السبت، 21 أكتوبر 2017

موقف السلفية الوهابية الخفي من الإمام ابن حجر العسقلاني



وهو ـ كما رأينا في الموقف السابق ـ موقف متناقض مع نفسه، ومع ما يصرح به في كتبه، بل مع نسبته السلفية نفسها، ذلك أنه بينما يصرح ـ مثلما رأينا من ابن باز ـ بالكفر العيني لكل من ينكر الجهة، أو يؤول الاستواء، أو يؤول ما يسميه الصفات ويعطلها، ومع ذلك، ومع كون ابن حجر فعل ذلك مثله مثل أكثر شراح الحديث إلا أنهم لم يستطيعوا أن يصرحوا بتكفيره، خشية من أن يتهموا بأنهم يرجعون إلى كفرة لا يؤمنون بإسلامهم، وخشية على سمعتهم من أن تدنس بتهمة التكفير.
وهذا عجيب جدا، ويدل على المكاييل المزدوجة للعقل السلفي، وإلا فكيف يمكن أن نصف قانونا من القوانين بالعدالة، وهو يضع العقوبات لجرائم واحدة، ثم يطبقها على قوم، ويستثني منها قوما، بل يكرمهم، ويثني عليهم، ولا يجيز الحديث فيهم.
إن هذا يصدق عليه بجدارة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)([310])
ولذلك فإن هذا النوع من السلفيين مطالب بأحد أمرين:
أولهما، وهو الأحسن والمستحب، بل الواجب، وهو إزالة تلك القوانين التي على أساسها كفروا الأمة، والتراجع عنها، وتخطئة سلفهم، وأولهم ابن تيمية، في اعتمادها، ليصبحوا كسائر المسلمين، لهم أن يعتقدو ما يشاءون، ويتركون الحرية لغيرهم ليعتقد ما يشاء.
والثاني، أن يضموا ابن حجر والنووي وغيرهما إلى سائر من كفروهم من الجهمية والمعطلة، لأن سنة الله تعالى في عباده واحدة، ولا يصح أن يطبقوها على قوم ويتركوا غيرهم، خاصة وأنهم يذكرون أنهم يعتقدون بالولاء والبراء، وأن من لم يكفر الكافر كافر.
خاصة وأن ابن حجر لا يكتفي بتلك العقائد التي يسمونها عقائد الجهمية، بل يضم إليها موقفا سلبيا متشددا من ابن تيمية، ومن بعض أهل الحديث الذين يقدسونهم، فقد قال في ابن تيمية: (ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى لـه ذلك العُجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عُمر فخطّأه في شيء، فبلغ ذلك الشيخ إبراهيم الرقى فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق عليّ أخطأ في سبعة عشر شيئاً.. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه.. وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي a لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي a.. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة.. فألزموه بالنفاق لقوله a: (ولا يبغضك إلا منافق)..  ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكـداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أر هـذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيـداً قال وكان من أذكيـاء العالم وله في ذلك أمـور عظيمة..) ([311])
كما أنه يمكن اعتباره ـ بحسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ـ قبوريا، فقد ردّ بشدة على ابن تيمية في مسألة زيارة رسول الله a في كتابه (الإنارة بطرق حديث الزيارة)، وانتصر للقبور التي يعتبرها السلفية أوثانا.
بالإضافة إلى ذلك انهيار عقيدة الولاء والبراء عنده ـ بحسب المنهج السلفي ـ ففي الوقت الذي يؤنب فيه ابن تيمية ويقرعه ويكتب عليه نرى فيه ميولا إلى الشخصيات الشيعية التي واجهها ابن تيمية، وهي شخصية ابن مطهر الحلي، فقد قال في [لسان الميزان] عن ابن تيمية: (وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد –في ردّه– كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف ‏مظانها، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره. والإنسان عامد للنسيان. وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي، أدّته أحياناً إلى تنقيص علي)([312])
ويقول في ترجمة ابن مطهر مثنيا عليه: (الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم. وكان آية في الذكاء شرح مختصر بن ‏الحاجب شرحاَ جيّداً سهل المآخذ، غايةً في الإيضاح. واشتهرت تصانيفه في حياته. وهو الذي رد عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه المعروف بالرد على ‏الرافضي [مع أن اسم الكتاب هو منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، ومع ذلك لم يسمه بهذا الاسم تنقيصا له]، وكان ابن المطهر، مشتهر الذكر وحسن الأخلاق، ولما بلغه بعض كتاب ‏ابن تيمية قال: (لو كان يفهم ما أقول، أجبته) ([313])
لكن هذا النوع من السلفية مع ذلك لم يسكت عليه، بل كتب الكتب في بيان مخالفاته للعقيدة التي يعتقدونها، وردوا عليها ردودا هادئة جدا، مع كونهم تعاملوا مع من هو دونها بشدة وعنف.
ومن تلك الكتب التي لقيت قبولا كبيرا، ونحاول أن نعرض هنا بعض مواقفها ليكون نموذجا لغيرها كتاب [التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري] من تأليف علي بن عبد العزيز بن علي الشبل، وقد قرظه مشايخ السلفية الكبار من أمثال عبد العزيز بن باز وصالح الفوزان وعبد الله بن عقيل وعبد الله بن منيع، وغيرهم، وهو في أصله إكمال لما بدأه الشيخ عبد العزيز بن باز على فتح الباري بإشارته ومتابعته ومراجعته وقراءته.
ونحب قبل أن نورد ما أورده صاحب الكتاب من تعليقات على ابن حجر، ومواقفه منه، أن نستعرض ما ذكره بعض المشايخ المقرظين حول قيمة ابن حجر عندهم، وهي ما جعلتهم يحسبون ألف حساب للحكم بتكفيره كما حكموا على أمثاله، فقد قال الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان في تقريظه للكتاب: (.. إن من أصح الكتب المصنفة في الإسلام وأجمعها وأحسنها تبويباً واستنتاجاً كتاب الإمام البخاري، وقد عرف بشدة تمسكه بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وترسمه طريقة الصحابة وأتباعهم، فلم يضع في كتابه ما يخالف نهجهم. وقد اعتنى العلماء بشرح كتابه وتقريبه وبيان ما اشتمل عليه من العلم والفوائد، وأعظم شروحه وأكثرها فوائد شرح الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله، وهذا معلوم لدى أهل العلم، غير أنه أدخل فيه من مسائل المتكلمين وتأويلاتهم لصفات رب العالمين ما شان كتابه)([314])
وهكذا أصبحت تلك التأويلات والتعطيلات التي أقام عليها السلفية الدنيا ولم يقعدوها هينة لينة سهلة يترحم على صاحبها للمصلحة المرتبطة به في نفس الوقت الذي تقام المحاكم من أجل مخالفات مثلها أو أقل منها.. وهذا من تناقض العقل السلفي ومزاجيته التي تجلت في كل مواقفه ابتداء من التصحيح المزاجي للأحاديث وتضعيفها، وانتهاء بالحكم بالإيمان أو الكفر على من شاء ومتى شاء وكيف شاء.
ومن الأمثلة على تلك النصوص التي قالها ابن حجر، ولم يكفر بها، مع تكفيرهم لغيره فيها مواقفه من الاستواء، كقوله في [هدي الساري ]، (قوله (استوى على العرش) هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى، ووقع تفسيره في الأصل)([315])
وقد علق عليه الشبل بقوله: (هذا ليس صحيحاً؛ إذ نصوص الصفات ومنها آيات الاستواء من النصوص المحكمة المعلومة المعنى والمعقولة المراد، وإنما يُفوض إلى الله تعالى كيفياتها وحقائقها التي هي عليه، كما هو مذهب سلف الأمة.. هذا وليس المتشابه من القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، كما يقوله أهل التفويض من النفاة، وجرى عليه الحافظ ابن حجر هنا)([316])
وقال ابن حجر فيما يسمونه صفة اليد، والتي اعتبروا معطلها جهميا: (وقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات. وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به؛ فمنهم من وقف ولم يتأول، ومنهم من حمل كل لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك)([317])
وقد علق عليه الشبل بقوله: (الواجب إثبات اليدين حقيقة على الوجه اللائق بالله عز وجل حقيقة من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، أما التوقف عن الإثبات والتأويل بالتفويض، أو الجنوح للتأويل فمسلكا المؤولة والمفوضة من الأشاعرة والماتريدية في باب الصفات، وأهل السنة والجماعة منه براء)([318])
وقال تعليقا على ما قال ابن حجر: (والمراد باليد هنا القدرة)([319]):(هذا تأويل غير صحيح؛ بل اليد ثابتة لله عز وجل على حقيقتها، وهي صفة ذاتية من صفاته تعالى، فالواجب إثبات هذه الصفة على حقيقتها كما يليق بجلال الله وعظمته من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل كسائر الصفات. فكما أن لله قدرة لا تشبهها قدرة المخلوقين، فكذلك له يد لا تشبه أيدي المخلوقين، وله صفات لا تشبه صفاتهم، وإلا كان ذلك تفريقاً بين المتماثلات)([320])
وهذا الحديث الهادئ المؤدب مع خطورة المسألة خاص بابن حجر، فلو أن الذي قال بهذا غيره، لنقل له كل ما ذكره أئمة الحديث من كلامهم في معطل هذه الصفة، فقد قال ابن خزيمة إمام أئمتهم: (باب ذكر قصة ثابتة في إثبات يد الله جل ثناؤه بسنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيانا أن الله خط التوراة بيده لكليمه موسى، وإن رغمت أنوف الجهمية)([321])، ثم ساق النصوص التي تدل على هذه الصفة، واعتبر منكرها جهميا معطلا كافرا.
وقال ابن حجر في تعطيل ما يسمونه صفة الحياء: (قوله: (فاستحيا الله منه) أي رحمه ولم يعاقبه، قوله: (فأعرض الله عنه) أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضاً لا لعذر، هذا إن كان مسلماً ويحتمل أن يكون منافقاً)([322])
وقد علق عليه الشبل بهدوء بقوله: (يوصف ربنا سبحانه وتعالى بالاستحياء والإعراض كما في النصوص الشرعية على وجه لا نقص فيه؛ بل على الوجه اللائق من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل. ولا يجوز تأويلهما بغير معناهما الظاهر من لوازمها وغير ذلك، بل الواجب إثباتهما لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله وكماله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل)([323])
وقال ابن حجر في نفي الرؤية الحسية لله تعالى، وهي مما يشنعون به كثيرا على المخالفين، ويكفرونهم على أساسه: (لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب)([324])
ومع خطورة المسألة من الناحية العقدية السلفية إلا أنه من باب المصلحة لم يشنع عليه، بل قال له بهدوء: (بل رؤية الباري سبحانه في الدار الآخرة حقيقة بمقابلة ولقاء ورؤية وهو في علوه سبحانه وتعالى كما قال: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، مع قطع الاستشراف عن كيفية تلك الرؤية، أو تشبيه المرئي بالمخلوق. ونفي المقابلة والقرب بلا دليل صحيح – ما فيه من الإجمال – خطأ وباطل)([325])
هكذا بكل بساطة.. مجرد خطأ وباطل.. ولكن لو كان غيره لقال: كفر وضلال ومعارضة للقرآن الكريم.. وأتي له بكل ما قال سلفهم من شتائم وسباب.
وهكذا قال تعليقا على ما قال ابن حجر: (ومعاذ الله أن يكون لله جارحة..)([326]): (نفي الجارحة عن الله من النفي المجمل الذي لم يرد به دليل شرعي، والاستفصال فيه أن يُقال: إن كان المراد بالجارحة، كما للمخلوق من أعضاء؛ فالنفي حق ويُعبَّر عنه بما في القرآن ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. وإن كان المراد بنفي الجارحة نفي اليد عن الله أو نفي الصفات، فالنفي والحالة هذه باطل، ولابد. ففي باب النفي لابد من التوقيف فلا تنفي عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في باب الإثبات)([327])
وقال تعليقا على ما قال ابن حجر: (ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه)([328]): (زيارة القبر إذا احتاجت إلى سفر مشروعة تبعاً لا استقلالاً، فلا يجوز السَّفر لقصد زيارة القبر، وإنما تشد الرحال لزيارة المساجد الثلاثة فقط. والتبرك بالمشاهد والآثار بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك)([329])
ولو أن الذي قال هذا كان غير ابن حجر لاعتبر قبوريا مشركا شركا جليا.. ولكن الله رحم ابن حجر بكتابه فتح الباري، ولولاه لكان الآن في جهنم السلفيين، وفي سجلات تكفيرهم.
وقال ردا على ما ذكره ابن حجر: (اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح، إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه)([330]): (هذا وما قبله تأويلات متكلفة لا مبرر لها، وخروج باللفظ عن حقيقته. والاستطابة لرائحة خلوف فم الصائم من جنس سائر الصفات العلى يجب الإيمان بها مع عدم مماثلة صفات المخلوقين، ومع عدم التكلف بتأويلها بآراء العقول ومستبعدات النقول، والذي يفضي بها إلى تعطيلها عن الله)([331])
وقال ردا على قول ابن حجر بخلق القرآن على حسب الرؤية الأشعرية: (قوله (أحدث الأخبار بالله) أي أقربها نزولاً إليكم من عند الله عز وجل، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم، وهو في نفسه قديم)([332]): (هذا الموضع فيه إيهام يتعلق بصفة الكلام لله عز وجل، ويحتاج إلى تفصيل: فإن كان المراد أنه معنى قديم نفسي، فهذا قول الأشاعرة بأن القرآن معنى نفسي قائم بالله.. وإن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما تلقاه من غيره: من اللوح أو الهواء أو اللطيفة فهو باطل أيضاً. وهو قول الأشاعرة والمتكلمين لينفوا أن يكون الكلام مسموعاً. وهو راجع إلى الاحتمال الأول: بأن الكلام معنىً قديمٌ نفسيٌّ.. وإن أراد أنه قديم بمعنى أن الله كتبه في اللوح المحفوظ وسبق به علمه سبحانه ثم أنزله منجماً حسب الحوادث، وسمعه جبريل من الله. فهذا حق وصواب)([333])
هكذا بكل هدوء حاول أن يجد المبررات لكلامه مع علمه بكون ابن حجر أشعريا، ومع وضوح كلامه، لكن لو كان غيره هو الذي قال هذا الكلام لنقل له كل ما ذكرناه من تكفيرات ابن حنبل وابن الجراح وابن عينية.. ولطالب باستتابته وقتله.
وقال تعليقا على نفي ابن حجر للعلو الذي على أساسه كفروا الجهمية([334]): (هذا جنوح إلى القول بعلو القهر وعلو الشرف. وهو الوصف بالعلو من جهة المعنى، دون علو الذات الذي أحاله الحافظ حساً، والحق أن لله العلو التام ذاتاً وقدراً وقهراً، وهو ما تواترت به نصوص الشريعة تواتراً قطعياً من وجوه كثيرة جداً تفوق الحصر)([335])
مع العلم أن هذه المسألة من المكفرات التي لم يتنازل السلفية عنها، وعلى أساسها كفروا تكفيرا عينيا كل من أنكرها، فقد قال ابن خزيمة: (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا)([336])
وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين)([337])
بل إن اللجنة الدائمة للفتوى نفسها، وبرئاسة ابن باز أفتت بهذا في مواضع كثيرة منها أنها أجابت عن سؤال يقول صاحبه: (في هذه القرية مسجد.. ولكن للأسف فإن إمام هذا المسجد يعتقد عقيدة فاسدة وحلولية، يعتقد أن الله في كل مكان.. غلبتني نفسي حتى تناقشت مع إمام هذا المسجد وطرحت عليه الأدلة والبراهين بأن الله في السماء مستو على عرشه وفي هذا إذ لانكيف ولانمثل.. وكذلك ذكرت له ليلة الإسراء والمعراج وذكرت له حديث الجارية، ولم يقتنع بل ظل في عتوه وعقيدته هذه)، فأجابت أكبر هيئة سلفية للفتوى بقولها: (إنهم كفار، ولا تجوز الصلاة خلفهم ولا تصح)([338]) 
وقال الشبل تعليقا على تأويل ابن حجر نسبة الصورة لله([339]): (الصواب عود الضمير على الرحمن كما جاء مصرحاً به في روايات صحيحة، والمقصود إثبات الصورة لله ولآدم كلٌ على ما يليق به. وقد بسط الكلام على المسألة وبيان عود الضمير على الله أبو العباس ابن تيمية في بيات تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية بسطاً شافياً)([340])
ولو أن الذي قال هذا غيره لنقل له ما قال الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري في الصورة، وفي تكفير كل من أنكرها،   في كتابه العظيم [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، ومن ذلك قوله ـ عند ذكره دوافع تأليف كتابه ـ: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به)([341])
لكن بما أن ابن حجر هو الذي قال هذا، فقد عفي عنه، وتساهلوا معه.. ولست أدري كيف، ولا بأي نص، ولا بأي عذر.
وقال الشبل ردا على تأويل ابن حجر للخلة ([342]): (إطلاق الخلة وهي أعلى درجات المحبة على الله صحيح وعلى الحقيقة اللائقة بالله، كما في صريح القرآن والسنة. وهي صفة ثابتة لائقة بالله لا تستلزم تشبيهاً ولا تمثيلاً، بل لله خلة لائقة به كما أن له سمعاً وبصراً وحياة تليق به. ونفي الخلة عن الله هو قول الجهمية عن الجعد، كما قال ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ  إذا قال إبراهيمُ ليس خليله
شكر الضحية كلُّ صاحب سنة... قسريُّ يوم ذبائح القربان
كلا ولا موسى الكليم الداني لله درك من أخي قربان)([343])
وإيراد الشبل لهذه الأبيات هنا من عجائب التناقضات، فكيف يستحلون دم امرئ مسلم من أجل مقولة يقبلونها من غيره، بل يثنون عليه، ويثقون فيه.. وللأسف فإن الجعد بن درهم لم يؤلف كتاب فتح الباري، وإلا فإنه لو كان ألفه لكان الذم متوجها إلى خالد القسري لا إليه..
هذه نماذج عن الكيل بالمكاييل المزدوجة في التكفير، وقد رأينا في محال مختلفة أنهم يستعملون لكل شيء موازينه الخاصة.. ولهذا فإن الاضطراب والتشتت واللاعقلانية أكبر ما يميز العقل السلفي والتراث السلفي والإنسان السلفي.

الكتاب: معجزات علمية
المؤلف: د. نور الدين أبو لحية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق