علم
الكلام علم غير إسلامي مبتدع مستند للفلسفات الوثنية
يقولون:
لكن الأشاعرة
والماتريدية اشتغلوا بعلم الكلام، وهو علم بدعي، لم يكن على عهد السلف الصالح، وهو
علم أوجده المعتزلة، وأخذوه عن فلسفة اليونان ومنطقهم، فهو غريب عن الإسلام، ولا
يجوز إثبات عقائد المسلمين به، ونحن في غنى عنه، كما كان السلف الصالح في غنى عنه..
ولا بد من إثبات العقيدة بالقرآن لا بعلم الكلام.
فما حقيقة علم
الكلام؟ وهل الاشتغال به يعني الانصراف عن القرآن والسنة؟ وهل هو منهج مخالف لمنهج
القرآن والسنة؟
علم الكلام كما
يعرفه علماؤه والمشتغلون به هو:
علم يقتدر معه
على إثبات العقائد الدينية باقامة الحجج
ودفع الشبه
أو هو: العلم
بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية
وبالتالي فكل من
أقام حجة لدين الله أو دفع عنه شبهه فهو متكلم
.. تسمّى بذلك أو لم يتسمَّ
فالصحابة أصوليون
وإن لم يدرسوا علم أصول الفقه
والتابعون محدِّثون
وإن لم يُسمّوا بذلك
وابن تيمية وابن
القيم متكلمون، وإن هاجموا علم الكلام..
وعلماء السلف
الأوائل عندما ذموا علم الكلام، إنما ذموه لأن المشتغلين به كانوا من أهل البدع
والأهواء، ولم يتقيدوا فيه بحدود الشريعة والنصوص، فأطلقوا العنان لعقولهم لتصول
وتجول فيما تقدر وفيما لا تقدر عليه، فانتقلوا من دفع الشبه عن الإسلام إلى
إيجادها وإحداثها، وقد تصدى لهم السلف الصالح لإبطال دعاواهم، وأبطلوا الحجة
بالحجة، ودحض الحجة بالحجة هو أيضا
كلام...
والذي قام به
الإمام الأشعري أنه جمع هذه الحجج في مؤلفاته، ونظمها ووضع لها قواعد، كما جمع
الإمام الشافعي أصول الفقه في كتابه الرسالة، ونسقه على شكل قواعد، مع أن وجود هذا
العلم سابق على وجود الفقه أصلاً...
فمصطلح علم الكلام
على عهد السلف الصالح كان خاصاً بالمتكلمين من أهل البدع، الذين بدؤوا يثيرون
الشبهات في الدين كالقول بخلق القرآن، وبإنكار الشفاعة، وبوجوب تعذيب العصاة على
الله إن لم يتوبوا، وبوجوب مكافأة المحسنين على الله، وبعدم خلود الجنة والنار، وغيرها
من شبهات، أخذوا يتشدقون بها ويبرهنون عليها بالعقل المحض دون رجوع لنصوص الكتاب
والسنة...
وفي هذه المرحلة
جاء نهي علماء السلف عن الكلام والمتكلمين..
ثم تطور المصطلح
ليعني الرد على المتكلمين بالأدلة والبراهين العقلية والحجج المنطقية، وإلزامهم
بالحجة، بأي دليل كان، والدفاع عن الدين ونصوصه الثابتة، فهنا تغير المصطلح، وصار
عَلـَماً على علم التوحيد والعقيدة، وصار مصطلح "المتكلمين" يطلق على
علماء العقيدة والتوحيد...
وتطور المصطلحات
عبر الزمن أمر معروف.. ولنأخذ مثالاً على ذلك مصطلح (الفقه):
"الفقه في لغة العرب:
الفهم، ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: "واحلل عقدة من لساني
يفقهوا قولي" أي يفهموه..
والفقيه عند العرب الفهامة
العالم، لا فرق في ذلك بين عِلم وعِلم، فكل من عَلِم علماً فهو فقيه فيه، ومن علم
علوماً كثيرة فهو فقيه العرب وعالمها.
فلما جاء الإسلام غلب اسم الفقه
على "علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على
الثريا، والعود على المندل" (لسان العرب 2/1119)
وكان علم الدين في الصدر الأول
مقصوراً على الكتاب والسنة، فالفقيه عندهم هو الذي فقه دين الله من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً
فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"
والتأمل في الحديث السابق يدل
على أن الفقيه هو صاحب البصيرة في دينه، الذي خلص إلى معاني النصوص، كما يستطيع أن
يخلص إلى الأحكام والعبر والفوائد التي تحويها النصوص، وبناء على ما تقدم فإن
الفقيه عند أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباعهم هو العالم بالدين كله،
لا فرق في ذلك بين مسائل الاعتقاد، ولا مسائل الأخلاق والفروع العملية، والفقه الأكبر
عندهم هو معرفة العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر.
ومع كثرة العلوم وتنوعها وكثرة
التأليف فيها، خص العلماء الفقه "بالعلم بالأحكام الشرعية العملية
المكتسب من أدلتها التفصيلية". انتهى
(نقلا عن الدكتور عمر سليمان الأشقر/ مسائل في الفقه المقارن/ مقدمة)
وإذن مصطلح الفقه
مر بالتطورات التالية:
1-الفهم.
2- البراعة في علم من العلوم.
3- ثم العلم بالكتاب والسنة وشرائع الدين عند
السلف الصالح.
4- ثم بعد عصرهم أخذ المصطلح شكله النهائي وهو:
العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
فهل نستطيع الآن أن
نقول أن من يعني بالفقه "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها
التفصيلية"، هو مبتدع، وأنه مخالف لمنهج السلف الصالح، وأنه لا يجوز التأليف
في الفقه مستقلاً لأن السلف الصالح لم يفعلوا ذلك؟ أو نقول أن من يعني بالفقه
التعريف السابق مخطئ لأن الفقه عند العرب هو البراعة في أي علم، وعند السلف الصالح
هو العلم بالكتاب والسنة والعقائد وأحكام الدين؟ بالطبع لا.. ولو ألف مؤلف الآن
كتاباً في علوم الحديث أو علوم القرآن وأسماه فقهاً لسخر منه العلماء والعامة....
فالعبرة إذن بما يؤول إليه المصطلح لا بما يبتدئ به... وهذا عين ما نقوله في علم
الكلام..
فأن يبدأ بشكل
فلسفة ومنطق يوناني، ثم يشتغل به المعتزلة فيذمه علماء الصدر الأول، لم يعد يهمنا
الآن إلا كدراسة تاريخية، وإنما ما يعنينا الآن هو ما آل إليه المصطلح، فصار
مرادفاً لعلم التوحيد أو العقيدة..
وإذا أردنا أن نحكم
على القوم من خلال هذا المصطلح، فعلينا أن ننظر لتعريفهم هم للمصطلح، لا لتعريف
غيرهم له.. إذ لا ينظر في تعريف الفقه لغير الفقهاء، ولا المرض العضوي لغير
الأطباء، ولا المحلول الكيميائي لغير الكيميائيين... وهكذا، فأهل كل فن هم المرجع
في تعريف فنهم.
فلننظر إلى كتب
القوم لنرى كيف عرفوا علم الكلام:
1- قال الإمام
الغزالي في إحياء علوم الدين، كتاب العلم، الباب الثالث: (القدر المحمود من العلوم
المحمودة) :
"وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي
نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير، وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقها،
ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر، وهو القدر الذي أوردناه
في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب، والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة،
وهو الذي أوردناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد، ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع،
ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام
قبل اشتداد تعصبهم.... إلخ... "
ومن هذا النقل
يتبين وظيفة علم الكلام أو علم التوحيد عند الأشاعرة، وأنه حجج منطقية عقلانية
لدفع شبه المبتدعين وتثبيت عقائد أهل السنة... وحمايتها ضد أي تشكيك...
فهل يمكن لعاقل أن
يذم مثل هذا العلم؟
2- مقدمة ابن
خلدون/ الفصل العاشر
علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج
عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب
السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد
3- الإيجي في المواقف:
علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بايراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها
4- الجرجاني في التعريفات [ مصطفى الحلبي] :
علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، والقيد الأخير لإخراج العلم الإلهي للفلاسفة.
5- الباجوري في شرح الجوهرة [ دار السلام]:
التوحيد بمعنى الفن المدون .. علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية مكتسب من أدلتها اليقينية
6- الدردير في شرح الخريدة بحواشي السباعي والمطيعي [ تصوير البصائر]:
علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية المكتسبة من أدلتها اليقينية
7- في حواشي محمد بخيت المطيعي على الخريدة:
المقصود ..
معرفة العقائد بالدليل العقلي
المؤَيد
بالدليل النقلي
وفي موضع آخر: يمتاز (أي علم الكلام) عن العلم الإلهي ( أي الفلسفة الإلهية) .. بأن البحث في علم الكلام على قانون الإسلام، والبحث في الإلهي على قانون العقل وافق الإسلام أم لا
وفي موضع آخر: يمتاز (أي علم الكلام) عن العلم الإلهي ( أي الفلسفة الإلهية) .. بأن البحث في علم الكلام على قانون الإسلام، والبحث في الإلهي على قانون العقل وافق الإسلام أم لا
*ونلاحظ من التعريف الأخير أن العقائد مستمدة
من القرآن والسنة، وهما قانون الإسلام، وعلم الكلام هو عبارة عن استخلاص هذه
العقائد وترتيبها، وترتيب الحجج العقلية على إثباتها ونفي الشبهات عنها، سواء في إثبات
وجود الله تعالى ووحدانيته، أو الصفات أو القرآن أو المعاد ومواقف القيامة....
إلخ...
وأن الفرق بينه
وبين الفلاسفة أن أولئك لا يهمهم في أبحاثهم أوافقوا قانون الإسلام أم لا، فهم في
كل واد يهيمون، وأما علماء الكلام الإسلامي أو التوحيد فهم يسترشدون بالوحي يقودهم
في طريقهم، فيلتمسون الأدلة للمحاججة عنه وإثباته...
*والفرق بين منهج
المعتزلة ومنهج أهل السنة من أشاعرة وماتريدية جوهري جداً، لأن أهل السنة يعتمدون
في إثبات العقائد على السماع، أي على النصوص، فيثبتون صفة الكلام لله تعالى،
والحوض والشفاعة والميزان والصراط وعذاب القبر و رؤية الله عز وجل يوم القيامة
وغير ذلك مما أتى به السمع، أي النص الصحيح المتواتر، بخلاف المعتزلة الذين يجعلون
العقل حاكماً على النص، فما قبله العقل قبلوه، وما رفضه رفضوه وأوّلوه تأويلات
بعيدة لا تحتملها لغة العرب... فأنكروا
الميزان والشفاعة والحوض ورؤية الله عز وجل، وأوجبوا أفعالاً معينة على الخالق،
وقبحوا وحسنوا عقلياً، وغير ذلك من
انحرافات قادهم إليها تقديهم العقل على النصوص....
*وأما علماء
المسلمين الأكابر الذين لم يشتغلوا بعلم الكلام، فليس موقفهم بحجة على رفض هذا
العلم وإنكار فضله، كيف، وهو الذي قمع أهل البدع والأهواء؟ وإنما هي مسألة تفضيل
بحتة، فمن الناس من لا يحب الجدال والمناظرات، ويفضل الاشتغال بما هو أجدى من وجهة
نظره، ومنهم من يرى الانغماس في الفقه يورث جفافاً في القلب ويفضل الانقطاع لحفظ القرآن
ودارسة التجويد، وهكذا.. لكلٍ وجهة هو موليها، وهذا الاختلاف في المواهب والميول
هو الذي جعل بعض العلماء يبرع في الحديث وبعضهم في القراءات وبعضهم في الفقه
وبعضهم في الأصول وبعضهم في الكلام، فحين يقال عالم حديث وليس متكلماً كالإمام
النووي الأشعري مثلاً، لا يعني هذا أكثر من تخصصه وبراعته في فن دون فن.... فلا شك أن الشيخ أحمد ديدات رحمه الله ما كنا
سنقصده للفتوى، بل نقصد الشيخ ابن عثيمين أو القرضاوي، لكن أياً من هذين الشيخين
الفاضلين لن يستطيع أن يسد مسد الشيخ أحمد ديدات في مناظرة القساوسة والنصارى..
وهذا مجرد مثال للتقريب... وحتى الصحابة، منهم من تخصص في قيادة الجيوش والفتوحات،
ومنهم من برع سياسياً، ومنهم من تخصص في الفقه والفتوى، ومنهم من برع في حفظ الأحاديث
وأكثر من الرواية...
وأما من يقول أن
نفس أسباب ودواعي إثبات وجود الله تعالى كانت موجودة أيام النبي صلى الله عليه
وسلم وصحابته الكرام، ومع ذلك لم يلجؤوا لعلم الكلام في جدال الكفار، والجواب بكل
بساطة لا... لم تكن موجودة، وشاهدنا هو شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد
الوهاب، الذي يقرر في رسائله التي تدرس في مادة التوحيد، أن كفار زماننا أشد كفراً
من كفار قريش.... لأن كفار قريش كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، وينفون توحيد
الألوهية فقط، أما كفار زماننا فينفون توحيد الربوبية..
ولمن لم يدرس
العقيدة على الطريقة السلفية (التيمية) نوضح له معنى هذا الكلام:
توحيد الربوبية: هو
توحيد الله بأفعاله، أي الاعتقاد أنه سبحانه الخالق الرازق المدبر المحيي المميت..
وتوحيد الألوهية:
هو توحيد الله بأفعال العباد، أي صرف العبادة لله وحده وإخلاصها له من صلاة وصيام
ونذر وذبح...إلخ..
وكفار قريش كانوا
يؤمنون بتوحيد الربوبية، بدليل قوله تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن
الله} لكن كفار
زماننا، والملحدين في كل عصر وآن، ينكرون وجود خالق للكون أصلاً، وقد وضعوا عشرات
التفسيرات لنشوء الكون وارتقائه محاولين فلسفة المسألة وعلمنتها للهروب من الإقرار
بوجود الخالق جل وعلا، وخُدعَت بكلامهم هذا أجيال تلو الأجيال... فهم أشد كفراً من
كفار قريش.. وهؤلاء لم يلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام.. إذ
لم يلقوا من ينفي وجود خالق للكون أصلاً، ولم يلقوا من يدعي أن الكون وجد بالصدفة،
أو أنه موجود من قديم الأزل دون موجد، أو غير ذلك من هرطقات تلبس لباس العلم
والفلسفة والعقلانية، وتتوه بالعقول في متاهات تغرق فيها ... فكان لابد من أن يقيض
الله تعالى لهذه الأمة من ينافح عن هذا الدين القويم، ويداويها بالتي كانت الداء،
ويرد على كلام القوم بكلام مثله، مستضيء بهدي الكتاب والسنة، ومستند إليهما..
وختاما لهذا الفصل
من الحديث عن علم الكلام، أود أن أورد كلاماً موضحاً وشارحاً لهذا العلم، مقتبساً
من كلام الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه الماتع
(الذي أنصح كل مسلم بقراءته والاستفادة مما فيه) ألا وهو "كبرى اليقينيات
الكونية" يقول الدكتور:
"إن أساس الإسلام عقيدته،
ومكمن العقيدة فيه إنما هو الإيمان بوجود الله عز وجل ووحدانيته، فلا مطمع في
تحقيق شيء من أحكام الشريعة الإسلامية إن لم تكن هذه المبادئ الاعتقادية مركزة من
قبل ذلك في القلب، ولا مطمع في ارتكاز شيء من هذه المبادئ فيه إلا بعد الإيمان
بوجود الخالق جل جلاله.
ولو خُلـِّي الإنسان وعقله، دون
أن يقوم بينهما أي حاجز من الميول النفسية أو الأغراض الدنيوية، أو وسوسة الشياطين
من الإنس والجن، لما عاقه أي شيء عن الإيمان
بالله، ولوجد الكون كله مشحوناً بالبراهين الناطقة بوجوده، ثم لوجد في القرآن وحده
المرقاة إلى أعلى درجات الإيمان واليقين، فما كان يحتاج عندئذ إلى حجة ونقاش
وبرهان وجدال، ولعاش في غنى عن أن يفكر في أدلة البدهيات ومقدمات الضروريات.
ولكن الله عز وجل –لحكمته- جعل
إلى جانب العقل المرشد في الإنسان شهوات وأهواء مضللة، وجعل الإيمان بالحق واتباعه
ثقيلاً على النفس، على حين جعل الإيمان بالباطل واتباعه سهلاً خفيفاً عليها،
فتولدت بذلك الشبه المصطنعة، وتكاثفت الغشاوات المختلقة، وقام للعصبية في النفوس
سلطان أقوى من سلطان العقل الذي في الرؤوس، حتى انقلب هذا الحق في ظن بعض الناس
إلى فلسفة غيبية وتخيلات وهمية.
من أجل ذلك كان لابد
من أن يحسب لهذه الحقيقة الضرورية حساب المسائل النظرية، بأن يتخيل الباحث
(مهما كان مؤمناً مستيقناً ببديهة عقله) كل ما يمكن أن يثار حولها من أسباب الشبه
والشكوك، فيضعها في ميزان البحث العلمي.....
من أجل ذلك ألف أسلافنا رحمهم
الله المطولات والمختصرات المختلفة في ذكر الأدلة والبراهين العلمية على وجود
الله، ورضوا أن ينزلوا بعقولهم إلى مستوى من قد تخيل وجود الله نظرية عويصة تحتاج
إلى كثير من المقدمات والشروح، فنثروا هذه المقدمات والشروح كلها، واستحضروا لذلك
موازين الفكر العقلي المطلق، وموازين الفلسفة اليونانية، حتى لا يتورك باحث مغرض
يصطنع الشبه اصطناعاً على أحد الميزانين، فيقارع به ويحتكم إليه.
ولولا هؤلاء المغرضون
والمتحذلقون، لوسع المسلمين ما وسع الصحابة من قبلهم من بداهة الفكر، وحرية العقل،
ودلائل القرآن والكون.(1)
ثم راح الزمن يمضي، فإذا بنا
اليوم أمام شبه من نوع جديد، وإن كان واضحاً أنها تمت إلى الشبه التي خلت بنَسب
الأخوة المتينة، إذ هما جميعاً إنما ينحدران من أم واحدة هي العصبية التي تتحكم
بالشخصية والنفس، والشهوات التي تعصف بالفكر والعقل.
وكانت هذه الشبه الجديدة، هي ما
يسمى بالنظرية المادية لأصل الأشياء، وقصة التطور والنشوء، والمذاهب الجديدة في
تفسير الفكر والوجود، والانبهار الذي تركته الاكتشافات العلمية في بعض الرؤوس.
وهي شبه لا يوجد لها أي سلطان
في موازين العلم وبراهينه، وإنما سلطانها منبعث من معين: "التوسم"
و"الحدس" و"الاسترداد"
وإذاً فإن علينا أن نفعل ما
فعله أسلافنا، فنضع هذه الشبه الجديدة تحت مجهر العلم والعقل المجردين، طبقاً
للموازين الفكرية التي يعتد بها أصحاب هذه الشبه، وسيكشف ذلك إما عن زيف هذه الشبه
أو عن زيف من يصطنعونها، أو عن رجوعهم إلى الحق وتحررهم من الباطل....."
-------------------
ثم يقول في الهامش
تعليقا:
"(1)من أحل هذا لا نرى
عدلاً ما يقول بعض الباحثين اليوم من أن علماء الكلام أفسدوا صفاء التوحيد بما
حشدوا في بحوثهم عنه من قواعد الفلسفة ومبادئ المنطق وأصول الجدال، وأنه كان
يغنيهم عن ذلك اتباع منهج القرآن وعرض براهينه.
نقول: ليس عدلا أن يقال شيء من
هذا الكلام، وذلك
لأن مباحث علم الكلام لم يؤلف شيء منها لمن آمن بالقرآن واستضاء قلبه بسراجه،
وإنما ألفت لزنادقة اتكؤوا في زندقتهم على شبه فلسفية، وفرق شاذة اتكأت في شذوذها
على تكلفات عقلية، وكانوا –رحمهم الله- بين أن يسكتوا عن لغو أولئك
الزنادقة، وفيهقة هؤلاء المتنطعين، فيشيع في الناس أمرهم، ويتسع في العقول الغافلة
طريقهم، وبين أن يتصدوا لهم فيكشفوا عن زيف شبههم وسفسطة أدلتهم وفساد طريقتهم،
فلم يترددوا في أن يؤثروا الثاني على الأول، استجابة لما تقضي به ضرورة الدعوة
الإسلامية، ولما هو معروف من حكم الله في ذلك..
ولا يضير وضوح هذا الحق أن
كثيراً من تلك الشبه والأبحاث لا مكان لها اليوم حيال ما استجد من شبه وسفسطات
أخرى، فنحن إنما نتحدث عن مسوغات ما فعله أولئك الأسلاف في عهدهم، ومع ذلك فالسبيل
واحدة، والمنهج لا يختلف، وإن اختلفت أنواع الشبه والخداع، فهل لنا أن نقول اليوم
حيال ما استجد من شبه الفلسفة المادية الديالكتيكية أو الفلسفة الوجودية، أو لوثة
التطور والارتقاء وانتخاب الأصلح: لسنا بحاجة أن ندحض سفسطة أرباب هذه الشبه بأدلة
العلم وبراهينه التي يزعم أرباب هذه الشبه أنفسهم أنهم يمسكون بها؟ وهل يصح لنا أن
نقول: يكفينا أن نعرض لهم منهج القرآن، وهم لا يعلمون ما هو القرآن وما هي قيمته
الذاتية؟
-------------------------------
ويقول في مقدمة الطبعة
الثانية لنفس الكتاب:
"هل اعتمدنا في شيء مما عرضناه من بحوث
العقيدة الإسلامية في هذا الكتاب على الفلسفة اليونانية أو المنطق الصوري؟
نحن لم نفعل ذلك إطلاقا، ولم
نتعامل مع القارئ فيما عرضناه من بحوث إلا مع تلك الأدلة والبراهين القطعية التي
تحمل قيمتها العلمية الثابتة مهما تنقلت بها في مراحل التاريخ أو تحولت بها من لغة
إلى أخرى.
إن قانون بطلان: الدور،
والتسلسل، والرجحان بدون مرجح، واجتماع النقيضين، كل ذلك بمثابة العملة العالمية
الرائجة في كل مكان، ما من ذي عقل ومنطق إلا وهو يعلمها ويتعامل بها، سواء شعر بأنها
قوانين علمية ثابتة أم لم يشعر.
أجل... إن الفلسفة اليونانية
استخدمت لبعض هذه القوانين براهين وأدلة على طريقتها، كالذي يسمونه برهان التطبيق
بالنسبة لبطلان التسلسل، ولكننا لم نعرج على شيء منها، واستعضنا عن ذلك كله بما هو
أيسر وأبسط وألصق بالحياة الفكرية العامة.
ومنهج البحث الذي وضعناه
ميزاناً بيننا وبين القراء، لم نستق شيئا من أسسه ومواضعاته إلا من القيم العلمية
والمنطقية العامة التي يتعامل بها كل العقلاء، وإن كنا نعلم أن الذي أرساها قانوناً
علمياً للدراسة والبحث إنما هو الفكر الإسلامي في صدر تاريخه.
قد يتخيل البعض أن بحث دلالة
الالتزام بأنواعها، أو القياس القائم على العلة الجامعة، شيء غريب عن المألوف، فهو
لا جرم إذاً من المنطق الأرسططاليسي!!
ولكن الحقيقة الثابتة أن المنطق
اليوناني لم يعرف شيئاً مما يسمى بالدلالات عامة، ودلالة الالتزام خاصة، وكذلك
القياس القائم على العلة.
أما القياس الاقتراني والشرطي
القائمان على الأشكال فذلك هو المأخوذ من المنطق اليوناني، ونحن لم نعتمد على شيء
من ذلك في كتابنا.
على أننا نذكر القارئ بأن
الفلسفة اليونانية أو المنطق الأرسططاليسي ليس كله شيئا مخيفاً أو فاسداً. ولا
معنى إطلاقاً لإغماض العين والفكر عنه جملة واحدة، بل إن فيه الكثير مما هو مفيد
ونافع. وفيه كثير مما انتقده فلاسفة المسلمين وعلماؤهم. وعلى الذين يريدون
أن يقيموا أفكارهم دوما على أسس من العلم، أن يتعودوا على اختيار ما هو حق، مما
يأتيهم من لدن غيرهم، بدلا من السلبية أو الإعراض المطلق..
شيء أخير أقوله للقراء:
لقد ضاق البعض ذرعاً بدفاعنا
–في تعليق المقدمة الأولى- عن علم الكلام والأئمة الذين اضطرتهم ظروفهم للتأليف
فيها، وكان دفاعنا هذا متضمناً –بلا شك- نقد أولئك الذين يتهمونهم بما لا نراه حقاً.
ونحن نقول: لا موجب أبداً لهذا
الضيق، فإن هذا الكتاب ليس إلا نموذجاً مما ألف في علم الكلام، على ما فيه من
اختلاف في كثير من المباحث وفي الأسلوب، ذلك أن علم الكلام إنما أطلق على المناقشات العلمية التي دارت أو
تدور حول مبادئ العقيدة الإسلامية، بقطع النظر عن نوع الشبه وطريقة البحث والنقاش،
فإن كل ذلك من شأنه أن يختلف ويتطور من عصر إلى آخر.
فهل أسأت فيما أقدمت عليه من
تأليف هذا الكتاب؟ وهل كان يسعني –في مجال الكشف عن حقائق الإيمان بالله عز وجل
أمام أصحاب الشكوك والشبهات المختلفة – ألا أناقشهم على أسس منطقية عامة
يفهمونها ويؤمنون بها؟
ويتحدث البعض عن
منهج القرآن، وضرورة الاستعاضة عن هذا كله بمنهج القرآن...
ونحن نقول لهؤلاء الإخوة: لا
تنافي بين المنهجين، ولا تعطيل لأحدهما على حساب الآخر.
فنحن بحاجة لعرض منهج القرآن
بالنسبة لمن تركزت في قلبه مبادئ الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه
لا يزال بحاجة إلى تقويتها والحفاظ عليها، وإقامة الصورة الإسلامية الصحيحة في
فكره دون أي زيف أو انحراف عنها، ونحن ننصح لمثل هذا الإنسان بعدم إضاعة الوقت في
تأمل هذه المناقشات الفكرية، التي تحوم حول البحث في شبهات ما هو منها في شيء، إلا
أن يحتاج إليها في مجال توجيه الآخرين وتعليمهم.
ولكننا بحاجة إلى المنهج
المنطقي والفكري العام الذي سلكه علماء الكلام، بالنسبة لمن لم يدخل بفكره بعد في
دائرة الإيمان بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله..
إن من العبث أن تعرض أمام هؤلاء
آيات القرآن وعظاته، وهو لم يؤمن بعد بهذا الذي تسميه قرآناً... وإن من العبث أن
تعمد إلى من استحكمت في فكره شبهة من هذه الشبه فتعالجها بهذا الذي يفهمه البعض
من منهج القرآن.
وأقول: بهذا الذي
يفهمه البعض من منهج القرآن، ولا أقول: منهج القرآن، لأن المنهج الذي سار عليه أكثر علماء الكلام في عصورهم، ونسير نحن
عليه في مثل هذا الكتاب، ليس خارجاً عن منهج القرآن، فالقرآن أمرنا ألا نقفو في أفكارنا واعتقادنا ما لا علم لنا به. وأمرنا أن
نحكم العقل وموازينه في كل ما يعرض لنا من أمور الحياة، والقرآن ناقش المشركين
طبقاً لميزان (العلة الغائية) الماثلة في الكون [مثلاً: والشمس
تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم]، والقرآن نبه أفكار المشركين إلى
بطلان الشريك لله تعالى طبقاً لما يقتضيه برهان (التمانع) [مثلاً: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا]، كما نبه إلى ضرورة
وجود الله عز وجل استدلالاً بقانون (بطلان الدور) وقانون (بطلان الرجحان بدون
مرجح) [أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا
السموات والأرض بل لا يوقنون].. فأي دستور
من القرآن تريده أكثر من هذا، كي تطمئن إلى أن مناقشة أصحاب الشبهات طبقاً لمقتضى
الأدلة والبراهين التي يتعاملون بها هو من
صميم المنهج القرآني؟
ولا يعنيني، إذا كان كلامي
صحيحاً، أن يأتي مخالفاً لما يراه بعض المفكرين أو المخلصين في دعوتهم إلى
الإسلام، فليس شرطاً لعظمة الدعاة إلى الله تعالى وعلو شأنهم وإشراق أفكارهم ألا
يخطئوا في مسألة ما، أو أن لا يخونهم البحث في تقديرها حق قدرها من سائر الجوانب.
إن هذا الشرط لو كان صحيحاً، فإنما هو يعني العصمة إذن، وليس من أحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوصف بالعصمة." (انتهى)
ونستخلص من كلام الدكتور البوطي النتائج التالية:
1-
علم الكلام موجه لغير المؤمنين ليؤمنوا، وللمسلمين
الدعاة ليتسلحوا في جولاتهم وصولاتهم مع
الزنادقة والملحدين...
2-
الاستفادة من علوم الشعوب الأخرى ليس فيه ما يضير الباحث
المسلم، مادام ما يأخذه منها لا يتعارض مع عقيدته بل يخدمها، والانغلاق عن العلوم
الأخرى ما هو إلا جهل.. وإنكار وجود
الشبهات والضرورة الملحة لردها ما هو إلا دفن للرؤس في الرمال.
3-
كتب الأشاعرة تطورت بحسب احتياجات العصور، فالكتب الحديثة
موجهة لرد الفلسفات والزندقة العصرية، وتجاوزت الزندقة والمباحث القديمة التي
انقرض أهلها...
4-
ليس في علم الكلام عند أهل السنة ما هو مستمد من الفلسفة
اليونانية إلا أقل القليل، وإنما الأساس فيه الحجج والبراهين العقلية والاستدلالات
المنطقية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاججة أهل
البدع والشهوات والأهواء.
5-
علينا أن نميز بين العقيدة الصحيحة، وبين الدفاع عنها...
فالعقيدة الصحيحة لا تُستمد إلا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،
وهذه ثابتة على مر العصور، لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان، إلى أن يرث الله
الأرض وما عليها.. وأما الدفاع عن العقيدة ورد الشبهات عنها، فهذه علوم متجددة،
بحسب ظروف كل عصر، وما يطرأ عليه من تحديات، فالسلف لم ينفوا وحدة الوجود، ولا
الحلول والاتحاد، فهل يعد ابن تيمية مبتدعاً حين تكلم فيهما ونقضهما؟
والسلف الصالح
كانوا يقولون "القرآن كلام الله"، وحسب، ولم يضيفوا عبارة (غير مخلوق)
فهل يعتبر الإمام ابن حنبل مبتدعاً حين أضافها ليرد على من قالوا بخلق القرآن؟
وفي مطلع القرن
الثالث عشر الهجري حين انتشرت نظرية النشوء والارتقاء وانتخاب الأصلح، وانبهر بها
المثقفون من أمة الإسلام، وفتنوا بها عن دينهم، هل كان على علماء المسلمين أن
يغمضوا أعينهم عنها ولا يتصدوا لها بالدحض بنفس البراهين العلمية العصرية التي
اتكأت عليها، حتى لا يخالفوا منهج السلف الصالح في الاعتماد على إثبات العقائد بنصوص
الكتاب والسنة؟ وهل كان يمكن مناقشة هؤلاء المنبهرين المتبرئين من دينهم وعقيدتهم
بنصوص شكوا أصلاً في صدقها وفي أنها وحي
من الله؟ أم يناقشون بالاستناد إلى منهج تلك النصوص في طلب البرهان وتحكيم العقل
وترك التقليد الأعمى؟...
وإذن أهل كل عصر
أدرى بتحديات عصرهم... ومحاججة أهل البدع بأي أسلوب مفحم كان، سواء بالطب أو بعلم
الأجنة أو بالمنطق أو بالفلسفة أو بعلم الفلك أو بعلم الوراثة أو بالإعجاز العلمي
في القرآن، بأي علم كان، ليس بدعة أبداً، حتى لو ظنه بعض العلماء كذلك بداية
وهاجموه... والحق أحق أن يتبع... والله تعالى أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة
والموعظة الحسنة، ولم يحدد لنا معنى ضيقاً للحكمة، لأن الحكمة هي أن تخاطب الناس
بقدر عقولهم، وبنفس منطقهم، وبما يلزمهم بالحجة..
6-
علم الكلام لا يجحد فضله إلا مكابر، لا يعيش تحديات عصره، وهو
ليس ملزما للمسلمين، ولا يحتاج لتعلمه كل مسلم، لكن لابد أن يشمر له من يكفون من
الدعاة والعلماء، ليصدوا به هجمات الملاحدة والزنادقة التي لا تنتهي... فمن أحب أن
يتعلمه فسيستفيد منه، فجزاه الله خيراً، ومن كره تعلمه، فلا تثريب عليه، لكن
فليمسك لسانه عن علمائه، لأنهم واقفون على ثغر هام جدا من ثغور الإسلام..
بهذا نكون بحمد الله قد انتهينا من تفنيد أهم التهم التي يوجهها الإخوة
السلفيون للأشاعرة خاصة، وللمتكلمين عامة، وبينّا بحمد الله أنها لا تعدو أن تكون
اختلافاً في وجهات النظر بين المنهجين، ولا تعني بحال أن السلفية المعاصرة (التيمية)
هي أقرب لمنهج السلف الصالح من الأشاعرة أو الماتريدية، وأن الجميع بالتالي من أهل
السنة والجماعة، وإن أنكر بعض المنتسبين لكل مذهب ذلك على مخالفيهم..
وبقية التهم التي
لم نتعرض لها تندرج تحت ما بحثناه، فبزواله تزول بإذن الله.
نسأل الله تعالى أن
يوحد قلوب المسلمين على الحق والتقوى، وألا يجعل بأسهم بينهم، بل يجعله على عدوه
وعدوهم، ويشفيهم من التعصب والعصبية وضيق الأفق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق