الأحد، 19 مايو 2013

تهمة تقديم العقل على النقل عند الأشاعرة


يقولون:

الأشاعرة يقدمون العقل على النقل، ويتبعون منهج الفلاسفة في إثبات حقائق الدين، والإعراض عن القرآن والسنة، وتقرأ في كتب عقيدتهم قديمها وحديثها المائة صفحة أو أكثر فلا تجد فيها آية ولا حديثاً

فهل هذا صحيح؟؟

بالطبع هذا غير صحيح، ولكن علينا أولاً أن نفهم دور العقل ودور النقل بالنسبة للشريعة، يقول ابن تيمية:
"العقل متول، ولى الرسول ثم عزل نفسه، لأن العقل دل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والعقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة، وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي، ودل غيره عليه، وبين له أنه عالم مفت، ثم اختلف العامي الدال والمفتي، وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي أنا الأصل في علمك أنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في الأصل، قال له المستفتي: أنت لما شهدت أنه مفت ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليدك له"

وإذن يقر ابن تيمية أن العقل بداية هو الذي يدلنا على أصل الشريعة، فهو الذي يدلنا على حتمية وجود إله لهذا الكون، سواء كان هذا بأدلة الاختراع والإبداع التي استمدها ابن تيمية من منهج القرآن، بالتفكر في هذا الكون، أو ببطلان الدور والتسلسل أو بطلان الرجحان بغير مرجح، وغيرها من أدلة المتكلمين، المستمدة أيضاً من منهج القرآن، فالعقول مختلفة، وبالتالي لا بد أن تختلف  أساليب خطابها، فإذا استدل العقل على أن للكون موجداً، وأنه واحد لا شريك له، ثم استدل أن هذا الرسول يحمل رسالة من هذا الرب لعباده، هنا يكون دور العقل تقريباً قد انتهى، ولابد له من الاستسلام لأوامر هذا الرسول ونواهيه، وتصديقه فيما يخبر به...

ومع هذا لانقول أن العقل يتولى تماما أو يعزل نفسه بصفة نهائية، لأنه لابد للعقل من أن يدلنا على صحة نسبة هذه الأقوال والنقول للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بالبحث في السند والمتن وفق علوم الحديث، وإلا ما استطعنا التفريق بين الصحيح والضعيف والموضوع، ثم لابد له من الاجتهاد في الفهم عن هذه النصوص واستنباط الأحكام الفقهية منها، والترجيح بينها بحسب القوة والضعف... إلخ..

وبالتالي، فإخوتنا الذين يعتقدون أن إعمال العقل في فهم الدين جريمة نكراء، لامعنى لها عندهم سوى التهاون في الالتزام بدلالات النصوص الشرعية من قرآن أو حديث، ماهم إلا متطرفون منحرفون عن منهج السلف الصالح، قابلوا بتطرفهم تطرف المعتزلة الذين حكموا العقل في كل شيء، وردوا كل نص شرعي لم يوافق عقولهم وشككوا فيه أو تأولوه بتأويلات مجحفة، واعتبروا أن العقل هو المحكم في كل شيء، فما قبحه العقل قبيح وحرام شرعاً، وما حسنه العقل فهو حسن وحلال، ولم ينتبهوا إلى أن عقول الناس تتفاوت وتختلف في الحكم على الأمور بحسب قدراتها أو بيئاتها أو علومها، وأن أمور الغيب هي أمور خارج نطاق العقل وحدوده  فلا يمكنه أن يجول فيها، وعليه أن يكتفي بالخبر الصادق عنها، ما دامت في نطاق الممكن لا المستحيل عقلاً.
فلا الذين حكموا العقول في كل شيء أفلحوا، ولا الذين ذموا العقل واتهموا كل من أعمله فهموا أو فقهوا.. وأهل السنة والجماعة دوماً هم الوسط بين هؤلاء و أولئك ..

فهل الأشاعرة ساروا على منهج أهل السنة في هذا التوسط؟؟
 طبعاً، أليسوا هم علماء أهل السنة؟ ...  لكن بعض إخوتنا بكل أسف يخلطون بين المعتزلة، الذين يقدمون العقل على النقل (باعترافهم هم) سواء في العقيدة أو الأحكام الفقهية،  والأشاعرة أهل السنة والجماعة، الذين يعتمدون على العقل في مقدمات العقائد فقط، بشرط ألا يتعارض مع ما ثبت بالنصوص، ثم يثبتون فروع العقيدة كلها وعلوم الغيب بالشرع (أي بالنقل أو النصوص) لأنه لا سبيل لمعرفتها إلا بالوحي..

ولننظر إلى شرح جوهرة التوحيد للباجوري، إذ جاء في البيت التاسع منها:

9- فكل من كلف  شرعاً وجبا.......... عليه أن يعرف ما قد وجبا

(فكل من كلف شرعا): أي وجوب معرفة الله تعالى إنما هو بلسان الشرع، وليس بلسان العقل كما ذهب المعتزلة، فكل فرد من المكلفين من الإنس والجن يجب عليه أن يعرف ما يجب لله تعالى وما يجوز وما يستحيل، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام... ص43
(شرعاً وجبا عليه أن يعرف) المقصود أن المعرفة وجبت بالشرع لا بالعقل، وهذا مذهب الأشاعرة وجمع من غيرهم، فمعرفة الله وجبت عندهم بالشرع، وكذلك سائر الأحكام، إذ لا حكم قبل الشرع لا أصلياً ولا فرعياً.(ص47)
وورد أيضا: الحق أن العقل لا يستقل بشيء أصلاً. فتلخص أن المذاهب ثلاثة: أولاً: مذهب الأشاعرة (وهو أن الأحكام كلها تثبت بالشرع،  لكن بشرط العقل) "يقصد أن التكليف بها يشترط العقل والبلوغ وبلوغ الدعوة...إلخ كما وضح ص43"
ثانيا: مذهب الماتريدية: (وهو أن وجوب المعرفة ثبت بالعقل دون سائر الأحكام) "يقصد أنك تصل لوجود الله تعالى ووجوب توحيده وعبادته وحده بالعقل والتفكر، ثم تتلقى عنه سائر الأحكام من خلال شريعته، فإن لم تؤمن به أولا بعقلك فستكذب كتابه وشريعته، ولن تلتزم بأحكامه، لذا اتفقوا أن أحكام الشرع لا يطالب بها الكافر"
ثالثا: مذهب المعتزلة: (وهو أن الأحكام كلها ثبتت بالعقل)  وهذا مذهب باطل طبعاً.


وأما قولهم أنك تقرأ في كتب الأشاعرة مائة صفحة أو يزيد فلا ترى استدلالا بآية ولاحديث، فباطل طبعا، يدرك ذلك كل من يكلف نفسه فتح أي كتاب للعقيدة ألفه أحد أئمتهم، ويبدأ بتقليب صفحاته، ولنأخذ مثالا على ذلك:

إحياء علوم الدين للغزالي:
الكتاب الأول: كتاب العلم، وفيه سبعة أبواب:
الباب الأول: في فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل.
فضيلة العلم:
شواهدها من القرآن قوله عز وجل: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط}(آل عمران 18). فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا ورجاء ونبلا. وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(المجادلة11)
ثم استمر حجة الإسلام الغزالي يورد من الأدلة ما عددته فوجدته يربو على 18 آية وحديثاً صحيحاً.
والغزالي يسير على هذا المنوال في كل كتابه إحياء علوم الدين، فهل هذا شأن من يقدم العقل على النقل؟؟؟
وقال في بيان العلم الذي هو فرض كفاية: ص30
أما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبيان: فهي محمودة كلها، ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة، فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة. أما المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات، وهي أربعة أضرب: (الضرب الأول) الأصول: وهي أربعة: كتاب الله عز وجل وسنة رسول عليه السلام وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة. وكذا الأثر، فإنه يدل على السنة، لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل، وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه، وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن.
والآن أسألكم بالله عليكم: هل هذا كلام من يقدم العقل على النقل.
وقال ص163 في بيان العلم بأفعال الله تعالى: الأصل الثامن: أن معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه، لا بالعقل، خلافا للمعتزلة، .......
وفي شرح البيت الأول من الجوهرة، وهو:
الحمد لله على صِلاته...................... ثم سلام الله مع صلاته
قال الشارح:  سلام الله: أي تحيته اللائقة بالرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما عنده تعالى كما تشعر به إضافته له تعالى، فالمطلوب تحية عظمى بلغت الدرجة القصوى، وتكون أعظم التحيات لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات، والمراد بالتحية أن يسمعه كلامه القديم الدال على رفعة مقامه العظيم، ولم يرتض بعضهم تفسير السلام بالأمان، لأنه ربما أشعر بمظنة الخوف، مع أن أتباعه {لا خوف عليهم ولاهم يحزنون}. نعم يخاف صلى الله عليه وسلم لكنه خوف مهابة وإجلال، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : (إني لأخوفكم من الله).
وفي شرح البيت الثاني وهو:
على نبي جاء بالتوحيد........... وقد خلا الدين عن التوحيد
نبي مشتق من النبأ وهو الخبر....... أو مشتق من النبوة أي الارتفاع، فبمعنى رافع ومرفوع، لأنه رافع لشأن من اتبعه على غيره ممن لم يتبعه، قال تعالى: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}، ولأنه مرفوع المنزلة. وقد عبر المصنف بلفظ النبي ولم يعبر بالرسول للآية الكريمة: {إن الله وملائكته يصلون على النبي...}
وانظر إلى ص 30 في شرح البيت الخامس:
وبعد فالعلم بأصل الدين.................... محتم يحتاج للتبيين
قال الشارح:  إذ كل أعمال الإسلام بمثابة الثمرة للتوحيد، وقد حتم الشارع الحكيم هذا العلم وأوجبه، ولم يرخص بتركه، فقال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}
وقال أيضا في نفس الموضع: لأن العالم سبقه العدم، وكل ما سبقه عدم فهو حادث، مهما تقادم عليه العهد، وخروجه من العدم إلى الوجود لا يكون إلا بمخرج، لأن العدم لا ينتج شيئا، وقد قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}، وقال تعالى: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}، وجاء في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء غيره).

وإذن ليست المسألة إهمالاً للأدلة الشرعية كما يظنون، ولا تقديماً للعقل على النقل، بل إدراكاً عميقاً لدور كل منهما...

الاستدلال العقلي جزء من المنهج القرآني:

1- فالله تعالى حينما خاطب  المشركين، هل قال لهم عطلوا عقولكم واتبعوا ما يوحى إليكم؟ أم خاطب عقولهم وأمرها بالتفكر، ومن ثم اتباع الوحي عن قناعة وفهم وبصيرة، لا عن عمى وتقليد؟
 إن الديانات المحرفة، والعقائد الفاسدة، هي التي تحتاج لتنحية العقل لإقناع مريديها بها، حتى لا يكتشفوا عوارها، وكم ذم الله تعالى هذا المنهج في القرآن، ووصف أهله بأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وتوعدهم جهنم وساءت مصيراً:
 { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ*} (الأعراف 179)

- وقال فيهم:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ*} (البقرة 170-171)

2- بل خاطب الله تعالى عقول الناس، وأمرهم بإعمالها واستخدامها وعدم تعطيلها، ليكتشفوا أن ما جاء به الرسول هو الحق وهو الهدى، ومن ثم ينبذون ما هم عليه من تقليد للآباء والاجداد في عقائد فاسدة منحرفة، فقال تعالى:
{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ* } (الزخرف23-24)

  3 - وجهنا الله تعالى لإعمال العقل للوصول لوجود الخالق تبارك وتعالى، فقال عز من قائل:

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ*}  (الرعد 3- 4)

{يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ*} (النحل11 - 13)



{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ* وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ*} (الروم 21-23)

فكلها خطابات للعقل، فيمكنكم تلاوة الآية، أو استخدام استدلالاتها، أو أي دليل عقلي يلزم المحاور ويجعله يعترف وتشرق في نفسه حقيقة وجوب وجود خالق مبدع موجد لهذا الكون...

4 - واستدلال آخر بأن الحوادث دليل على وجود المحدث لها القديم في الأزل، الأول والآخر:

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} (الطور35-36)


5 - ووجهنا لإعمال العقل لإدراك وحدانيته

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء22)
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ*} (المؤمنون91)

6- وإعمال العقل لإدراك استحالة وجود ولد لله تعالى:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً{91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً {92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95}}
(مريم 88-95)

هلا تأملنا قوله تعالى{ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا}
هذه الآية تتحدث عن بديهية في العقول والفطر، أن الإله الخالق العظيم لا ينبغي له أن يتخذ ولداً لأن هذا من صفات المخلوقين، والخالق لا يشبه مخلوقاته في أي شيء
فالاستنكار هنا عقلي بحت، أنكر عليهم تفاهة تفكيرهم إذ قبلوا أن يكون ربهم متصفاً بصفات المخلوقات، ولم ينكر عليهم تكذيبهم بخبر صادق مسبق يقول أن الله لا ولد له، يقول "ما ينبغي"، أي لا يجوز وغير ممكن ومستحيل أن يكون للخالق ولد سبحانه.... فالآية هنا ليست مجرد نفي للولد، بل استنكاراً لأن يخطر هذا في البال أصلاً..

7-  والتفكر في هذه الآلهة التي يشركونها مع الله، هل تضرهم أو تنفعهم، ليستدلوا من عجزها على بطلان ألوهيتها، لا إثبات عدم ألوهيتها بالنص.. فإبراهيم عليه السلام لم يثبت بطلان ألوهية الأصنام بنصوص منزلة، بل بتحطيم الأصنام، وترك كبيرهم كما في القصة المعروفة.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ*} ( يونس 18)

8- ووجهنا كذلك لإعمال العقل للاستدلال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا انتظر هذا العمر كله دون شعر ولا نثر ولا مساهمات أدبية، ثم خرج فجأة بهذا الكتاب العظيم، وإن كان تعلمه من نصراني، فكيف يتعلم هذا الكلام العربي المبين من غلام أعجمي؟
{قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ( يونس16)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل103)

9-  ووجهنا لإعمال العقل لاكتشاف معجزة القرآن الكريم، هذا الكتاب المحكم الذي نزل مُنجّماً على مدى 23 عاما، ومع ذلك اتسم بوحدة الأسلوب، ووحدة التشريع وتكامله، لا تناقض فيه ولا اختلاف، ولو كان من عند غير الله لوجدنا فيه تناقضات واختلافات، سواء في الأفكار أو في مستوى الأسلوب، فهو بأسلوبه لا يشبه شعر الشعراء ولا تمتمات الكهان:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء 82)
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ* وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ*} (الحاقة 40-43)


10-  ودعاهم للتفكر في انسجام رسالته مع بقية الرسالات، وهذا دليل عقلي استخدمته بنفسي مؤخرا في الحديث مع إحدى النصارى، لأبرهن لها على أن الإنجيل الحالي ليس كلام الله، لأن رسالته مخالفة لسائر رسالات الأنبياء، فكيف يكون هذا الشذوذ في سلسلة الرسالات:

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}  (الأحقاف9)

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} (النساء 163)



11- ووجهنا ألا نقبل العقائد بالتقليد وتعطيل العقول، بل بالبحث عن البراهين والتفكر
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنبياء 24)



وهذه الأدلة القرآنية هي تعليم وتدريب لنا لاستخدام الجدال العقلي والمناظرات، وليس المقصود بها أن نتلو هذه الآيات القرآنية تحديداً، فقد يكون حوارنا مع أعجمي، فلا بد من ترجمة الكلام له وشرحه له، فالقرآن هنا يعلمنا الاستدلال بهذه الأدلة، لا يقيدنا بها وحدها بحيث يصبح من الإثم استخدام غيرها... لأنها بالبداهة ليست ملزمة إلا لمن آمن بها ابتداء، أي أنها ملزمة لنا نحن المؤمنين...

والشرع وجهنا لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، وهذا بقدر ما يعني تبسيط المعلومات والخطاب لمن لا يفهمه، فهو يعني أيضا مجادلة أهل كل علم بالأدلة التي تناسب علومهم، فأهل الفلسفة والمنطق، يجادلون بعلم الكلام، وأهل العلوم والتكنولوجيا يجادلون بالإعجاز العلمي في القرآن، وأهل الكتاب يجادلون بقصص الأنبياء وحقيقة المسيح وبشارات النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، والوثنيون يجادلون بالتوحيد، والملحدون يجادلون لإثبات وجود الخالق جل وعلا لهم عقلا، وهكذا....

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو جلياً لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد يستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفاًعليها مطلقاً، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم، أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته، لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات، وهذا يسلك معه هذا السبيل."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق