الأحد، 22 أكتوبر 2017

تهمة التنزية المطلق للحضرة الإلهية


وهذه أكبر التهم، وقد اهتم بها ابن تيمية كثيرا، وعلى أساسها كفر كثيرا من مشايخ الصوفية المتأخرين.. والمعاصرون من السلفية يرمون بها كل الصوفية ابتداء من الجنيد إلى آخر صوفي.. وهم يقرؤون كل ما يقوله الصوفية من معان تحض على التوحيد إلى هذا المعنى.
ومن أمثلة ذلك قول صاحب كتاب [الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ] في فصل خصصه لوحدة الوجود عند الصوفية: (إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود)([611])
ثم راح يسوق الكثير من تلك النصوص الجميلة التي ذكرها الصوفية، والتي راحوا من خلالها يعمقون صلة المؤمنين بالله، ليجعلوا قبلة قلوبهم واحدة هي الله.. لكنها لم تكن جميلة عند السلفية، لأن لوثة الخوف من الشرك التي امتلأت بها عقولهم جعلتهم ينكرون كل شيء، ويشكون في كل شيء.. وليتهم إذ لم يفهموها، أو لم تعجبهم، سكتوا، بل إنهم شنوا حملة كبيرة عليها، واعتبروها زندقة وهرطقة، واعتبروا أولئك العارفين الذين نطقوا بها زنادقة منحرفين ضالين.
ومن أمثلة ذلك تلك النصوص الجميلة الممتلئة بتنزيه الله وتعظيمه، قول أبي حامد الغزالي: (..فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل)([612])
وقد علق صاحب الكتاب على هذا بقوله: (يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم)([613])
وينقل عن الغزالي قوله: (نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية. والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به...وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال...ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال)([614])
ومع أن هذا النص واضح في تنزيه الله وتعظيمه وأنه صاحب الوجود الحقيقي، وما عداه لا يملك هذا الوجود الأصلي، بل وجوده تبعي، فقد علق عليه الكاتب بقوله: (هذا النص مشحون ـ أي بوحدة الوجود ـ  لكن أهم ما فيه هو: 1- استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.2- قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).. 3- إعطاؤه لكلمة (الربوبية) معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن تابيعهم.. 4- إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد:(أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح). ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون).. 5- تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال)([615])
بهذه الطريقة يحلل السلفية كلام العارفين، وبقلوبهم المريضة يحولون تلك المعاني الرقيقة السامية إلى هذا المنحدر السحيق.. كل ذلك ليرضوا نزوة تكفير علم عظيم اتفقت الأمة على احترامه والاستفادة منه.
وهكذا ينقل قول الغزالي ـ وهو يتحدث عن إكرامات الله للسالكين إليه ـ: (ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية)؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله)([616])
وعلق على ذلك بتوضيح مراد الغزالي الحقيقي على حسب ما يفهم العقل السلفي، فقال: (نحن الآن نعرف مما سبق ومما سيأتي من نصوص، أنه وأنهم يعنون بقوله وقولهم: (أفعال الله) أي: حركاته (سبحانه عما يصفون)([617])
وهكذا ينقل هذه الدرر الجميلة من كلام الغزالي عن حقيقة تنزيه الصوفية المطلق لله، في قوله: (والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد)..والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد)([618])
ثم يجيب عن سر ذلك، فيقول: (فإن قلت: كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الِإنسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع)؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ...وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز)([619])
ثم يعلق الكاتب على هذا التوحيد العرفاني السامي بقوله: (أرجو الانتباه إلى كلمتى: (الجمع والتفرقة) اللتين يشرح معناهما بوضوح، ويقول: (فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضوة الِإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره، ولا يُتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تُستبان بأضدادها، وما عمّ وجوده حتى إنه لا ضدّ له، عسر إدراكه)([620]))([621])
ومع وضوح هذا الكلام وجماله وروحانيته إلا أن السلفية لا يستفيدون منه إلا شيئا واحدا هو كفر صاحبه.. أما لو ذكر الغزالي بأن الله ليس سوى جرم من الأجرام، أو جسم من الأجسام، وأن له بيتا في الجنة، وأنه يجلس ويستلقي ويجري ويهرول، فإنه حينها يصير موحدا ومسلما.
هذا مجرد مثال عن مواقف السلفية من كلام أبي حامد الغزالي في التوحيد السني التنزيهي، لا التوحيد السلفي الوثني.
ونحب أن نسوق هنا للدلالة على معنى وحدة الوجود عند الصوفية، والتي كفرهم ابن تيمية والسلفية جميعا بسببها، كلام عالمين جليلين نالا حظهما من الاهتمام من لدن الصوفية بمدارسها المختلفة، كما نالا حظهما من التكفير من المدارس السلفية المختلفة.
أما أولهما، فهو الشيخ عبد القادر عيسى، وهو شيخ طريقة له مريدوه، وشهادته لها أهميتها الكبرى، باعتبار علاقته العملية بالتصوف.. وأما الثاني فهو الشيخ عبد الحليم محمود، وهو باحث وأكاديمي ومطلع على الفلسفات المختلفة، بالإضافة لممارسته للتصوف.
 أما الأول، وهو الشيخ عبد القادر عيسى فقد عقد فصلا في كتابه العظيم [حقائق عن التصوف] لرد هذه الشبهة عن الصوفية قدم له بقوله: (اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال، وفهم كلامهم على غير المراد. ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر ورجع إِليهم ليعرف مرادهم. لأن هؤلاء العارفين مع توسعهم في هذه المسألة لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إِشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودوَّنوا لأنفسهم وتلاميذهم لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإِيضاح لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر)([622])
وبناء على هذا فقد راح ـ وهو الشيخ المربي صاحب الطريقة ـ يشرح المراد منها عند الصوفية، وأن معناها لا يعود إلا لتنزيه الله عن مشابهة مخلوقاته في أي شيء حتى في الوجود نفسه، فالله صاحب الوجود الحقيقي الواجب، وأما مخلوقاته، فوجودها تبعي لا ذاتي، وناقص لا كامل، فقال: (ونظراً لأن مسألة وحدة الوجود أخذت حظاً كبيراً من اهتمام بعض العلماء، وشغلت أذهان الكثير منهم، أردنا أن نزيد الموضوع إِيضاحاً وتبسيطاً خدمة للشريعة وتنويراً للأفهام فنقول:   إِن الوجود نوعان: وجود قديم أزلي؛ وهو واجب، وهو الحق سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿ذلِكَ بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ[الحج: 22]. أي الثابت الوجود، المحَقَّق، ووجود جائز عرضي ممكن، وهو وجود من عداه من المُحْدَثات)([623])
وبناء على هذه البديهية القرآنية والعقلية راح يميز بين الفهم الشرعي لوحدة الوجود كما يقول بها الصوفية، ووحدة الوجود الفلسفية، والتي يتوهم السلفية أنها من مقولات الصوفية.
فذكر أن وحدة الوجود الفلسفية والتي تعني (اتحاد الحق بالخلق، وأنه لا شيء في هذا الوجود سوى الحق، وأن الكل هو، وأنه هو الكل، وأنه عين الأشياء، وفي كل شيء له آية تدل على أنه عينه)([624])
وقد حكم على هذا النوع من الوحدة بأنه (كفر وزندقة وأشد ضلالة من أباطيل اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، وقد شدَّد الصوفية النكير على قائله، وأفتَوْا بكفره، وحذَّروا الناس من مجالسته. قال العارف بالله أبو بكر محمد بناني: (فاحذر يا أخي كلَّ الحذر من الجلوس مع من يقول: ما ثَمَّ إِلا الله، ويسترسل مع الهوى، فإِن ذلك هو الزندقة المحضة، إِذ العارف المحقق إِذا صح قدمه في الشريعة، ورسخ في الحقيقة، وتَفَوَّهَ بقوله: ما ثَمَّ إِلا الله، لم يكن قصدهُ من هذه العبارة إِسقاطَ الشرائع وإِهمال التكاليف، حاش لله أن يكون هذا قصده)([625]))([626])
أما وحدة الوجود الثانية، والتي يقصدها الصوفية بتعبيراتهم المختلفة، فهي (وحدة الوجود القديم الأزلي، وهو الحق سبحانه، فهو لاشك واحد منزه عن التعدد. ولم يقصدوا بكلامهم الوجود العرضي المتعدد. وهو الكون الحادث، نظراً لأن وجوده مجازي، وفي أصله عَدَمِيٍّ لا يضر ولا ينفع. فالكون معدوم في نفسه، هالك فانٍ في كل لحظة. قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إلا وَجهَهُ [القصص: 88]. وإِنما يُظهره الإِيجاد، ويُثْبتُه الإِمداد. الكائنات ثابتة بإِثباته، وممحوةٌ بأَحدِّيَة ذاته، وإِنما يُمْسكه سر القيومية فيه)([627])
وهم يستشهدون لهذا المعنى بالمعنى الإشاري المبثوث في ثنايا قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، فيفهمون منها أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي أن وجوده قاصر على جهة ربه.
وربما يفيد سياق الآية هذا المعنى، فهو قد ورد في أثناء الدعوة إلى توحيد الله في الدعاء والعبادة، ليقول من جهة لا تتخذ أي ند تدعوه من دون الله فسيأتي اليوم الذي يهلك فيه، فلا يبقى شيء غير الله، وقد تفيد ما يريده خالعو لباس الكون المعدوم من نفي الوجود الذاتي، فلذلك يكون من دعا غير الله، متوجها بالدعاء إلى الوهم، قال  تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]
ولا تنافي بين المعنيين، ولا تصادم بينهما، ولا يلغي أحدهما الآخر([628])، بل إن المعنى الأول مؤسس على المعنى الثاني.
وهكذا يفهم العارفون من كل النصوص الواردة في إثبات وحدانية الحق أو أحديته أو أحقيته:وقد كان النبي a إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال من ضمن دعاء التهجد:(أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق)([629])
ففي قوله a:(أنت الحق) أي واجب الوجود؛ فأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب، فوجود الله هو الوجود الحقيقي إذ وجوده لنفسه، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه، فهو معدوم باعتبار ذاته في كل الأحوال، كما قال الشيخ أبو مدين([630]):
الله قل وذر الوجود وما حوى
 
إن كنت مرتاداً بلوغ كمال  
فالكل دون الله أن حققته 
عدم على التفصيل  والإجمال  
واعلم بأنك  والعوالم  كلها 
لولاه في محو وفي  اضمحلال  
من لا وجود لذاته  من  ذاته 
فوجوده   لولاه عين  محال  
والعارفون بربهم لم  يشهدوا شيئاً 
سوى   المتكبر   المتعال  
ورأوا سواه على الحقيقة هالكــــــــاً       
في الحال والماضي والاستقبال  
وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:
شغل المحب عن الهواء بسره
 
في حب من خلق الهواء وسخره  
والعارفون عقولهم معقولة 
عن كل كون ترتضيه مطهره  
فهم لديه مكرمون وفي الورى 
أحوالهم مجهولة ومستره  
 وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كما ورد في الحديث كلمة لبيد([631]): ألا كل شيء ما خلا الله باطل([632]).
ومن هذا الباب جاءت أسماء الله تعالى التي نص عليها قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  [الحديد: 3]
فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.
وقد قال سيد قطب مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى:(وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى. حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة. فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  [الحديد: 3]
ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء:(الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود)([633])  
ونحب أن نبين هنا أن سيد قطب على الرغم من عدم انتمائه لأي طريقة صوفية، ومع ذلك رمي بسبب هذه الكلمات بالقول بوحدة الوجود.. وكفر بسببها، وبأسباب أخرى سنراها في الفصل الخاص بتكفير السلفية للحركات الإسلامية.
وقد نبه الشيخ عبد القادر عيسى في نهاية بيانه لموقف الصوفية من وحدة الوجود إلى أن الصوفية يتواصون بينهم في عدم الحديث عن أمثال هذه المسائل، لأنها مسائل ذوقية، والعارف هو الذي يعيش الحقيقة لا الذي يجادل بها، فقال: (وعلى كلٌّ فالأَوْلى بالصوفي في هذا الزمان أن يبتعد عن الألفاظ والتعابير التي فيها إِيهام أو غموض أو اشتباه، لئلا يوقع الناس بسوء الظن به، أو تأويل كلامه على غير ما يقصده، ولأن كثيراً من الزنادقة والدخلاء على الصوفية قد تكلموا بمثل هذه العبارات الموهمة والألفاظ المتشابهة، لِيَظْهروا ما يُكِنُّونَه في قلوبهم من عقائد فاسدة، ولِيصلوا بذلك إِلى إِباحة المحرمات، ولِيبرِّرُوا ما يقعون فيه من المنكرات والفواحش، فاختلط الحق بالباطل، وأُخِذَ المؤمن الصادق بجريرة الفاسق المنحرف،  ولهذا سيَّجَ الصوفية بواطنهم وظواهرهم بالشريعة الغرَّاء، وأوْصَوْا تلامذتهم بالتمسك بها قولاً وعملاً وحالاً، فهي عندهم باب الدخول وسلم الوصول، ومَنْ حاد عنها كان من الهالكين)([634])
بعد أن عرفنا تفسير الشيخ عبد القادر عيسى لحقيقة وحدة الوجود ـ كما يفهمها الصوفية، لا كما يفهمها الفلاسفة ـ نذكر الآن تفسير الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق، والذي اهتم بالتصوف كثيرا، إلى جانبه اهتمامه بالفلسفة، وشهادته لها أهميتها الكبرى في هذا المجال.
وقد تعرض لها الشيخ عبد الحليم محمود في مواطن كثيرة من كتبه، وبين اتفاقها مع العقائد الإسلامية، وبعدها عن الفلسفات الإلحادية، ومن ذلك ما ذكره  في كتابه (أبو العباس المرسي) حيث قال: (نريد أن نبدأ مباشرة بملاحظة تزيل  بصورة غير متوقعة  حدة المناقشة في هذا الموضوع. وذلك أننا بصدد (وحدة الوجود) ولسنا بصدد وحدة الموجود. والموجود متعدد: سماء وأرضا. جبالا وبحارا. لونا ورائحة وطعما. متفاوت ثقلا وخفة.. ولم يقل أحد من الصوفية الحقيقيين  ومنهم ابن العربي والحلاج  بوحدة الموجود  وما كان للصوفية، وهم الذروة من المؤمنين أن يقولوا  وحاشاهم بوحدة الموجود)([635])
وبعد أن بدأ هذه النتيجة المهمة التي توضح الفرق بين معنى وحدة الوجود عند الصوفية ومعناها عند الفلاسفة، أخذ يتحدث عن سبب إلصاق تهمة القول بوحدة الوجود الفلسفية بالصوفية، فقال: (وقد تتساءل: من أين اذن أتت الفكرة الخاطئة التي يعتقدها كثير من الناس. من أن الصوفية يقولون بوحدة الموجود؟! وتفسير ذلك لا عسر فيه: إن فريقا من الفلاسفة في الأزمنة القديمة، وفي الأزمنة الحديثة، يقولون بوحدة الموجود. بمعنى أن الله  سبحانه وتعالى عن إفكهم  هو والمخلوقات شيء واحد. قال بذلك هيراقليط في العهد اليوناني: والله عند نهار وليل صيف وشتاء، وفرة وقلة، جامد وسائل  أنه على حد تعبيره  كالنار المعطرة تسمى بإسم العطر الذي يفوح منها تقدس سبحانه وتنزه عما يقول، والله سبحانه وتعالى في رأي (شلي) في العصور الحديثة. هو هذه البسمة الجميلة على شفتي طفل باسم. وهو هذه النسائم العليلة التي تنعشنا ساعة الأصيل. وهو هذه الإشراقة المتألقة بالنجم الهادي في ظلمات الليل، وهو هذه الوردة اليافعة تنفتح وكأنها ابتسامات شفاه جميلة. إنه الجمال إينما وجد، ولكنه أيضا  سبحانه وتعالى  القبح أينما كان. وكما يكون طفلا فيه نضرة، وفيه وسامة. يكون جثة ميت، ويكون دودة تتغذى من جسد ميت. ويكون قبرا يضم بين جدرانه هذه الجثة، وهذا الدود. أستغفرك ربي أوتوب اليك. ولوحدة الوجود  بمعنى وحدة الموجود  أنصار في كل زمان. ولما قال الصوفية.. بالوجود الواحد.. شرح خصومهم الوجود الواحد بالفكرة الفلسفية عن وحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود وفرق كبير بينهما. ولكن الخصومة كثيرا ما ترضى عن التزييف وعن الكذب في سبيل الوصول إلى هدم الخصم. والغاية تبرر الوسيلة كما يقولون)([636])
هذا هو السبب الأول، وهو مرتبط بالاشتراك اللفظي بين المصطلحين: الفلسفي والصوفي مع أن لكل منهما دلالته الخاصة.
وأما الثاني فمرتبط باشتراك لفظي آخر.. ليس بين الصوفية والفلاسفة.. وإنما بين الصوفية والمتكلمين، وقد وضحه الشيخ عبد الحليم محمود بقوله: (وشيء آخر في غاية الأهمية، كان له أثر كبير في الخطأ في فهم فكرة الصوفية عن الوجود الواحد، وهو أن الإمام الأشعري رأي في فلسفته الكلامية أن الوجود هو عين الموجود، ولم يوافقه الكثير من الصوفية على هذه الفكرة الفلسفية. ولم يوافقه الكثير من مفكري الإسلام وفلاسفته على رأيه. وهو رأي فلسفي يخطئ فيه أبو الحسن الأشعري أو يصيب، وما مثله في آرائه الفلسفية الا مثل غيره في هذا الميدان يخطئ تارة ويصيب أخرى، ورأى مخالفوه أن الوجود غير الموجود. وأنه ما به يكون وجود الموجود. ولما قال الصوفية بالوجود الواحد. شرح خصومهم فكرتهم في ضوء رأي الأشعري، دون أن يراعوا مذهبهم ولا رأيهم. ففسروا قولهم بالوجود الواحد على أنه قول بالموجود الواحد)([637])
ثم ذكر سببا ثالثا لذلك الخلط بين قول الصوفية وقول الفلاسفة ـ وهو الذي يتشبت به السلفية في العادة ـ وهو (هذه الكلمات التي تناثرت هنا وهناك مخترعة ملفقة مزيفة، ضالة في معناها، تافهة في قيمتها الفلسفية غريبة على الجو الإسلامي تنادي بصورتها ومعناها: أنها اخترعت تضليلا وافتياتا، إنها هذه الكلمات التي يعزونها الى الحلاج، أو الى غيره.. لا توجد في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه.. لقد اخترعوها اختراعا ثم وضعوها أساسا تدور عليه أحكامهم بالكفر والإضلال. ويكفي أن يتشبث بها انسان فيكون في منطق البحث غير أهل الثقة)([638])
وبناء على هذا راح الشيخ عبد الحليم محمود يوضح مدى عقلانية وشرعية ما يطرحه الصوفية من معان حول وحدة الوجود، فقال: (الوجود الواحد: وهل في الوجود الواحد من شك؟ إنه وجود الله المستغني بذاته عن غيره، وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن، وليس لكائن غيره سبحانه. الوجود من نفسه، انه سبحانه الحالق. وهو البارئ المصور.. وصلة الله بالإنسان إذن: هي أنه سبحانه يمنحه الوجود الذي يريده له في كل لحظة من اللحظات المتتابعة. فشكل حياته في كل بصورة أمده سبحانه وتعالى بها. وصلة الله بكل كائن: إنما هي على هذا النمط)([639])
ثم بين أن معنى وحدة الوجود في النصوص القرآنية هو نفسه معنى القيومية، فالله سبحانه وتعالى (قيوم السموات والأرض قائم على كل نفس بما كسبت، وقائم على كل ذرة من كل خلية وقائم على كل ما هو أصغر من ذلك وما هو أكبر، بحيث لا يعزب عن هيمنته وعن قيوميته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. هذه القيومية أخذ القرآن والسنة يتحدثان عنها في استفاضة مستفيضة ليهزا الإنسان هزة عنيفة، فلا يخلو على الأرض، ولا يتبع هواه، وانما يرتفع ببصره، ويستشرف بكاينه الى الملأ الأعلى مستخلصا نفسه من عبودية المادة ليوحد الله سبحانه وتعالى في عبودية خالصة، وفي إخلاص لا يشوبه شرك من هوى أو شرك من سيطرة المادة أو الغرائز)([640])
وبناء على هذا راح يستعرض آيات القرآن الكريم التي يستدل بها الصوفية عادة في إثبات وحدة الوجود القرآنية التي يؤمنون بها، ومنها قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ  [الواقعة: 58، 59]، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 63، 64]، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 68، 69]
ثم علق على هذه الآيات الكريمة وغيرها مبينا قيمة النظرة إلى الكون بهذه الصفة، بقوله: (هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتا، إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما تدرك ولا تعقل، إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيا كانت، وهمهم كل همهم مصبحين ممسين، إنما هو ملء البطن، أو كنز الذهب والفضة، أو النزاع على جاه، أو العمل لتثبيت سلطان. انهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها، وتحيط بهم آثاره، فلا ينظرون اليها، وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه، فلا يوجههم ذلك الى الحمد لا الى الشكر. إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل في قلوبهم ولا في تفكيرهم ولا في بيئتهم، قليلا ولا كثيرا. والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذي انغمسوا حقا في محيط الإلهية. سبحوا في بحارها، واستشقوا نسائمها الندية، وغمرهم لألاؤها وضياؤها؛ لقد بدأوا بحمد الله وشكره على نعماه وآلائه التي تحيط بهم من جميع أقطارهم، فزادهم نعما وآلاء.. لقد اتقوا الله حق تقاته فعلمهم الله.. لقد اكتفوا بالله هاديا ونصيرا، فهداهم الله إلى صراطه المستقيم، ونصرهم على أنفسهم وعلى أعائدهم)([641])
وبناء على هذا فإن الشرك عند الصوفية ينطلق من هذه النظرة للكون، واعتقاد وجوده الذاتي القائم بنفسه، يقول عبد الحليم محمود مبينا مدى سمو الفهم الصوفي للتوحيد مقارنة بغيرهم: (.. وأخذوا شيئا فشيئا يحاولون تحقيق التوحيد: قولا وعقيدة، وذوقا وتحقيقا، وأخذوا يرون في [أشهد أن لا إله إلا الله] معاني لا يتطلع إليها غيرهم، وبدأ معنى الشرك يتضح لهم بصورة لا تخطر على بال اللاهين الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم، وبدأوا يحطمون الشرك يحطمون أصنامه وأوهامه. ومن النفس والهوى والشيطان، ومن الغرائز الحيوانية، والغرائز الإنسانية. وانهار الشرك حتى همسات الفؤاد لقد انهار الشرك الواضح، وانهار الشرك الخفي،  وثبت في أذواقهم واستقر في أحوالهم ومقاماتهم أن (لا إله إلا الله) وأنه: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]، وأينما كانوا فالله معهم وهو أقرب اليهم من حبل الوريد. وهو أقرب اليهم من جلسائهم ومعاشريهم. انه يغمر كيانهم، فلا يرون غيره سبحانه، لا يرون غير قيوم السموات والأرض، ولا يرون غيره مصرفا لليسير من الأمور وللعظيم منها، ولا يرون غيره مالكا للملك.. لقد أصبحوا ربانيين، وأصبح الله في بصرهم وسمعهم وجوارحهم وفي قلوبهم من قبل ذلك ومن بعده. يشغله كله فلا يدع فيه مكانا للأغيار)([642])
وبناء على هذا كانت أساليب الصوفية في عرض الحقائق العقدية مختلفة عن سائر المناهج لأنهم في تعبيراتهم التي أساء السلفية فهمها، وكفروهم على أساسها (يشرحون أن الله سبحانه وتعالى الممد الوجود لكل موجود. إنه يمد القائم بالقيام، ويمد الماشيء بالمشي، والمتحرك بالحركة. إنه  على حد تعبير أهل السنة والأشاعرة ـ الذي يقطع، وليست السكين هي التي تقطع. وهو الذي يحرق وليست النار هي التي تحرق، وهو الذي حينما يريد، يقول للنار: كوني بردا وسلاما، فتكون بردا وسلاما، ومهما عبر الصوفية في هذا الميدان عن الوجود الواحد، فقالوا في ذلك فإنهم سوف لا يبلغون المدى الذي بلغته تلك الآية الكريمة، التي تمثل في روعة رائعة الهيمنة المهيمنة، والاستغراق القاهر، والجلال الشامل؛ والتي لا تعني وحدة متحدة، ولا اتحادا متطابقا بين الحالق وبين المخلوق، أو العابد والمعبود، والآية هي ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد: 3])([643])
هذه ـ ببساطة ـ مفاهيم الصوفية حول وحدة الوجود ـ كما يوضحها أعلامهم الكبار، بل كما يشير إليها القرآن الكريم نفسه، وكان الأجدى بالسلفية قبل أن يصدروا أحكامهم القاسية بتكفير كل من يقول بهذا المعنى أن يراجعوا هؤلاء، ليفهموا منهم معناها، فخير من يعبر عن المرء لسانه.
ولكنهم ـ حتى لو ذهبوا إليهم ـ فسيظلون على تكفيرهم لهم، لأن المشكلة عندهم ليست في هذا المعنى، وإنما المشكلة الكبرى في تنزيه الله وعدم القول بتجسيمه وتقييده وتحديده.. ولهذا فإنهم يضعون المنزهة جميعا بمدارسهم  الكلامية والصوفية في سلة واحدة، لأن أول العقيدة في الله عندهم هي أن الكون شطران: شطر يسكنه الله، وهو العرش وما علا.. وشطر يسكنه الخلق، وهو ما دون العرش إلى الأرض السفلى([644]).
من المميزات التي تميز بها الصوفية عن سائر المدارس الإسلامية اهتمامهم الشديد بالصلة الروحية أو الوجدانية أو العاطفية بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولهذا كانت جميع الطرق الصوفية عبارة عن تجارب مختلفة تحاول أن تختصر للسالك والمريد الطريق إلى هذا التواصل.
فلا يكفي في التواصل الروحي مع الله ـ عند الصوفية ـ ممارسة الشعائر، ولا أداء التكاليف الظاهرة، فكل ذلك جميل، ولكنه لا يكفي.. بل الذي يجب قبل ذلك وبعده هو تلك المحبة والشوق والتطلع الروحي للتواصل مع الله.
وقد كان من أساليبهم في تربية المريدين على هذه المعاني السامية التعبير عنها بما يرغب فيها، وبما أن التعبير عن المعاني الوجدانية لا تجدي فيه طريقة المتكلمين ولا الفلاسفة، فقد كان المنهج الأسهل لذلك هو التعبير الشاعري عنها.
ذلك أنه بناء على صعوبة التعبير عن المعاني الوجدانية التي يتحقق بها  السالك، فإنه يلجأ إلى اللغة الرمزية أو القصصية أو الشعرية، كما فعل أكثر العرفاء المسلمون كابن الفارض وجلال الدين الرومي والأمير عبد القادر، والشيخ ابن عليوة، والشيخ أبو العزائم، وغيرهم من مشايخ الصوفية.
ومن الأمثلة على ذلك توظيفهم لاسم ليلى كتعبير رمزي للذات الإلهية، كما قال الشيخ ابن عليوة في موشحة المشهور والذي لا يزال تردد في الحضرات الصوفية (دنوت من حي ليلى)([645]):
دنوت من حي ليلى  
يا له من صوت يحلو
  
رضت عني جذبتني
  
أنستني خاطبتني
  
قربت ذاتها مني
  
أدهشتني تيهتنـــــي
  لما سمعت نداها
  أودُّ لا يتناهى
  أدخلتني لحماها
  أجلستني بحذاها
  رفعت عني رداها
  حيرتني في بهاهـا
وليلي عنده ــ كما هي عند غيره من الصوفية ــ رمز للذات المقدسة، وكأن العاشق هو قيس ليصور لنا تعلقه وهيامه بها، بحيث يستحضر القارئ أو المستمع صورة (قيس) ذلك العاشق الولهان.
وقد نجح الشيخ ابن عليوة في نقل هذه المعاني الحسية من الغزل العادي إلى الغزل الإلهي، بحيث أضحت معاني روحية صرفة، فحب ليلى هو رمز الحضرة الإلهية، والقرب أو الدنو من ليلى هو القرب من ذات الله تعالى، ورفع الرداء رمز لانكشاف الحجاب، وكذا ألفاظ الأنس والحضور الغيبية، ليست إلا رموزا تعكس لنا بصدق، شوق الشاعر وتعلقه بالله وحده، وانقطاع قلبه عن كل شيء إلا عن محبته([646]).
بل إن الصوفية لا يعتبرون من ليلى ومثيلاتها مجرد رموز، بل إنهم يذكرون أن قيسا في الحقيقة لم يكن يحب مظهر ليلى، وإنما كان يحب الحقيقة المختفية وراءها، كما عبر جلال الدين الرومي عن ذلك بقوله: (إن كل ضروب الرغبة والميل والمحبة والشفقة التي يكنها الناس لأنواع الأشياء تعد ضروبا من محبة الحق والتوق إليه.. وتلك الأشياء جميعا حجب، وعندما يمضي الناس من هذا العالم ويرون ذلك الملك من دون هذه الحجب يعلمون أن هذه الأشياء جميعا لم تكن سوى حجب وأغظية، مطلوبهم على الحقيقة ذلك الأوحد)([647])
لكن هذه اللغة لم تعجب السلفية أو لم يفهموها، فلذلك راحوا يرمون الصوفية نتيجية لذلك بكل أنواع التهم كالحلول والاتحاد وغيرها.
ومن العجب أن بعضهم يجمع بين رمي الصوفية بالحلول والاتحاد وبين رميهم بوحدة الوجود بمفهومها الفلسفي، وهذا هو التناقض بعينه، ذلك أن الحلول والاتحاد يستلزم ذاتين منفصلتين يحلان ببعضهما، أو يتحدان، بينما وحدة الوجود تعنى وجود ذات واحدة.
وقد رد الصوفية على هذه التهم الموجهة لها بصنوف من الاستدلالات منها قول الشيخ عبد القادر عيسى عند عرضه لهذه الشبهة: (إِن من أهم ما يتحامل به المغرضون على السادة الصوفية اتهامهم جهلاً وزوراً بأنهم يقولون بالحلول والاتحاد، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد حلَّ في جميع أجزاء الكون؛ في البحار والجبال والصخور والأشجار والإِنسان والحيوان.. ولاشك أن هذا القول كفر صريح يخالف عقائد الأمة. وما كان للصوفية وهم المتحققون بالإِسلام والإِيمان والإِحسان أن ينزلقوا إِلى هذا الدرك من الضلال والكفر، وما ينبغي لمؤمن منصف أن يرميهم بهذا الكفر جزافاً دون تمحيص أو تثبت، ومن غير أن يفهم مرادهم، ويطلع على عقائدهم الحقة التي ذكروها صريحة واضحة في أُمهات كتبهم، كالفتوحات المكية، وإِحياء علوم الدين، والرسالة القشيرية وغيرها)([648])
  وبناء على هذا راح يستعرض ردود الصوفية على هذه التهمة، ومن ذلك قول الشيخ عبد الوهاب الشعراني: (ولعمري إِذا كان عُبَّاد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله؛ بل قالوا: ما نعبدهم إِلا ليقربونا إِلى الله زلفى، فكيف يُظَن بأولياء الله تعالى أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حدٌّ ما تتعقله العقول الضعيفة؟! هذا كالمحال في حقهم رضي الله تعالى عنهم، إِذ ما مِن وليٌّ إِلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط)([649])
  والمنطق العقلي يؤكد هذا المعنى فـ (الحلول والاتحاد لا يكون إِلا بالأجناس، والله تعالى ليس بجنس حتى يحلَّ بالأجناس، وكيف يحل القديم في الحادث، والخالق في المخلوق!؟ إِن كان حلولَ عَرَض في جوهر فالله تعالى ليس عرضاً، وإِن كان حلولَ جوهر في جوهر فليس الله تعالى جوهراً، وبما أن الحلول والاتحاد بين المخلوقات محال؛ إِذ لا يمكن أن يصير رجلان رجلاً واحداً لتباينهما في الذات؛ فالتباين بين الخالق والمخلوق، وبين الصانع والصنعة، وبين الواجب الوجود والممكن الحادث أعظم وأولى لتباين الحقيقتين)([650])
  ولهذا فقد نص الصوفية جميعا باختلاف مناهجهم على استحالة الحلول والاتحاد، كما قال الشيخ محي الدين بن عربي في عقيدته الصغرى: (تعالى الحق أن تحله الحوادث أو يحلها)([651])
وقال في عقيدته الوسطى: (اعلم أن الله تعالى واحد بالإِجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد في شيء)([652])
  وقال في باب الأسرار: (لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف من هذا القول حاشاه، إِنما يقول: أنا العبد الذليل في المسير والمقيل)([653])
وقال في باب الأسرار: (من قال بالحلول فهو معلول، فإِن القول بالحلول مرض لا يزول، وما قال بالاتحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول)([654]) 
وقال: (لو صحَّ أن يرقى الإِنسان عن إِنسانيته، والمَلكُ عن ملكيته، ويتحد بخالقه تعالى، لصحَّ انقلاب الحقائق، وخرج الإِله عن كونه إِلهاً، وصار الحق خلقاً، والخلق حقاً، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجباً، فلا سبيل إِلى قلب الحقائق أبداً)([655])
وقد عبر عن ذلك شعرا، فقال:
ودعْ مقالةَ قوم قال عالمُهم  ‍
الاتحادُ مُحُالٌ لا يقول به  ‍
وعن حقيقتِه وعن شريعتِه
  بأنَّه بالإِله الواحد اتحَدا
  إِلا جهولٌ به عن عقلهِ شَرَدَا
  فاعبدْ إِلهَك لا تشركْ به أَحَدا
واستدل على ذلك عقلا بقوله: (من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم، أن تعلم عقلاً أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إِليه بذاتها، وإِنما كان القمر محلاً لها، فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه)([656])
والصوفية يردون على خصومهم من السلفية عند ذكرهم لهذه التهمة بأقوال ابن تيمية الكثيرة التي ينفي فيها عن الصوفية هذه التهمة رغم مخاصمته الشديدة لهم، كما قال في فتاويه: (ليس أحد من أهل المعرفة بالله، يعتقد حلول الرب تعالى به أو بغيره من المخلوقات، ولا اتحاده به، وإِن سُمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية، الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية)([657])
وقال: (كل المشايخ الذين يُقتدَى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات. وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إِفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا)([658])
بل إن ابن تيمية يذكر ما يورده خصوم السلفية من قول بعضهم: (أنا مَنْ أهوى    ومَنْ أهوى أنا) بقوله: (فهذا إِنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبّين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل؛ وهذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إِذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:غبتُ بكَ عنِّي    فظننْتُ أنَّك أنِّي.. فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ)([659]) 
وهكذا تولى ابن تيمية نفسه الدفاع عن الصوفية في هذا رغم خصومته الشديدة لهم، ولكن السلفية ـ للأسف ـ لا يقبلون من ابن تيمية هذا، بل يتمنون لو أنه لم يكتبه كما سنرى ذلك لاحقا.
من العجائب التي وقع فيها العقل والتراث السلفي هو ذلك الهجوم الشديد على تلك القلوب الطاهرة والأرواح السامية الممتلئة حبا لنبيها صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تمثل صدق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)([660])
وفي حديث آخر أن النبي a قال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية - يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)([661])
وفي حديث آخر أن النبي a قال: (ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله)([662])
لكن السلفية أولوا كل هذه النصوص، فاعتبروا المحبة مجرد الاتباع، وقصروا الاتباع على بعض الظواهر التي يخالفون فيها سائر المسلمين.. ولهذا صار الحب عندهم قاصرا على ما يسمونه تطبيق السنة.. وتطبيق السنة عندهم قاصر على تلك الظواهر التي ترتبط بهندامهم وحركاتهم وأكلهم وشربهم.. أما الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعلق به والحنين إليه، فيحذرون منه خشية أن يجر إلى الشرك..
ومن هذا الباب.. باب التعلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتقاد منزلته عند الله، توجهت الأمة منذ عصورها الأولى إلى الاستشفاع والتوسل والاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم كلما احتاجت إلى ذلك.. ذلك أن الله تعالى أخبر أن من حكمته وسنته في خلقه قبول شفاعة الشافعين من المقربين إليه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أولى بهذه الشفاعة من غيره، وفي أكثر المواقف حساسية، وهو ذلك الموقف العظيم يوم القيامة.. فمن شفع يوم القيامة لا يحال عليه أن يشفع في الدنيا.. لأن الدنيا والآخرة مرتبتان فقط، والقوانين الجارية فيهما واحدة.. فإن كانت الاستغاثة والتوسل شركا في الدنيا، فهي كذلك في الآخرة.. وإن لم تكن شركا في الآخرة ـ كما ورد في الأحاديث الشريفة ـ فلن تكون أيضا شركا في الدنيا.
بالإضافة إلى ذلك فإن موت رسول الله a لا يغاير حياته إلا في ناحية واحدة، وهي انقطاع الوحي، أما ما عداه فإن حياته a لاشك فيها، بل تدل عليها كل الأدلة.. فإن كان الشهداء، وهم أدنى بآلاف آلاف الدرجات من رسول الله a قد نفى الله موتهم، ونهى عن اعتقاد ذلك، فقال تعالى:﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران:169)، فكيف برسول الله a وهو سيد الشهداء والعارفين والنبيين؟
ثم إن رسول الله a أخبر بأن أعمال أمته تعرض عليه، وأنه يدعو لهم، فقال a:(حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم)([663])
فإن شك في هذا الحديث، فقد قال تعالى:﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:105)
فإن قيل: بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة، فنقول: إن كان الله تعالى أخبر بدعوة الملائكة ـ عليهم السلام ـ للمؤمنين، كما قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر:7)، فإن كان هذا مع حملة العرش، فكيف برسول الله a، ومع أمته التي كلف بها، وهو أحرص الخلق عليها؟
وقد أخبر a أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، فقال a:(إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)([664])
فإن جاز هذا للعشائر والأقارب، وهم أفراد من الأمة، فكيف لا يجوز لرسول الله a، وهو أحن على أمته من آبائهم، وأمهاتهم، وقد قال تعالى:﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: 6)
بالإضافة إلى هذا كله، فإن الشرك الحقيقي هو اعتقاد التأثير لرسول الله a في حال حياته، وعدم التأثير بعد موته.. لأن المؤمن يدرك أن الله هو الفاعل والمؤثر مطلقا.. وأن دور رسول الله a هو الوساطة.. أي أنه وسيلة للفضل الإلهي.. ولذلك فإن هذه اللفظة وحدها [الوسيلة] تدل كل عاقل على التوحيد الحقيقي الذي تدل عليه السنة النبوية.. لا التوحيد الذي يدعو إليه السلفية، والذي يختلط بالوثنية والمنطق الوثني.
وهكذا كان ذلك التعظيم للحضرة النبوية المقدسة هو الدافع للمؤمنين لزيارة القبر الشريف الذي هو أطهر بقعة وأعظم بقعة على الأرض، والذي وقف منه السلفية موقفا متشددا خالفوا به سائر المسلمين، فاعتبروا الزيارة التي تحن لها القلوب شركا، فأصبح المشتاقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتحدثون إليه بأشواقهم مشركين.
وبناء على هذه كله ظهر ما يسمى بأدب المديح، وهو جزء بسيط من حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، فالأمة التي لا تمدح نبيها ولا تعظمه ولا تملأ قلوب أجيالها شوقا إليه، أمة لا خير فيها.. لأن ذلك المديح لا تعود فائدته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم وأكرم.. ولكن فائدته لهذه الأمة جميعا، حتى تربى أجيالها على محبته والشوق إليه والارتباط به، لأن ذلك هو الدين الحقيقي.. لا دين المظاهر والطقوس.
لكن السلفية للأسف، والذين سكتوا على أولئك الشعراء الذين مدحوا السلاطين الذين يعظمونهم، فلم ينبسوا تجاههم ببنت كلمة، ولم يبدعوهم ولم يكفروهم تجرأوا على تكفير كل من يقول قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يسمعها متأثرا بها وقابلا لها.. ولا يعفون من الكفر إلا من سمعها وأنكرها وكفر صاحبها وحذر منها.
وسنذكر هنا نموذجين عن مواقف السلفية من شاعرين كبيرين اختصا بالمديح النبوي، وانتشرت أشعارهما، فكانت تنشد في المجالس المختلفة، وتقبلها الأمة جميعا بمذاهبها المختلفة، ما عدا الفئة الباغية التي لم تكتف بأن تصم آذانها عن سماعها، بل راحت تحذر منها، كما قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 26]، بل راحت تضيف إلى ذلك تكفير الشاعر وتكفير المنشد وتكفير كل من استمع ورضي.. ثم يقولون بعد ذلك: نحن لسنا مكفرين.. ولو أنه لم يكن من قوانين تكفيرهم إلا هذا لشمل الأمة جميعا.
الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق