لم يكتف السلفية من أتباع ابن عبد الوهاب بتكفير عامة الناس من أهل البلاد المختلفة، بل راحوا يكفرون علماء الأمة الكبار الذين عاصروهم، واعتبروهم علماء شرك، وقدوتهم في ذلك شيخهم النجدي محمد بن عبد الوهاب الذي صرح في مواضع كثيرة من رسائله وكتبه بتكفير علماء عصره، ومن ذلك قوله: (فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه..وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع؛ ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر؛ وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد)([356])
ومثله قوله في كشف الشبهات: (الرد على أهل الباطل إجمالا وتفصيلا، وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا)([357])
وهو يقصد بالمشركين الذين احتجوا عليه علماء الأمة من جميع المذاهب الفقهية، والذين اجتمعوا على الرد على تلك الأحكام المتشددة التي وقفها هو وسنده من آل سعود، وألفوا الكتب في ذلك.
وقد قال الشيخ حسن بن فرحان المالكي تعليقا على ذلك النص: (يا ترى من هم هؤلاء المشركون الذين يغوصون في أدلة الكتاب والسنة مع فصاحة وعلم وحجج؟! أليسوا علماء مختلفين معه في دعوى كفر مخالفيه من علماء وعوام؟ لا ريب أن هذا فيه تكفير صريح للمخالفين له ممن نسميهم (خصوم الدعوة) أو (أعداء التوحيد) أو (أعداء الإسلام)، وهذا ظلم، لأن الشيخ كان يرد على مسلمين ولم يكن يرد على كفار ولا مشركين، وهذه رسائله وكتبه ليس فيها تسمية لمشرك ولا كافر وإنما فيها تسمية لعلماء المسلمين في عصره كابن فيروز، ومربد التميمي، وابني سحيم سليمان وعبد الله، وعبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن سليمان المدني، وعبد الله بن داود الزبيري، والحداد الحضرمي، وسليمان بن عبد الوهاب، وابن عفالق، والقاضي طالب الحميضي، وأحمد بن يحي، وصالح بن عبد الله، وابن مطلق، وغيرهم من العلماء الذين يطلق عليهم (المشركون في زماننا)([358])
وقد ذكر الشيخ المالكي ـ وهو الذي تربى في مدارس الوهابية ـ استمرار هذا السيل من التكفير من لدن أتباع ابن عبد الوهاب إلى وقتنا المعاصر، فقال: (وقد استمر علماء الدعوة بعده في تكفير أو تبديع يكاد يصل للتكفير لعدد آخر من علماء المسلمين –أخطأوا ولم يكفروا- في عهد الدولة السعودية الثانية كابن سلوم وعثمان بن سند وابن منصور وابن حميد وأحمد بن دحلان المكي وداود بن جرجيس وغيرهم.. وفي القرن الرابع عشر الهجري استمر تكفيرنا وتبديعنا لعلماء معاصرين – أخطأوا كما نخطيء ولم يكفروا- كالكوثري، والدجوي، وشلتوت، وأبي زهرة، والغزالي، والقرضاوي، والطنطاوي، والبوطي، والغماري، والكبيسي، وغيرهم، ولو نستطيع لقلنا عنهم (المشركون في زماننا) وقد قيل!!)([359])
وقد أشار الشيخ المالكي إلى أن الحائل دون الهيئات الرسمية من علماء السعودية وغيرها وتكفير كل من عداهم من الأمة هو السلطة السياسية التي لا ترغب في المزيد من الصراعات، ولذلك توظف ما تشاء من تلك التكفيرات مع من تراهم معادين لها فقط دون غيرهم، فقال: (من المؤسف أنه لا يوقف تكفيرنا وتبديعنا للآخرين إلا السلطة أو العجز، ولولاهما لما أبقينا أحداً إلا وصمناه بكفر أو بدعة مكفرة! مع أن الواجب أن يكون هذا التورع عن التكفير والتبديع من العلماء لا من الحكام، وفي كل الأوقات لا وقت العجز، لأن العلماء يعرفون عظمة حق المسلم وتحريم دمه وماله وعرضه)([360])
وقد أشار الصنعاني صاحب سبل السلام ـ وهو من المعاصرين لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ إلى تلك التكفيرات الكثيرة التي كانت توزع على الأمة جميعا، وما يتبعها من السلب والنهب والقتل، فقال: (..وكان قد تقدمه في الوصول إلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها، من سفك الدماء، ونهبه الأموال، وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال، وتكفير الأمة المحمدية في جميع الأقطار، فبقي معنا تَرَدُّدٌ فيما نقله الشيخ الفاضل عبد الرحمن، حتى وصل الشيخ العالم مربد بن أحمد وله نباهة، ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفيره أهل الإيمان، وقتلهم ونهبهم، وحقق لنا أقواله وأفعاله وأحواله، فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا، ولم يمعن النظر، ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية، ويدله على العلوم النافعة ويفقهه فيها...ولما حقق لنا أحواله، ورأينا في الرسالة أقواله، وذكر لي أنه إنما عَظُمَ شأنه بوصول الأبيات التي وجهنا إليه، وأنه يتعين علنيا نقض ما قدمناه، وحَلُّ ما أبرمناه)([361])
ومثله صرح الشوكاني ـ وهو ممن يثق فيه السلفية ويعتمدون على كتبه، مثله مثل الصنعاني ـ فقد قال: (ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام، ولقد أخبرنى أمير حجاج اليمن السيد محمد بن حسين المراجل الكبسى أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن بأنهم كفار وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم فما تخلصوا منه إلا بجهد جهيد)([362])
ونحب أن نشير هنا من باب المثال والنموذج إلى العلماء الذين قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتكفيرهم صراحة، بما ادعاه عليهم من الوقوع في الشرك الجلي، ويمكن أن يقاس عليهم غيرهم ممن هم مثلهم من جميع علماء الأمة، وما أكثرهم، بل كل العلماء في ذلك الحين وفي أحيان كثيرة من التاريخ كانوا على تلك الشاكلة، يقولون بالتوسل والتبرك وغيرها مما يعتبرها الوهابية شركا جليا.
فمن هؤلاء العلماء العلامة الكبير محمد بن فيروز الحنبلي، الذين لم تشفع له حنبليته عند الوهابية، فقد قال فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (.. وأيضا مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:
أيا قبر النبي وصاحبيه ووامصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب
ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال، خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193])([363])
وصرح بذلك في موضع آخر، فقال في رسالة كتبها إلى أحمد بن عبد الكريم جاء فيها: (..وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام. وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه. بل العبارة صريحة واضحة، في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرا ظاهرا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما؛ هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها)([364])
ونلاحظ ان ابن عبد الوهاب يضيف ـ كالسلفية سلفهم وخلفهم ـ ناقضا جديدا للإيمان، يسمونه [سب دين الرسل]، وهم يقصدون منه انتقاد السلفية أو أهل الحديث.. لأنهم يعتبرون أنفسهم الممثل الشرعي الوحيد للإسلام، بل للرسل جميعا.. ولذلك لهم الحق في أن ينتقدوا العالم أجمع، ولا يحق لأحد أن ينتقدهم، ومن تجرأ وفعل صار كافرا، بل أكفر من اليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى لا يعرفون أهل الحديث، ولا ينتقدونهم.
ونحب أن نذكر هنا ترجمة مختصرة لابن فيروز ننقلها من كتاب من كتب الحنابلة، حتى نعرف مدى الجرأة التي كان يمتلكها ابن عبد الوهاب وغيره من السلفية.
فقد قال ابن حميد المكي في كتابه [السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة]: (محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز، التميمي،الأحسائي، العلامة الفهامة،كاشف المعضلات، وموضح المشكلات،و محرر أنواع العلوم، ومقرر المنقول والمعقول، بالمنطوق والمفهوم.. وضع الله فيه من سرعة الفهم وقوة الإدراك وبطء النسيان وشدة الرغبة والحرص والفتوح الباطنة والظاهرة ما يتعجب منه فحفظ القرآن وهو صغير، وحفظ كثيراًً من الكتب منها: مختصر المقنع في الفقه وألفية العراقي في المصطلح وألفية ابن مالك في النحو.. كأن العلوم نصب عينيه أخذ الحديث عن علماء عصره وكذا الفقه والنحو والمعاني والبيان وسائر الفنون وأجازوه بإجازات مطولة ومختصرة وأثنوا عليه الثناء البليغ، ومهر في جميع هذه الفنون وتصدر للتدريس في جميعها وأفتى في حياة شيوخه وكتبوا على أجوبته وفتاواه بالمدح والثناء.. ونفع الله به نفعاًً جماًً، وصار يرحل إليه من جميع الأقطار حتى أنه يجتمع عنده من الطلبة نحو الخمسين وكان يقو م بكفاية أكثرهم ويتفقد أمورهم في جميع ما يلزم لهم كأنهم أولاد صلبه ولا يمَكِّن أحداًً ممن يأتي عنده من الأجانب لطلب العلم أن ينفق من كيسه ولو كان غنيا ويقول: (من لم ينتفع بطعامنا لا ينتفع بكلامنا)، فوضع الله له القبول في أقطار الأرض وكاتبه علماء الآفاق من البلاد الشاسعة والمدائح وطلب الإجازات والدعاء، ونجب خلق ممن قرأ عليه فكان أهل البلدان يأتون إليه ويطلبون أن يرسل معهم واحدا منهم يفقههم في الدين ويعظهم ويقضي ويدرس ويصلي بهم ويخطب فيرسل معهم من استحسن فلا يخالفه التلميذ في شيء أصلا بل كانت الطلبة يمتثلون منه أدنى إشارة ويعدونها أسنى بشارة.. وكان رحمه الله كثير العبادة والذكر، سخي النفس كثير الصدقات ولا يرد مسكينا وثب إليه وكان يدان على ذمته ويتصدق وعذل في ذلك فلم يلتفت لعاذله ويأتيه رزقه من حيث لم يحتسب، عليه أنوار زاهرة وآثار للعلم والصلاح ظـاهرة، له حظ من قيام الليل، مهيبا معظما عند الملوك فمن دونهم مقبول الكلـمة نافـذ الإشـارة، لا يخاف في الله لومة لائم)([365]) إلى آخر ما ورد في ترجمته، والتي تظهره مكانته الكبيرة في ذلك العصر، بالإضافة لعلمه وخلقه وتدينه.. ولكن كل ذلك لم يجعل لحمه مسموما يحرم التعرض له، كما يذكر السلفية عندما ينتقد أي علم من أعلامهم، وليتهم اكتفوا بنقده، بل أضافوا إلى ذلك تكفيره.
ولا يزال السلفية المعاصرون يصرون على ما قال شيخهم، ويدافعون عنه، وقد قال بعضهم في تبرير تكفير الشيخ لابن فيروز: (ولكن هذا الخصم - محمد بن فيروز - قد بلغت محاربته ومناهضته لهذه الدعوة حداً لا يوصف، لذا مدحه أحد خصوم هذه الدعوة وهو الحداد، حيث قال مادحاً لابن فيروز: (ولله در الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي لما قام مجتهداً ابتغاء مرضاة الله في إطفاء بدعة هذا الخبيث، كلما رأى وجهاً لبعض أهل المذاهب الأربعة، تبع ذلك الوجه إذا كان مخالفاً لما يعلمه أو يقوله ابن عبد الوهاب البدعي)(3)، وبلغ من كيد ابن فيروز أنه – كما قال ابن حميد في السحب الوابلة - (كاتب السلطان عبد الحميد خان يستنجده على قتال البغاة الخارجين بنجد)([366])
ومن العلماء الذين صرح ابن عبد الوهاب بتكفيرهم العلامة الجليل عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175هـ)، فقد قال ابن عبد الوهاب في بعض رسائله: (وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا؛ ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله)([367])
فهو في هذا النص لا يكفر الشيخ المويس فقط، بل يكفر كل من تبكر بقبة أبي طالب التي هدمها الوهابية، وتصوروا أنهم بهدمها هدموا اللات والعزى.
وهكذا صرح مرة أخرى، فقال: (إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها)([368])
وهو يقصد هنا فتاوى العلماء من غير الوهابية للبلاد التي يسكنون فيها بالدفاع عن أنفسهم وبلادهم وآثارهم من هجمات الوهابيين، والتي اعتبرها ابن عبد الوهاب ردة، بل اعتبر أنه يكفي عشر ما فعلوه ليتهموا بالردة.. فكفرهم ـ كما يصرح ـ مضاعف.
وقد قال في بيان ذلك في موضع آخر: (فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل باب حكم المرتد في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله؛ منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في الإقناع على ردته؛ ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب. فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني؛ وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى، عندنا، في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، ومن أهله؛ وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه)([369])، فقد اعتبر مجرد ردود العلماء على الوهابية، وإنكارهم لتكفيرهم للأمة إنكارا للدين نفسه.
وهكذا ذكر الدكتور عبد الله العثيمين في تحليله لرسائل ابن عبد الوهاب الشخصية، أن العلماء الذين واجهوه وانتقدوه كانوا كلهم محل طعن منه بسبب هذا الموقف، فقال(واضح من رسائل الشيخ (الشخصية) أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالماً أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم – أيضاً – من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى)(1)
ونحب أن نذكر هنا كما ذكرنا سابقا أن هذا العلامة الجليل الذين ناله سيف التكفير السلفي لم يكن من الهند أو من مصر، بل كان من علماء نجد التي كان ينتشر فيها المذهب الحنبلي، والذي لم يرحمه السلفية كما لم يرحموا سائر المذاهب، فقد ورد في ترجمته في كتاب [علماء نجد للبسام]: (عبد الله بن عيسى الشهير بالمويسي -تصغير موسى- ولد في بلدة حرمة من إحدى بلدان سدير في نجد، ونشأ فيها وقرأ على مشايخ نجد، ثم ارتحل إلى دمشق للأخذ عن علمائها فأخذ عنهم، ومن أشهرهم العلامة محمد السفاريني المشهور.. وجد واجتهد حتى مهر في الفقه ثم عاد إلى وطنه..و المترجم بعد عودته من دمشق جلس في بلاده يفتي ويدرس وصار معتمد أهل بلده، ثم ولي قضاء بلدة حرمة إحدى بلدان سدير، فمكث في قضائها حتى توفي فيها سنة 1175هـ)([370])
ولا زال السلفية إلى اليوم يصرون على تكفير هذا العلم الجليل مع أن أقواله وآراءه التي كفر على أساسها لا تختلف عن سائر أقوال وآراء كل العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم.. فكيف بعد ذلك يذكرون أنهم لا يكفرون.. وهل يصح أن يكفر شخص لسبب، ثم يعفى عن آخر يرتكب نفس السبب؟.. وهل هذا الأمر دين، أم أنه مزاج شخصي، فيكفرون من شاءوا، متى شاءوا، ويسكتون على من شاءوا متى شاءوا؟
ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، وهو عندهم من المعتدلين، بل من المميعين للمنهج السلفي ـ كما يذكرون ـ فقد قال في كتابه الذي خصصه للدفاع عن ابن عبد الوهاب: (ومن أشد خصوم هذه الدعوة وأكثرهم عناداً ومناهضة، عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175هـ)، ومعاداته وخصومته ظاهرة جلية - من خلال رسائل الشيخ.. يقول ابن حميد في (السحب الوابلة)(وكان ممن أنكر على ابن عبد الوهاب وعلى أتباعه في ابتداء دعوتهم)([371])
وهذا تبرير عجيب، فهل أصبحت كتابة الكتب والرسائل التي تنتصر لعامة المسلمين، وتبين أن ما هم فيه ليس شركا، تهمة تصل بصاحبها إلى الشرك والردة.. فما دام الأمر كذلك، فلم يتوقف هذا الكاتب نفسه عن تكفير من عداه من العلماء، وقد وقعوا في نفس ما وقع فيه.. ولكن التقية تدعوهم إلى ذلك، وإلا فإنهم في قرارة نفوسهم وفي بطون كتبهم وفي خطبهم ودروسهم ومقرراتهم ليسوا سوى مكفرة لكل الأمة من دون اسثناء..
ومن الأعلام الذين نص ابن عبد الوهاب على تكفيره لهم الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق (ت 1164هـ)، وقد كان من كبار العلماء في ذلك الوقت، وكان ماهرا ـ كما يذكر مترجموه ـ (في الفقه والأصول والعربية وعلم الحساب والهيئة وتوابعها، واشتهر بتحقيق علم الفلك وتدقيقه في عصره فما بعده، وألف فيه التآليف البديعة.. وكان عالما عاملا فاضلا كاملا محققا ماهرا)([372])
وسبب تكفيره له كما يذكر السلفية المعاصرون ـ في دفاعهم عن ابن عبد الوهاب ـ هو (رسالة وجهها إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان عنوانها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، وقد تضمنت هذه الرسالة أسئلة تعجيزية تهكمية، وبأسلوب يحمل طابع التحدي والغرور، وقد قصد بها ابن عفالق الطعن والتوهين في محمد بن عبد الوهاب، والنيل منه والاستخفاف به - كما هو ظاهر في هذه الرسالة -، كما أن هذه الأسئلة – من خلال الاطلاع عليها - ليست وكذا الجواب عليها من أصول العلم وواجباته، بل أقرب ما تكون إلى فضول العلم وترفه.. ومن هذه الأسئلة – المترفة – التي وجهها ابن عفالق إلى الشيخ لكي يجيب عليها، قول ابن عفالق: (وبعد فأسألك عن قوله تعالى: ﴿والعاديات …C إلى آخر السورة هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية، وكم فيها من مجاز مرسل ومجاز مركب، واستعارة تحقيقية، واستعارة وثاقية واستعارة عنادية واستعارة عامية واستعارة خاصية واستعارة أصلية واستعارة تبعية واستعارة مطلقة واستعارة مجردة واستعارة مرشحة وموضع الترشيح والتجريد فيها وموضع الاستعارة بالكناية والاستعارة التخيلية وما فيها من التشبيه الملفوف والمفروق والمفرد والمركب والتشبيه المجمل والمفصل. إلى آخر هذه الأسئلة)، كما ألفّ ابن عفالق رسالة وجهها إلى عثمان بن معمر أمير العيينة يشككه في دعوة الشيخ، ويطعن فيها حتى يتخلى عثمان عن نصرتها – في بادئ الأمر -، وادعى ابن عفالق أن ابن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم في مسائل التوحيد، وقد كتب ابن معمر رداً على رسالة ابن عفالق يذكر موافقته لدعوة الشيخ، مما جعل ابن عفالق يكتب جواباً عن رسالة ابن معمر وقد شنّع في هذا الجواب على الشيخ الإمام وابن معمر، ورماهما بتكفير المسلمين وتضليلهم، ويظهر من هذه الرسالة إلحاح ابن عفالق في إقناع ابن معمر بترك نصرة الشيخ)([373])
وقد أثارت كل هذه التحديات ابن عبد الوهاب الذي كفره في مواضع من رسائله، ومنها قوله فيه: (فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك)([374])
وهكذا نرى ابن عبد الوهاب يكفر علما آخر لا يقل عن العلمين السابقين، وهو من نجد أيضا، وقد أخذته الغيرة على أعراض المسلمين التي أصبحت منتهكة بسبب أحكام ابن عبد الوهاب وعصابته عليهم، وهو سليمان بن سحيم (ت 1181هـ)، والذي ذكره الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف ـ السلفي المعتدل ـ أثناء تبريره لجرائم ابن عبد الوهاب، فقال: (سليمان بن سحيم.. عداوته ظاهرة وواضحة كما في الرسائل الشخصية للشيخ الإمام أثناء الرد على مفترياته.. وقد كانت رسالته المملوءة بالأكاذيب والشبهات ضد الدعوة السلفية، من أشد الوسائل تشويهاً للدعوة، وأشنعها تحريفاً وتزويراً لمبادئ هذه الدعوة ولأتباعها، حيث أن هذا الخصم قد بعث بتلك الرسالة إلى سائر علماء الأقطار والأمصار يستحثهم ويحرضهم ضد مجدد هذه الدعوة، ولقد كان لها آثارها وأصداءها السيئة ضد الدعوة ومجددها)([375])
فهذا الموقف النقدي الطبيعي من ابن سحيم جعل ابن عبد الوهاب يشن حملة شديدة عليه، كما جعل خلفه من السلفية المعاصرين يعتبرونه مثل أبي لهب وأبي جهل، لأنهم يعتبرون ابن عبد الوهاب هو الرسول بعد الرسول، فحكم من خالفه كحكم من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
ومن الأمثلة على تلك الحملة ما ورد في الدرر السنية تحت عنوان: [رد ما صنفه ابن سحيم من الكفر والسب والتهورات]([376])، وهو نص طويل ننقله ببعض التصرف لنتبين مظان التكفير الوهابي، ونرى مدى انطباقها بعد ذلك على سائر علماء الأمة.
وقد بدأ ابن عبد الوهاب تكفيره للشيخ بقوله: (يعلم من يقف عليه: أني وقفت على أوراق، بخط ولد ابن سحيم، صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبه على ما فيها، من الكفر الصريح، وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة)([377])
فقد اعتبر ابن عبد الوهاب ردود الشيخ عليه ونقده له ردودا على دين الإسلام وعلى شهادة أن لا إله إلا الله، مع أن الشيخ ابن سحيم علم من أعلام المسلمين، وصاحب مؤلفات ومصنفات، ومع ذلك صار عنده من المحاربين للإسلام، ولشهادة التوحيد.
ثم أخذ ابن عبد الوهاب يذكر المبررات التي جعلته يتناوله بسيف تكفيره، فقال: (الأول: أنه صنف الأوراق يسبنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها؛ فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر ومن أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني.. الثاني: أنه ذكر في أوراقه، أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء، وصادق في ذلك؛ ثم ذكر فيها كفر القدرية، والعلماء لا يكفرونهم، فكفر ناسا لم يكفروا، وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.. الثالث: أنه ذكر معنى التوحيد: أن تصرف جميع العبادات، من الأقوال والأفعال لله وحده، لا يجعل فيها شيء، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهذا حق. ثم يرجع يكذب نفسه، ويقول: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد، والنذر لهم، ليبرؤوا المريض، ويفرجوا عن المكروب، الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان، بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل، بالحديث الذي فيه: (إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب).. الرابع: أنه قسم التوحيد إلى نوعين، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية؛ ويقول: إن الشيخ بين ذلك؛ ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي، وأمثاله، الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسينا، وإدريس، ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية؛ ويزعم أنهم ينخون ويندبون، وهذا توحيد الألوهية.. الخامس: أنه ذكر في ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أنها كافية في التوحيد؛ فوحد نفسه في الأفعال، فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية، فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله؛ فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها، ويرد علينا؛ فإذا كفّرنا من قال: إن عبد القادر، والأولياء، ينفعون ويضرون، قال: كفّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان، وتاجا، وحطابا، قال: كفرتم أهل الإسلام؛ والعجب: أنه يقول: إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله، ويقول: من عمل بالقرآن كفر، والقرآن ما يفسر.. السادس: أنه ينهى عن تفسير القرآن، ويقول: ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.. السابع: أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات، وتعلق بالذات؛ وقبل ذلك قد كتب إلينا: أن التوحيد في ثلاث كلمات: إن الله ليس على شيء، وليس في شيء، ولا من شيء؛ فتارة يذكر: أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة يذكر ذلك، ويقول: التوحيد نفي الصفات.. الثامن: أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك، ثم قال: المراد بهذا الشرك، في هذه الآيات والأحاديث. الشرك الجلي، كشرك عباد الشمس، لا على العموم، كما يتوهمه بعض الجهال، فصرح: بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان، وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال، ثم في آخر الصفح بعينه، قال: وقد يطلق الشرك بعبارات أخر؛ وكل ذلك في قوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ فرد علينا في أول الصفح، وكذب على الله ورسوله، في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره، ويقول: إن الشرك الأكبر والأصغر، داخل في قوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.. التاسع: أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع: شرك الألوهية، وشرك الربوبية، وشرك العبادة، وشرك الملك؛ وهذا كلام من لا يفهم ما يقول، فإن شرك العبادة هو شرك الإلهية، وشرك الربوبية هو شرك الملك.. العاشر: أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال: إن النذر والذبح عبادة، فهو منه دليل على الجهل، لأن العبادة ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة، فاستدل على النفي بدليل الإثبات..)([378])
إلى آخر المبررات، والتي يعتبرها جميعا نواقض للإيمان، مع كونها قضايا فرعية خلافية بسيطة، ولكن بحكم مستواه العلمي المحدود، وبحكم تعلقه الشديد بابن تيمية صار يعتبرها ضرورات لا ينكرها إلا كافر.
ونحن نطلب من القارئ الكريم أن يتذكر هذه الرسالة جيدا، حتى لا يطالبنا كل حين بذكر كلام السلفية في أي علم من الأعلام نذكر تكفيرهم له.. لأن ابن عبد الوهاب أو السلفية لم يتعرضوا بالتعيين إلا لمن واجههم، أو انتقدهم، أما من عداهم من العلماء في الأزمنة القديمة، أو في الأماكن البعيدة، فإنهم اكتفوا بتكفيرهم تكفيرا مطلقا لا عينينا.
وقد ذكرنا سابقا أن التكفير المطلق كاف لكل عاقل، لأن كل من كفر لسبب من الأسباب، فسيشمل ذلك كل من وقع في ذلك السبب.
الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق