شيء، وخالفوهم في هذا أيضا، فراحوا يفتون بكفر البردة، وصاحبها وكل من ارتبط بها.. اللهم إلا إذا أنكر على صاحبها، وكفره، وكفر كل من رضي عن قصيدته.
وحتى لا يكون كلامنا مجرد دعوى، فسأنقل هنا من فتاوى كبار أعلام السلفية ما يجعل من قصيدة البردة أكبر وسيلة من الوسائل التي يستعملها السلفية في التكفير.. وكأن البردة بالنسبة للسلفية فيروس يصيب كل من أصابه بمرض الكفر الذي لا شفاء له.
ونبدأ تلك الفتاوى بفتوى للشيخ محمد بن عبدالوهاب في تفسير قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] فقد قال: (فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وسبب الجهل بها دخل النار من دخلها، فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعني والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا)([665]) من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
|
اذا الكريم تجلي باسم منتقم
| |
فإن لي ذمة منه بتسميتي
|
محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
| |
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي
|
فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
|
فليـتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعى أنه من العلماء واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن.. هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار: 19].. لا والله، لا والله لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان)([666])
ثم قال متأسفا على حال الأمة التي أوقعتها هذه القصيدة في الشرك الجلي: (فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة ومن فتن بها، عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة، واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عند التكفير والقتال؛ بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: ﴿فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ [الجن: 18]، وعند قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: 57]، وقوله: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ [الرعد: 14])([667])
ويقول في بعض رسائلهِ الشخصية: (وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات، ثم يشرح البردة، ويستحسنها، ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه! هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا نارا، ولا رسولا، ولا إلها؛ وأما كون لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك)([668])
وهذا النص واضح في تكفيره للعلماء الذين قبلوا البردة أو شرحوها.. وكأنه يقول لهم: لن تغني عنكم كل علومكم وتصانيفكم ما دمتم استحسنتم البردة أو شرحتموها.
وهكذا قال علامتهم المجدد عبد الرحمن بن حسن في قول البوصيري:
يا أكرَمَ الخلقِ ما لي مَن ألوذُ به
|
سِوَاكَ عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ
|
ولَن يَضِيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي
|
اذا الكريمُ تَجَلَّى باسمِ مُنتَقِمِ
|
فقد علق على هذه الأبيات بقوله: (فناقضوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقشة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم، في قالب محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه. وأظهر لهم التوحيد والإخلاص، الذي بعثه الله به في قالب تنقصه. وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا فى تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته. فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله، ولارضوا بحكمه ولاسلموا له، وأنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعظيم أمره ونهيه. وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلَّغ به الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وآله وسلم فعاملوه بما نهاهم عنه: من الشرك بالله، والتعلق على غير الله)([669])
وهكذا قال علامتهم المحدث سليمان بن عبدالله، والذي علق على الأبيات السابقة وغيرها بقوله: (فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.. منها: أنه نفى أن يكون له ملاذٌ إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.. الثاني: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية.. الثالث: سؤاله منه أن يشفع له، وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره، فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداء.. تناقض عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً، وإلا فيا هلاكه. فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه أن يتفضل عليك، فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟ فهلا سألتها من له الشفاعة جيمعاً، الذي له ملك السموات والأرض، الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله)([670])
وهكذا علق على قول البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
بقوله: (فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبداً رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين)([671])
وهكذا قال علامتهم عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين في الأبيات السابقة، فقد علق عليها بقوله: (مقتضى هذه الأبيات، إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الدنيا والآخرة من جوده، وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الشدائد، ورجاه لكشفها، وهو الآخذ بيده في الآخرة، وإنقاذه من عذاب الله؛ وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام. وإن لم يقل هؤلاء إن محمدا هو الله، أو ابن الله، ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)([672])، والإطراء هو المبالغة في المدح، حتى يؤول إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية)([673])
ثم أورد ما يذكره الصوفية من كون البوصيري وغيره من مداح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصدوا بذلك إلا طلب الشفاعة، ثم رد عليه بقوله: (أولا: هذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك... أي: وإلا فأنا هالك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (لا ملجأ منك إلا إليك)([674]).. وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ؟ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف (أو) في قوله: أو شافعا لي، صريح في مغايرة ما بعدها لما قبلها، وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة، فإن لم يكن فبالشفاعة)([675])
وهكذا راح يطلب من الشاعر أن يغير كل ما ذكره من محسنات بديعية وجماليات تعبيرية تعارفت عليها الشعوب لتنسجم مع توحيدهم، وإلا فهو مشرك شركا جليا.. هو وكل من استحسن شعره أو رضي عنه.. أو سمعه ولم ينكر عليه.
وهكذا علق على أبيات جميلة للبوصيري يقول فيها مخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
الأمان الأمان إن فؤادي
فهذه علتي وأنت طبيبي |
من ذنوب أتيتهن هواء
وليس يخفى عليك في القلب داء |
فقد قال: (والناظم آل به المبالغة في الإطراء، الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الغلو، والوقوع في هذه الزلقة العظيمة.فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب، فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغفرة ذنبه، وصلاح قلبه؛ ثم صرح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء، أي: فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب)([676])
وهكذا قال علامتهم محمد بن صالح بن عثيمين تعليقا على الأبيات السابقة: (وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أوعيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك بعض الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق.. وهذا من أعظم الشرك لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقتضاهُ أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.. وقال -أي: البوصيري - [ومن علومك علم اللوح والقلم]، يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ)([677])
وهكذا قال علامتهم صالح بن فوزان الفوزان تعليقا على الأبيات السابقة: (هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلا الله سبحانه وتعالى إذا كان من أهل الإيمان)([678])
وقال: (.. فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق المديح، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يوصف بصفاتِه التي أعطاهُ الله إيَّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يُغلي في حقَّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكُروب ويغفر الذنوب، وأنه يستغاث به ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد وفاته، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبوية في أشعارهم (البردة) للبوصيري، وما قيل على نسجها من المخرفين، فهذا غلو أوقع في الشرك، كما قال البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به.. فهذا غلوٌّ - والعياذ بالله - أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حتى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا والآخرة للرسول، علم اللوح والقلم للرسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلا الرسول، إذاً ما بقي لله عز وجل، وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد، وكذلك غيرُها من الأشعار، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم.. وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده، وحاكاه في هذا الغلو، هذا كله من الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإطراء.. ومن الغلو في حقه صلى الله عليه وآله وسلم: إحياء المولد كل سنة، لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم، فبعض المسلمين تشبه بالنصارى فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة، لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها، وإنما حدث بعد المائة الرابعة، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة، فهو بدعة، وهو من التشبه بالنصارى)([679])
هذا قليل من كثير من فتاوى علماء السلفية في اعتبار ما تضمنته البردة من معاني سامية، ومشاعر متدفقة رفيعه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. شركا جليا، وكفرا بواحا..
وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة التي تحجر على كل لسان يغرد بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حتى صار حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعبير عن الشوق إليه جريمة أكبر من جريمة القتل والفاحشة وغيرها.. لأنهم يتساهلون في تلك الجرائم، بينما يتشددون في هذا.
مثلما وقف السلفية موقفا سلبيا من البوصيري، فقد وقفوا نفس الموقف من الشاعر الكبير المشهور في الدوائر الصوفية المتأخرة الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ محمد وقيع الله البرعي أحد أبرز شيوخ الصوفية العاملين في السودان والعالم الإسلامي.
فمن الكتب التي ألفت لتكفير الشاعر نتيجة مشاعرة الجياشة نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب بعنوان [شــعر البــرعي فـي ميزان الكتاب والسنة] لمؤلفه عمر بن التهامي بن عبد الرحمن، والذي قدم له وقرظه وشجعه الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان.
وقد قال في تقديمه للكتاب: (فإنَّ الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة ورضىَ لنا الإسلام ديناً، ومن ثمار ذلك الإكمال والتمام والرضى بيان أبواب الخير والحثّ عليها والترغيب في ولوجها. وبيان أبواب الشرِّ والتحذير منها والترهيب من قُربها، وكان من ضمن أبواب الشرِّ المحذَّر منها: الأئمة المضلون.. ذلك لأنَّ ضرر أُولئك الأئمَّة يتعدى إلى شريحةٍ كثيرةٍ من الناس ممن يسمع منهم أو عنهم فيُخْدع بهم وبخاصةٍ أتباعهم ومن سار في ركابهم، ويزيد شرُّ أولئك الأئمَّة ويعظُمُ خطرهم وضررهُم إذا كان ضلالهم عقائدياً، وفي هذه الرسالة سترى بياناً وردّاً لأنواع من الضلال العقدي: مِن وصف الله تعالى بالنقائص، ومن إسباغ بعض صفات الخالق على بعض المخلوقين، ومن تعليق فلاح الناس ونجاحهم باتباع بعض الناس دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن تقرير وحدة الوجود،والحلول والاتحاد، كل هذه الضلالات وغيرها سترى بياناً شافياً وردَّاً مُفحماً مُلزِماً قام به الشيخ عمر التهامي. بعد ما تتبَّع بعض الأشعار التي تضمَّنت هدم التوحيد وبناء الشرك)([680])
ونحب ـ قبل أن نتطرق إلى ما ذكره من تكفير للبرعي وشعره ـ أن ننقل مقدمته للكتاب لنرى الحقد والضغائن والعدوانية والتكفير، وهي تتحدث جميعا بلسان فصيح، لتخرج الأمة بكل مدارسها من الإسلام، حتى لا يبقى فيه إلا التهامي وسلفه.
يقول التهامي في مقدمة كتابه: (فاعلم رحمك الله أنّ كثيراً من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم يعتقدون اعتقادات فاسدة منها ما هو كفر صريح بالله، ومنها ما هو دون ذلك. فمن الاعتقادات الكفرية التي يعتقدونها والتي تخرج صاحبها من الإسلام، اعتقادهم أنَّ الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً يتصرّفون في هذا الكون، وينوبون عن الله في تدبيره، فيرزقون العباد، ويُحيون ويُميتون، ويُسعدون، ويُشقون، ويُعزُّون، ويُذلُّون، وأنهم يعلمون الغيب.. هذا بعض فسادهم في الاعتقاد، وأما فسادهم في العبادة فهو أكثر من أن يُحصر، فهم يعبدون الصالحين في غيابهم وبعد موتهم فيدعونهم ويستغيثون بهم في جميع أحوالهم سواءً في الرخاء، أو الشدة، بل في الشدائد لا يلجأون إلاَّ إليهم. ويذبحون وينذرون لهم ويطوفون بقبورهم، ويتبرَّكون بها، ويُعفِّرون وجوههم في ترابها، ويبكون عندها، ويتذللون لأصحابها، ويخشعون عندهم أكثر من خشوعهم لله، ويخافون منهم وهم أموات أشد من خوفهم من الله، لذلك قد يحلف أحدهم بالله كاذباً، ولا يحلف بشيخه إلاَّ وهو صادق. ويثنون على الصالحين أكثر من ثنائهم على الله، ويلهجون بذكرهم، وإذا عبدوا الله عبدوه بالبدع المحدثات والأمور المنكرات، فتجد أحدهم يرقص الليل كلّه ويستمع الدفوف والألحان ظناً منه أنها تقربه من الله، بل تجد أحدهم يذكر الله آلاف المرات بذكر مبتدع ما أنزل الله به من سلطان، فصاروا بهذه الاعتقادات والأعمال والأقوال من أشرِّ أهل الأرض، وأخبثهم، ومن أكفر الناس على الإطلاق)([681])
وهكذا صار الصوفية بل الأمة جميعا من من (أشرِّ أهل الأرض، وأخبثهم، ومن أكفر الناس) لا لشيء إلا لكونهم لم يستأذنوا ابن تيمية ولا ابن عثيمين ولا السدحان في أي ذكر يريدون أن يذكروا الله به، أو في أي بيت شعر يريدون قراءته أو سماعه.
ثم قال ـ مبينا سبب اختياره للبرعي ـ: (ومِن هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في محاربة الموحِّدين، والاستهزاء بهم، والتنفير منهم، والدعوة لهذا الفساد العظيم والشرّ الجسيم، صوفي يُدعى عبد الرحيم البرعي.. فهو من الشعراء الذين يُكثرون من مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء الصالحين، لكنَّه مع ذلك ما ترك معتقداً كفرياً فاسداً يعتقده غلاة المتصوفة، إلا وصرّح به في هذا المديح، فبدا جلياً خبث منهجه، وسوء معتقده، وهو وأتباعه على شفا هلكة، وعلى خطر عظيم، إن لم يرجعوا إلى الله، ويتوبوا إليه مما يعتقدونه ويدعون إليه من الكفر القبيح، والشرك الصريح.. وفي هذه الرسالة المختصرة نستعرض معكم بعض الأبيات من أشعاره، في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء الصالحين، لتروا بوضوح تام الاعتقادات الكفرية البيّنة في شعره، ولتروا الخطر العظيم على قارئها المعجب بها، إذا لم يكن عنده شيء من العلم بالتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة، خاصة وأن قصائده وأشعاره انتشرت انتشاراً واسعاً في السودان، وفي جميع الأوساط بين العامة والخاصة، والكبار والصغار، والرجال والنساء)([682])
وقد عقد فصلا في كتابه هذا سماه [بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه النَّاس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب]، قدم له بقوله: (اعلم رحمك الله تعالى أن البرعي يرى أن إشراك الصالحين مع الله في الدعاء والإستغاثة لا حرج فيه بل هو مستحب، فهو وكثير من المتصوفة يتقرَّبون إلى الله بالشرك ويرونه من الأدب والتَّعظيم لله، تماماً كما كان يظن مشركو مكة فإنهم كانوا يدعون الصالحين كاللات وغيره ويظنّون أنّ ذلك الفعل من الأمور التي تقرِّبهم إلى الله)([683])
ثم ذكر أبياتا جميلة للبرعي يقول فيها:
شددت رحال عزمي يا نديمي
|
على نجب الرّجا نحو اْلكريم
| |
رسول الله مصباح
اْلبرايا
|
أب الضّعفاء كفّال اْليتيم
| |
أتيت إليه من فجٍّ عميقٍ
|
أجوب اْلوادي في اللّيل اْلبهيم
|
إلى أن قال:
أغثني يا رسول الله إني
|
مريض الجسم ذو قلب سليم
| |
وقل لاتخش مهما عشت ضيمًا
|
ولا هضمًا أيا عبد الرحيم
|
ثم علق عليها بقوله: (في هذه الأبيات يُصرِّح البرعي بإستغاثته بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويشركه مع الله في الدعاء والإستغاثه، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخرج صاحبه من المِلَّة؛ لأنّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن دعاء غيره فقال جلَّ وعلا: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18])([684])
بل إنه يتهمه بأنه أعظم شركا من مشركي قريش أنفسهم، بسبب قوله:
إليك رسول الله أشكو مصائباً
|
فأنت رجائي في الخطوب وعمدتي
| |
وأنت لنا غوث وعون وملجاء
|
وأنت لمرضانا شفاء ورحمة
|
فقد علق على هذه الأبيات بقوله: (وهذا من أعظم المحاداة لله والإشراك به، لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه هو وحده الذي يجيب دعوة المُضطر.. بل إنّ هذا الشرك الذي وقع فيه البرعي وأمر به ودعا إليه، ما كان يفعله مشركو مكة؛ لأنهم كانوا إذا أصابتهم شِدَّة لجأوا إلى الله وحده ونسوا كل ما سواه.. فإذا علمت أن مشركي مكة كانوا لا يلجؤون في الشدائد إلا إلى الله، تبيَّن لك أن شرك عبدالرحيم البرعي أعظم من شركهم واشدّ، وأن البرعي من أكثر الناس وأعظمهم محاربة لتوحيد رب العالمين ومعاداة له، وأن أساس دعوته ولُبُّها هو الإشراك بالله وهدم التوحيد والدين الصحيح نسأل الله العافية)([685])
هذا مجرد مثال عن موقف السلفية من أبيات شعر بسيطة يخاطب فيها الشاعر بشوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره ولي أمره الأول، وأنه أولى به من نفسه.. ولكن السلفية لا يعجبهم هذا، لأنهم لا يريدون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزاحم شيوخهم وسلفهم الذين يعظمونهم.
الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق