وهذه التهمة وحدها كافية في إثبات شمولية التكفير السلفي لكل المسلمين، بل حتى أحباب سلفهم الأول منهم، بل حتى أحباب ابن تيمية نفسه، لأنهم جميعا، وفي كل العصور، وفي كل الأماكن يعظمون من يعتقدون ولايته، وإذا مات يبنون على قبره ضريحا، ويظلون يزورونه، وقد يقيمون المناسبات التي تسمى الموالد تذكيرا به.
وقد أشار الشيخ علي بن أحمد الحداد إلى هذا، فقال: (ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين)([686])
وهو يشير بهذا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه الذين كفروا جميع المسلمين بسبب تعظيمهم للأولياء، وبنائهم على قبورهم، فاعتبروهم مشركين شركا جليا لا يختلف عن شرك أهل الجاهلية، بل قد يفوقه.
فقد وضع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (نواقض الإسلام) ما يجعل من جميع المسلمين مشركين.. وأكثرها يعود إلى تعظيم الأولياء وتقديسهم واحترامهم، فمن تلك النواقض (1 ـ الشرك في عبادة الله تعالى.. ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر، أو للقباب.. 2ـ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم كفر إجماعا.. 3ـ من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر..)
ثم ختم القول على هذه النواقض بقوله: (لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً)([687])
فهذا ما يتصوره الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه من نواقض الإسلام، والأخطر مما ذكرنا من المكفرات هو ما ورد فيها من عبارات غامضة وأحكام مطلقة، تجعل لكل من يشاء أن يكفر أحدا أن يستخدمها بسهولة، ولعله لأجل هذا خرجت الحركات التكفيرية من رحم الوهابية.
وكمثال على ذلك نرى الشيخ ابن عبد الوهاب يربط بين الذبح الذي لا يقصد به إشراك أحد في عبادة غير الله، بالشرك بالله مع أنه قد يكون عادة جرت أن يذبح في مكان ولي للبركة، وليس للتعبد، ثم يوزع لحم الذبيحة على الفقراء، وهذا ما جرى به العمل في العالم الإسلامي، بما فيها الجزائر، والتي كانت تسمى (زردة)، ولقبها علماء الجمعية بـ (أعراس الشيطان)
وهكذا الأمر بالنسبة لما ذكره في الناقض الثاني، فهو يعتبر (الواسطيّة) وكأنها شرك يزاحم الله تعالى، مع أن المسلم إنما يرجو نيل شفاعة نبيه a، كما في أحاديث مستفيضة عن شفاعته a للعصاة من أمته يوم القيامة، وكقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64]، فالآية الكريمة لا تقف عند المعنى الظاهر في﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ [النساء: 64]، لوجود آية أخرى صريحة: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، ولكن ضمّ استغفار الرسول a للقوم الذين أرادوا التوبة رجاء لقبولها من الله. وهناك مواقف عديدة لجأ فيها الصحابة لبعضهم في مواقف شديدة طلباً لتحقيق أمر أو نزول بركة أو رحمة من الله، وكما فُعل مع العباس عم النبي a.
وقد رد الصوفية مدافعين عن أنفسهم منذ ظهرت هذه المقولات عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في العالم الإسلامي، وتركزت ردودهم على تفنيد ما يزعمه الوهابيون من أن تعظيم الصوفية للصالحين أو لأضرحتهم أو توسلهم بهم إلى الله لا يعني الشرك، ولا علاقة له بما كان يفعله أهل الجاهلية.
فهذا الشيخ القباني يخاطب الشيخ ابن عبد الوهاب قائلا: (فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول a، أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..)([688])
ويذكر (الحداد) عن أتباعه أنهم (مهما عظموا الأنبياء والأولياء، فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه)([689])
ويقرر (دحلان) ما قرره سائر المسلمون في جميع العصور قبل مجيئ الوهابية، وهو أن الشرك في حقيقته ليس سوى اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، يقول في ذلك:(فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله.. ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى)([690])
وهذا نرى (الزهاوي) يؤكد مثل من سبقه على أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون لأصنامهم أنها تنفع وتضر بذواتها فيقول: (إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم)([691])
ويرد (العاملي) على ابن عبد الوهاب في ادعائه أن مشركي العرب ينكرون ربوبية الله - كما ذكر ذلك ابن عبد الوهاب في رسالتيه: (كشف الشبهات)، و(أربع قواعد) – فيقول: (لا شيء يدلنا على أنهم – أي مشركي العرب – لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم أنه لا تأثير لها في الكون، وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط، إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثير بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها، فتشفي المرض وتكشف الضر)([692])
ويذكر الشطي في معتقد الوهابية في الاستغاثة، فيقول: (فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول عليه السلام، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال …)([693])
ويرد على ذلك بأن ما يفعله العوام لا يرقى إلى هذه الدرجة، فبذكر حكاية مهمة لجده تبين دوافع العوام فيما يفعلونه من التعلق بالأولياء والصالحين، فقال: (ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزاً تقول: يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلاً، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه)([694])
ويرد ابن عفالق على كل ما يذكره الوهابية من مكفرات، بل يعتبر أنها في أشد أحوالها ليست سوى ذنوب ومعاص لا ترقى لحد الكفر، فقد قال – في معرض نفيه أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركاً -: (فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله.. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله)([695])
بل إن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وهو الأخ الشقيق لمحمد بن عبد الوهاب يستنكر استنكارا شديدا موقف أخيه من تكفير من ذبح أو نذر لغير الله، ويستغرب من تكفير من دعا غير الله فيقول: (من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه)([696])
ويضيف في موضع آخر: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد..)([697])
وهكذا بالنسبة للاستغاثة، فالشيخ محمد بن محمد القادري لا يرى في الاستغاثة بغير الله - ما دام أن المستغيث بغير الله، لا يعتقد أن غير الله هو الموجد، وأنه لا تأثير إلا لله وحده شركا - يقول في تقرير ذلك: (وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة.. ولا يشك في مسلم أن يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته..)([698])
ومثل ذلك النذر للأولياء، فهو عندهم من الشرك الذي لم ينص عليه غير الوهابية، فيقول:
وبناء على هذه فإن هذه النواقض العشرة التي تبناها الوهابية، وتبناها أتباعهم في العالم الإسلامي تعتبر – كما يذكر بعض الباحثين- (المدخل الذي يرد منه كل من أراد الترويج لثقافة التكفير، على قاعدة أن من لم يكفّر كافراً فهو كافر، ومن شكّ في كفره فهو كافر، الأمر الذي يشجّع الناس على الإنغماس في عقائد بعضهم، فيخرجون من يشاءون من الدين ويدخلون إليه من يشاءون، ويعقدون نادياً للتداول فيما انعقدت عليه قلوب المؤمنين، فهذا مؤمن، وذاك كافر، وذلك منافق، وقد يصدرون أحكاماً بقتل فلان بتهمة الردّة عن الدين، لمجرد أنه يختلف مع المذهب الرسمي، وتطال آخر تهمة الإنحراف عن العقيدة، والضلال، ويتكفّل رسل الموت من أهل الدعوة بإيصال رسائل التهديد للكتّاب كما فعل الفوزان)([700])
وكمثال على انتشار التكفير في العالم الإسلامي بسبب تلك التعاليم المتشددة، ما حصل في الجزائر إبان الاستعمار من تكفير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعوام الجزائر بسبب تعظيمهم للأولياء، وزيارتهم لأضرحتهم، وإحيائهم للمناسبات المرتبطة بهم.
وكمثال على ذلك نرى الشيخ مبارك الميلي الذي استنسخ المنهج الوهابي كاملا غير منقوص، وخاصة في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره) الذي حكم به على شرك جميع الجزائريين، بل على شرك جميع المسلمين الذين يزورون الأضرحة أو يتوسلون بأصحابها.
بل إنه يعتقد ما كان يعتقد الشيخ ابن عبد الوهاب من عودة الجاهلية الأولى، بل إنه يرى أن الجاهلية الآخرة أشد، فيقول: (ولقد سادت هذه الحالة العالم الإسلامي، فانتهوا إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسلمين شمل انحطاطهم هذه الناحية أيضا؛ فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان ووضع الأسماء على مسمياتها؛ فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب وصاحب الكشف والتصريف معنى الألوهية، ولكن لا يسمونهم آلهة!! ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة!!)([701])
ويخاطب الذي يشكك في كون المسلمين تحولوا إلى مشركين لا يختلفون عن أبي جهل وأبي لهب، إن لم يكونوا أشد منهم شركا، فيقول: (ألست ترى في أوساطهم قبابا تبذل في تشييدها الأموال، وتشد لزيارتها الرحال؟! أم لست تسمع منهم استغاثات وطلب حاجات من الغائبين والأموات؛! أم لم تعلم بدور تنعت بدار الضمان تشترى ضمانتها بالأثمان؛! أم لم تجتمع بذرية نسب للمرابطين إعطاؤها بقوة غيبية؟! أم لم تتكرر عليك مناظر مكلفين إباحيين يقدسون بصفتهم مرابطين أو طرقيين؟! هذا إلى اجتماعات تنتهك فيها كل الحرمات باسم الزردات، أو تحت ستار الاعتقادات والدعوة إلى أوضاع مبتدعة صدت الناس عن اتباع السنة المطهرة.. والخبير بحياة أهل عصره، العالم بأصول دينه، لا يتردد في ظهور الشرك وانتشاره، وتعدد مظاهره وآثاره، والعامي الفطري لو سألته وأفهمته؛ لوجدت عنده الخبر اليقين لإثبات أن أمثاله- وما أكثرهم- في ضلال مبين)([702])
والشيخ مبارك الميلي كالشيخ البشير الإبراهيمي يفتي بحرمة الطعام الذي يقدم في تلك المحال، لأنه في تصوره مما أهل به لغير الله، على الرغم من أن الذابحين لتلك الأنعام يذكرون اسم الله عليها، ويطبقون فيها ما يذكره الفقهاء من أحكام الذبائح، فيقول: (هذه الزردة يذكرون اسم الله على ذبيحتها، ونيتهم الذبح للصالح عندهم، فأعمل الجامدون من الطلبة جانب اللفظ، ورأوا إباحة أكلها، وهم يقرؤون قول خليل في نية المصلي ولفظه: (وإن تخالفا، فالعقد)؛ يريد أن العبرة عند اختلاف القلب واللسان بما يعقده القلب لا بما يلفظه اللسان، وهي قاعدة عامة في جميع الطاعات)([703])
ولسنا ندري كيف اطلع الشيخ على نية الذابح، وهي باطنة لا يمكن لأحد الاطلاع عليها إلا ربها أو صاحبها، ولكنه مع ذلك يصر على أنهم يريدون بها غير وجه الله، ويعتبر أن المخالف في ذلك جامد ومغرض، فيقول: (وقد يقول الجامدون والمغرضون: إنا نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، وقد ظهر من حال الذابح أنه ذكر اسم الله، فلا نبحث عن نيته الباطنة! فنقول لهم: أولا: إن المفتي لا يقتصر دائما على الظواهر؛ ففي الأيمان والطلاق مسائل تنبني على النية والقصد، ويختلف حكمها باختلاف النية مع اتحاد اللفظ، بل تقدم قريبا الاستناد إلى النية في حكم الذبائح عن علي وغيره.. وثانيا: إن من السرائر ما تحف به قرائن تجعل الحكم للنية ولا تقبل معه الظواهر.. وذبائح الزردة من هذا القبيل؛ فإن كل من خالط العامة يجزم بأن قصدهم بها التقرب من صاحب المزار)([704])
ثم اعتبر من القرائن الدالة على أن الذبح فيها لغير الله، وهي لذلك محرمة، والأخطر من ذلك الحكم على فاعل ذلك بالشرك الجلي، لأنه قدم القرابين لغير الله، فيذكر([705]):
الأول:ـ أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار؛ فيقولون: زردة سيدي فلان، أو: طعام سيدي عبد القادر، مثلا.
ثانيها: أنهم يفعلونها عند قبره وفي جواره، ولا يرضون لها مكانا آخر.
ثالثها: أنهم إن نزل المطر إثرها نسبوا إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه وتعويلهم عليه.
رابعها: أنهم إن نهوا عن فعلها في المكان الخاص، غضبوا ورموا الناهي بضعف الدين أو بالإلحاد، وقد يجاوزون الجهر بالسوء من القول إلى مد الأيدي بالإذاية.
خامسها: أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة نكسوا على رؤوسهم وقالوا: إن وليهم غضب عليهم لتقصيرهم في جانبه.
ثم علق على هذه القرائن بقوله: (فهذه دلائل من أحوال الناس وأفعالهم وأقوالهم التي لم يلقنها لهم المكابرون المتسترون وراء التأويل تريك أن ذبائح الزردة مما ذبح على النصب وأهل به لغير الله وإن ذكر عليها اسمه)([706])
بل حكم عليها بأنها من (من الشرك، فيجب على العلماء تحذير الأمة منها والنصح باجتنابها، ويجب على الأمة الاتباع والمبادرة إلى الإقلاع)([707])
واستدل لذلك بـ (مشابهتها في المعنى لعتائر الجاهلية وقرابينها واجتماعاتها على أنصابها وأصنامها، وتقدم حكم الشرع في ذلك، ومشابهتها في الصورة لعقر الجاهلية على قبور أجاودهم)([708])
ثم عاد كرجال الجمعية جميعا إلى الشاطبي ليستند إليه في الدلالة على أن ما يقوم به المسلمون البسطاء أمام أضرحة من يعظمونهم من الصالحين شرك جلي لا يختلف عن شرك الجاهلية، فيقول: (كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد؛ يقولون: نجازيه على فعله، لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره؛ لتأكلها السباع والطير، فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته... ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره؛ حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه، حشر راجلا)([709])
ولسنا ندري العلاقة بين ما ذكره الشاطبي عن أهل الجاهلية وبين ما يفعله المسلمون أمام أضرحة من يصومون ويصلون ويذكرون الله ذكرا كثيرا.
وهكذا يسترسل الشيخ مبارك الميلي في النقول والاستدلالات المبنية جميعا على أساس أن أولئك البسطاء الذين اجتمعوا قصدوا بذبحهم غير الله، وبالتالي صار حكمهم حكم المشركين، وهو الكفر البواح.
وعلى هذا المنوال نجد الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أعلن حربا شديدة على تلك المناسبات التي تجمع الجزائريين وتوحد قلوبهم، ومن ذلك ما كتبه في البصائر([710]) تحت عنوان (أعراس الشيطان)([711])، استهله على طريقته في تغليب الأدب على العلم، والبيان على البرهان، فهو بدأ بذكر الشيطان وتأثيراته المختلفة بطريقته تهكمية ساخرة، فقال: (كنا نفهم أن الشيطان يطوف ما يطوف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزين لها معصية الله، ويحركها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنا نعلم أن للشيطان مراج خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في (العمالة الوهرانية)، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها... وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزين قلما يجدها في غيرهم من رعاياه، وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزل إلا على كل أفاك أثيم)([712])
بعد هذا الاستهلال الذي خصصه للشيطان مع أن الحديث مرتبط بالموالد، أخذ يربط بين الشيطان والموالد، فقال – بأسلوبه التعميمي الذي لا يحب الاستثناء-: (هذه (الزرد) التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكل ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكل داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان)([713])
ثم ذكر المبررات الداعية إلى هذا الحكم الشديد، فقال: (ألم تر إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كل ذلك مما يأمر به الشيطان البدوي، وكل ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبين لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه)([714])
ولم يذكر الشيخ أي دليل على هذا القذف العام لكل الموالد من دون استثناء، وكأنها جميعا مناسبات للمنكرات والفواحش، ولا حظ فيه لعبادة أو دين أو علم.
ولم يكتف الشيخ بهذا القذف العام لجميع المجتمع الجزائري، وإنما راح يشهر سلاح التكفير والرمي بالشرك الأكبر الذي تلقفه من شيخه محمد بن عبد الوهاب، فقال: (كلما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوله لهم الشيطان وليا صالحا، بل يصوره لهم إلها متصرفا في الكون، متصرفا في النفع والضر والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلا صالحا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيا وكان صالحا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فاءوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كل ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثقل الدين وألح الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار!)([715])
بعد هذا الحكم القاسي الشديد المفتقر إلى اللغة العلمية والحكمة في معالجة الظواهر، راح يعتبر ذلك التقديس الذي جبل عليه الجزائريون للأولياء والصالحين نفخة من نفخات الشيطان أو كيد من كيد الاستعمار، وأنه لا علاقة له بحب الصلاح والولاية والتدين، فلا يحب الصالحين إلا من يحب الصلاح نفسه، ولا يعظم أهل الدين إلا من سبق تعظيمهم لهم تعظيم الدين نفسه.
يقول الإبراهيمي: (سر ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات تر القباب البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسل تجد القليل منها منسوبا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقل مجهولا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يبني قبة أو قبتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحراس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محب في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها)([716])
ثم بين أثر الحركة الإصلاحية في قلع هذه العادات، ويقر في نفس الوقت بأنه لم يمض عليها زمن حتى عادت من جديد من غير أن يبحث في سر عودتها، فقال: (ولقد ماتت هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه)([717])
ثم ختم مقاله بفتاوى خطيرة تفتقر إلى لغة الفقهاء، فقال: (يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعي الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مفسدة للعقيدة، وإن فروعها مفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحل أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن)([718])
وقد استمر – للأسف – منهج خلف الجمعية على درب سلفها في هذه المواقف الخطيرة المفتقرة إلى اللغة العلمية، والمتسرعة في الحكم بالتكفير، حيث نجد الشيخ أحمد حماني الرجل المتساهل في الكثير من الفتاوى يتكلم بنفس تلك اللغة التي تكلم بها الإبراهيمي والميلي، فيقول - متأسفا-:(وفي الجزائر ينادي كل قوم برجلهم: أهل الغرب بسيدي بومدين وسيدي الهواري وفي الوسط سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد وسيدي منصور، وأهل الشرق سيدي الخير وسيدي راشد، وسيدي عبد القادر للجميع للجميع،وقد كانت الدعوة الإصلاحية قضت على معظم هذه البدع ورجعت بالناس إلى ذكر الله وحده، ولكننا عدنا إلى سماع هذا حتى في إذاعتنا ووسائل إعلامنا، وما كان يجوز هذا في أمة موحدة وإنما يذكر عندنا اسم الله وحده،فإننا أمة وحدها الإسلام)([719])
ولسنا ندري ما الحرج في أن تشتهر المناطق المختلفة بأسماء الأولياء والصالحين، بل نرى في ذلك تشجيعا للصلاح والتقوى التي أهلت أولئك ليتبوؤوا تلك المكانة الرفيعة في المجتمع.
ولكن الجمعية للأسف، والتي بالغت في تقديس أعضائها لم ترض للناس أن يقدسوا أحدا غيرهم، وهي تعلم أن المجتمع إن لم يرفع الصالحين فسيرفع غيرهم لا محالة، فهي سنة اجتماعية، فلكل مجتمع أبطاله ورجاله وأهل القدوة فيه، فإذا ما ضربوا ضربت هوية المجتمع معهم، وللأسف فقد استبدل الناس بعد أولئك الصالحين – بغض النظر عن حقيقة صلاحهم ومدى صدقهم فيه- بمطربين ومهرجين ولاعبين وسياسيين.. ولم نجد أحدا ينكر ذلك.
والأخطر من هذا أن الشيخ أحمد حماني الذي أتيحت له فرص كثيرة بعد الاستقلال ضيعها جميعا، ولم يجد شيئا ينكره إلا هذه العادات ليقتلعها من جذورها من غير أن يضع أي بديل صالح لها، وكمثال على ذلك أنه طرح عليه في الإذاعة الوطنية هذا السؤال: (عادة موروثة كانت منتشرة فينا ورثناها عن الأجداد وهي إقامة حفلات الزردة، يتهيأ لها الناس...ويجتمعون بمكان ولي فينحرون البقر ويذبحون الشياه...وتقام الاحتفالات بالحضرة والآلات والتهوال ويضرع للأولياء والصالحين فيمدونهم بالبركات والخيرات،اختفت هذه العادة أيام الثورة لكنها عادت بعد 1962 وكان الناس فيها قسمان مؤيد ومعارض)([720])
فأجاب عن هذا السؤال بنفس الحمية التي كان ينطق بها الشيخ الإبراهيمي والتبسي والميلي، فذكر أن آخر زردة كانت في قسنطينة سنة 1937 لأن إقامتها ليست من الإسلام في شيء لما فيها من مظاهر الشرك ودعاء للأولياء والذبح لغير الله،زيادة على أنها من مظاهر التخلف ووراءها الاستعمار وقد اختفت هذه البدع بعد الاستقلال حتى عادت للظهور من جديد في الثمانينيات، ووجه حماني لومه للمذيع والإذاعة الوطنية أنه لو احترم نفسه كصحافي صادق لقدم لأمته الحقائق لتتمسك بها بما يفيدها وتهجر القبيح الذي يضرها([721]).
ولسنا ندرى لم لم ينكر الشيخ تلك الاحتفالات الكبرى أو أنواع الزردة التي تقام في ملاعب كرة القدم، والتي استبدل بها المجتمع احترامه وتعظيمه للصالحين بتعظيمه للاعبين، فحصد نتيجة ذلك صراعات كبرى بين أهل المناطق المختلفة من أجل هدف أو لاعب أو حكم، ولم يكن للشيخ أحمد حماني في ذلك الوقت - للأسف- إلا أن ينضم إلى قائمة المشجعين، فيشجع فريقا على حساب فريق.
بل إن الشيخ لم يكتف بالتبشير في الإذاعة التي هي ملك للجزائريين جميعا بهذه التصريحات الخطيرة، بل راح في كل النوادي يبشر بها، وكأنها قضية الساعة، فقد وردت إليه استفتاء([722]) حول الزردة، فأجاب بلغة لا تختلف عن لغة الوهابيين التكفييريين، نجتزئ منها – من باب الاختصار- هذه العبارات المفرقة الدالة على المنهج الفكري للشيخ وللجمعية جميعا.
فقد ذكر أن المقصودين بالزيارة (كانوا عاطلين عن كلّ ما يؤهّلهم للزيارة ! فلا علم ولا زهد ولا صلاح ولكن نسب مرتاب في صحّته)
وذكر أن الممارسات التي تؤدى عند الأضرحة ممارسات شركية، فقال: (إنّ مثل هذا التمسّح نوع من الشرك ولا يكون إلاّ للحجر الأسود بالكعبة فقط مع التوحيد الخالص لله وقد قال له عمر يخاطبه: (والله ما أنت إلا حجر لا تنفع ولا تضر ولو لا أنّي رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)، فإن كنت مع الحجر الأسود كما قال عمر فلا بأس أن تقبّله، أمّا غيره فلا يجوز لك التمسّح به فإنّ التمسّح به وتقبيله شرك يتنَزّه عنه المؤمن الموحّد)
ثم إنه حكم بالشرك حتى على التوسل الذي لم ير الشيخ ابن باديس فيه أي حرج، فقال: (إنّ التوسّل الشائع بين الناس وهو الدعاء – الدعاء هو مخ العبادة – شرك محض، فالتوحيد أن تدعو الله الذي خلقك – ولو عظمت ذنوبك – فإنه معك يسمع دعاءك فإن كان لا بدّ من التوسّل فتوسّل بصالح أعمالك كما فعل الثلاثة اصحاب الغار حينما نزلت عليهم الصخرة وسدّته عليهم، فاستجاب لهم من يعلم شدّتهم. هذا هو التوسّل الصحيح وغيره قد يوقع صاحبه في الشرك، فلا تحم حوله)
ثم اعتبر كالوهابيين جميعا أن الأضرحة ليست غير أصنام لا تختلف عن أصنام الجاهلية، فقال: (وكانت هذه الزردة كثيرة لأنّ لكلّ قوم لإلههم من أصحاب القبور من حدود تبسة إلى مغنية، كانت القبور تعبد من دون الله ولكلّ قوم من يقدسونه. فـ(سيدي سعيد) في تبسة، و(سيدي راشد) في قسنطينة و(سيدي الخير) بسطيف و(سيدي بن حملاوي) بالتلاغمة، و(سيدي الزين) بسكيكدة و(سيدي منصور) بولاية تيزي وزو و(سيدي محمد الكبير) في البليدة، و(سيدي بن يوسف) بمليانة و(سيدي الهواري) بوهران و(سيدي عابد) بغليزان و(سيدي بومدين) بتلمسان و(سيدي عبد الرحمن) بالجزائر، ويزاحمه (سيدي امحمد)، وليعذرني الإخوة ممن لم أذكر آلهة بلدانهم وهم ألوف، ففعل هؤلاء القوم مع هؤلاء المشايخ يشبه فعل الجاهلية مع هبل واللات والعزّى وخصوصا إقامة الزردة حولها والذبح لها والتمسح بالقبور، أفترانا نحيي آثار الشرك ونحن الموحدون؟)
ثم أفتى بأن (الطعام واللحم المقدّم في الزردة لا يحلّ أكله شرعا لأنّه مما نصّ القرآن على حرمة أكله فإنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [المائدة: 3] فاللحم من القسم الرابع أي مما أهل لغير الله، أي ذبح لغير الله بل للمشايخ، فزردة (سيدي عابد) أقيمت له وهكذا (سيدي أحمد بن عودة) و(سيدي بومدبن).. أقيمت له الزردة ليرضى وينفع ويدفع الضّر، وتقول إنّ هذه الذبائح قد ذكر اسم الله عليها، فأقول: ولو ذكر اسم الله فإنَّ النّية الأولى وهي تقديمها إلى صاحب المقام، يجعلها لغير الله)
ونحب أن نختم هذا العنوان بما حصل من تعظيم تلاميذ ابن تيمية وأتباعه الأوائل له، والذي لا ينطبق عليه ـ بالمقاييس السلفية والوهابية خصوصا ـ إلا حكم الشرك الجلي.
فقد ورد في كتاب [البداية والنهاية] لابن كثير تلميذ ابن تيمية النجيب قوله في أحداث سنة 728 هـ:(وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ بالجامع أيضا وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة.. ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن يصلي عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر)([723])
ويذكر أنه بعد دفنه: (شرب جماع الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما)([724])
ولم يقتصر التبرك بابن تيمية وتعظيمه على ذلك اليوم، بل استمر بين أتباعه ومحبيه حتى أنهم كانوا يستشفون بتراب قبره، فقد جاء في كتاب (الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر) في الحادثة التي حصلت مع البطائحي المزي، وراوها لابن حجي قال: كنت شابا، وكانت لي بنت حصل لها رمد، وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية، وكان صاحب والدي، ويأتي إلينا ويزور والدي، فقلت في نفسي: لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به، فإنه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل، فجئت إلى القبر، فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا، فقلت: ما تصنع بهذا، قال: أخذته لوجع الرمد، أكحل به أولادا لي، فقلت: وهل ينفع ذلك؟ فقال: نعم.. وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته، فأخذت منه، فكحلتها وهي نائمة، فبرئت، قال: وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل أبي عمر المقدسي، وكان يأتي الينا، فأعجبه ذلك، وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه، ويعجبه ذلك([725])
الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق