كثيرا ما نجد مفهوم
البدعة يلتبس لدى الناس بمفهوم السنة الحسنة...
وكثيرا ما تختلط
علينا حقيقة هذا المفهوم، بين من يتشدد فيه حتى يرى أن أي تطوع في عبادة أو صلاة
أو دعاء يدخل في مفهوم البدعة، فيعتبر بالتالي ضلالة، وتصبح رسالته في الحياة أن
يصد الناس عن الاجتهاد في الذكر والدعاء والصلاة، خوفاً عليهم من الوقوع في
البدع...
وبين من يتساهل فيه
ويسمي كل محدثة سنة حسنة، حتى إن كانت لا تمت للدين ولا لروحه بصلة، بل هي أقرب ما
تكون لطقوس النصارى أو الوثنيين...
وبين هؤلاء وهؤلاء،
وعند نقطة الوسط، تقبع الحقيقة، فديننا هو دين الوسطية والاعتدال...
وسنحاول هنا –بإذن
الله تعالى- أن نشرح حقيقة البدعة التي يجب إنكارها، واختلافها عن السنة الحسنة
والتطوع في العبادات والطاعات الذي حثنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسار في
دربه قبلنا الصحابة والتابعون وسائر السلف الصالح..
قال جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا
صوته ويقول: " أما بعد فإن خير
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم و شر الأمور محدثاتها
وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"
رواه مسلم
وقالت السيدة عائشة
رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس
منه فهو رد" رواه البخاري
يقول الأستاذ وهبي
سليمان الغاوجي في كتابه: "كلمة علمية هادية في
البدعة وأحكامها":
"قال العلماء إن البدعة التي
ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفر أمته منها هي الأمر المستحدث في الدين
مما يخالف أصول الدين، أو لا ارتباط له بأصول الدين، ولا يدخل في دائرة حدوده، أو
يتفق وروح الدين وقواعده.
فشرطوا في البدعة :
1-
أن تكون في شرائع الدين من العبادات والأحكام، لا فيما يعد من
وسائل العيش والعمل المباح. وقد اتفقوا على أن ما ابتدع من أمور الدنيا ( من وسائل
السير والنقل، والإقامة والسكن ، والمرافق العامة....إلخ) ليس بدعة محظورة.
2-
وأن تكون مخالفة لأصل من أصول الدين ، ولا تدخل في حدوده
ومشمولاته. أما ما كان مقرراً لأصل من أصول الدين ، أوداخلاً في حدوده ويتفق مع
روحه، فلا يشمله كذلك قول الرسول صلى الله
عليه وسلم : " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"
أقوال العلماء
في معنى البدعة
البدعة لغة من
الابتداع ، وهو كل شيء أحدث على غير مثال سابق ، ومنه قوله تعالى: " بديع
السموات والأرض " أي خالقهن ابتداء وعلى غير مثال سابق.
والبدعة اصطلاحاً:
ما خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورد في الحديث الشريف: " كل أمر ليس
عليه أمرنا فهو رد " يعني أن ما كان عليه أمرنا فليس بمردود ولا مرفوض.
قال الإمام الشافعي : البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما
خالفها فهو مذموم.
ولنشرح بأسلوب مبسط فنقول:
هذا التقسيم من حيث معنى الكلمة في اللغة ، فما يكون مستحدثاً مما يوافق أصول الدين وقواعده ، فهو بدعة بالمعنى اللغوي للكلمة، ولكنه لا يعتبر بدعة وضلالة في الدين ، لذا عبروا عنه بالبدعة المحمودة، ومنها قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمع الناس لصلاة التراويح : "نعمت البدعة هذه " فكيف يقول نعمت البدعة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كل بدعة ضلالة، ذلك أن عمر- وهو أفقه الصحابة وهو ممن أمرنا الرسول باتباع سنته – قد فقه أن مراد الرسول ليس ذم كل أمر محدث لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ذم كل أمر محدث فيه مخالفة للسنة.
فمثلاً : صلى
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكيفية معينة ، فأيما مسلم أحب أن يتقرب إلى الله عز
وجل بالإكثار من الصلاة فهو حر في اختيار العدد والوقت لتطوعه ، ورد في الحديث
القدسي : لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به.............."
ولكنه ليس حراً في
تغيير كيفية الصلاة ، بأن يصلي لغير القبلة، أو يقرأ التحيات في القيام ، أو يسجد
ثلاثاً بدل الثنتين في الركعة ، هذه هي البدع الضلالة.
وحثنا الرسول
الكريم على الصيام ، فأي يوم صمناه تقرباً إلى الله تعالى – غير الأيام المحرمة أو
المكروهة- فهو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مانع أبداً من أن نختار لذلك
أياما تحمل ذكرى معينة ونشجع بعضنا على صيامها كيوم الهجرة أو المولد، ولكن البدعة
أن نغير كيفية الصوم فمثلاً نصوم إلى العشاء بدل المغرب زيادة في الاجتهاد ، فهذه
بدعة لأنها خالفت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا بتعجيل الفطور.
ولم ينهَ الرسول صلى
الله عليه وسلم إلا عن صيام يومي العيدين وأيام التشريق فهذه محرمة، كما نهى عن
صيام يوم الشك و إفراد يوم الجمعة بالصوم لأنه عيد المسلمين أو إفراد يوم الأحد أو السبت بالصوم مخالفة
لليهود والنصارى، فهنا الصوم يكره، أما إذا وصلها المسلم بغيرها من الأيام فلا
كراهة في ذلك.
وحبيبنا محمد صلى
الله عليه وسلم لم ينهَ عن صيام يوم الإسراء والمعراج ، ولا يوم الهجرة ، ولا ذكرى
المولد ، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم في ذكرى المولد كل أسبوع لا كل سنة ،
إذ لما سئل صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين قال: " ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت فيه
"(رواه مسلم)
وهكذا نجد أن النهي
عن صيام تلك الأيام ، وثني المسلمين عن التقرب إلى ربهم فيها هو البدعة ،
إذ لم يفعل ذلك (أقصد النهي) الرسول صلى
الله عليه وسلم ولا صحابته من بعده.
قال الحافظ ابن حجر
- عند الكلام على قول عمر رضي الله عنه في
صلاة التراويح : (بدعة ونعمت البدعة ) - : البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة.
والتحقيق أنه إن كانت مما يندرج
تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح فهي قبيحة، وإلا فهي
من قسم المباح.
( من فتح الباري 4\
253 )
وقال القاضي أبو
بكر بن العربي رحمه الله عند شرحه لقول الرسول
صلى الله عليه وسلم "إياكم
ومحدثات الأمور" قال: اعلموا – علمكم الله – أن المحدث على قسمين : محدث ليس
له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة ، فهذا باطل قطعاً – يعني هو المراد ببدعة الضلالة- ، ومحدث يحمل النظير
على النظير ، فهو سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء - يعني
فليس المراد به بدعة الضلالة– وليس
المحدث والبدعة مذموماً للفظ محدث وبدعة ولا لمعناهما ، فقد قال الله تعالى :
" وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقال عمر رضي الله عنه : "
نعمت البدعة " . وإنما يذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة. ( من عارضة الأحوذي في شرح صحيح
الترمذي 10\146 )
وقال الإمام النووي
رحمه الله تعالى في " تهذيب الأسماء واللغات" البدعة – بكسر الباء- في الشرع : إحداث ما لم يكن في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.
أدلة على
محدثات لا تعتبر بدعة إجماعاً:
**آثار تدل
على محدثات وقعت في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، بعد وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم:
1-
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق. قال أبو بكر لزيد
بن ثابت رضي الله عنهما: إنك شاب لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: كيف تفعلان شيئا (يقصد أبا بكر
وعمر) لم يفعله رسول الله؟ قال: هو والله خير.
2-
مقاتلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه للذين منعوا الزكاة من
العرب واجتهاده في اعتبارهم مرتدين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف تقاتل
الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله ، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه؟ فقال أبو بكر: والله
لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. فأطاعه كل الصحابة رضي
الله عنهم.
3-
توحيد القراءات على مصحف واحد وإحراق ما سواه من المصاحف في
عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
4-
جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس لصلاة التراويح على
إمام واحد راتب.
5-
روى الطبراني - بسند رجاله ثقات – عن أنس بن مالك رضي الله
عنه أنه كان إذا ختم القرآن الكريم جمع أهله وولده ودعا لهم.
6-
روى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
أنه قال: إني لأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشر ألف مرة ، وذلك على
قدر ذنبي.
7-
روى الطبراني برجال الصحيح عن أبي مدينة الدارمي رضي الله عنه
قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على
الآخر سورة "والعصر. إن الإنسان لفي خسر"
هذه نماذج لما
استحدثه الصحابة رضوان الله عليهم بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلقتها
الأمة بالقبول ، ولم يكن الرسول معهم ليقرهم على فعلهم كما يشترط البعض، فيدّعون
أن المحدث على عهد الرسول لا بأس به إذ الرسول معهم يقره أو ينكره، فهذه الأمور
كلها حدثت بعد عهده صلى الله عليه وسلم.
**آثار تدل على أمور مستحدثة وقعت بعد عهد
الصحابة رضوان الله عليهم، وتلقتها الأمة بالقبول:
1-
تعدد الجمعة. قال
البيهقي في السنن: لم ينقل أنه أذن لأحد في إقامة الجمعة في مسجد من مساجد
المدينة، ولا في القرى التي بقربها. وقال ابن المنذر: لم يختلف الناس أن الجمعة لم
تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتعدد المساجد التي تقام فيها الجمعة في البلد
الواحد إلا في أيام المتأخرين من الخلفاء العباسيين، ثم جرى الأمر على ذلك في سائر
بلاد المسمين وعصورهم، ولم ينكره أحد.
2-
ضاق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصلين، وتمت توسعته
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد عمر بن الخطاب، ثم في عهد عثمان رضي
الله عنهما من جهة القبلة، ولكن التوسعة الكبيرة والمستحدثة كانت أيام ولاية عمر
بن عبد العزيز على المدينة المنورة في خلافة الوليد بن عبد الملك، إذ ضم بيوت
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وفيها موضع قبره صلى الله عليه وسلم،
وأقام للمسجد أربع منائر، ولم يقل أحد إن عمر بن عبد العزيز ابتدع في جعل قبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
3-
تدوين الحديث الشريف، وجمعه في كتب الصحاح، وقد كان الصحابة
يتحرجون من ذلك خوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن. ولا يمكن لقائل أن يقول إن هذا من
أمر الدنيا لا من أمر الدين.
4-
الاشتغال بعلم مصطلح الحديث، بما في ذلك علم الرجال، وعلم
الجرح والتعديل، فوضع العلماء رتبا مختلفة للرواة، فهذا ثقة ثقة، وذاك ثبت، وذلك
صدوق، والآخر صويلح، وأحدهم مدلس.....إلخ. ولم يقل أحد إن هؤلاء العلماء الأجلاء
يغتابون الناس، أو يسيئون القول في الموتى.
5-
بدأت الكتابات في القراءات السبع والعشر للقرآن الكريم،
والمراد بها في المائة الثالثة للهجرة، ولم يقل أحد إن ذلك أمر لم يكن في عهد رسول
الله ولا صحابته، وأنه بدعة ضلالة.
6-
الاشتغال بعلوم السيرة، وتدوينها، وعلوم النحو والصرف، وعلم
التوحيد، وغير ذلك.
من هذا نرى أنه ليس
كل ما أحدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر بدعة ضلالة، وهذا يعني أن حديث كل
بدعة ضلالة هو حديث عام، وله ما يخصصه، ولا يمكن إطلاقه هكذا. وهذا ما سنناقشه إن
شاء الله تعالى بالتفصيل فيما يلي.
أحاديث تدل على
ما اتفق عليه العلماء من تخصيص حديث " كل بدعة ضلالة"
1-
الحديث الأول : روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن جرير بن عبد
الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "
من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من
أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من
غير أن ينقص من أوزارهم شيء."
قال النووي: وفي
الحديث الحث على الابتداء بالخيرات ، وسن السنن الحسنات، والتحذير من الأباطيل
والمستقبحات. وفي الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : " كل محدثة بدعة وكل بدعة
ضلالة " وأن
المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة.
2-
روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من استن خيراً فاستن به كان له أجره كاملاً ، ومن أجور
من استن به لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن استن سنة سيئة فاستن به فعليه وزره كاملاً،
ومن أوزار الذي استن به، لا ينقص من أوزارهم شيئاً ".
3-
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " . وفي بعض ألفاظه : "من أحدث في ديننا ما ليس
منه فهو رد". قال ابن رجب : هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن
كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو
غير مردود. وقال الشيخ عبد الله الصديق: هذا الحديث مخصص لحديث: "كل
بدعة ضلالة" ومبين للمراد منها كما هو واضح. إذ لو كانت البدعة ضلالة
بدون استثناء لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد. لكن لما قال :
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أفاد أن المحدث
نوعان: أ- ما ليس من الدين: بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله فهو مردود،
وهو البدعة الضلالة. ب- ما هو من الدين: بأن شهد له أصل أو أيده دليل فهو
صحيح مقبول وهو من السنة الحسنة. (انتهى)
وأقول: إن
المتشددين في مفهوم البدعة والذين يسحبونه على كل دعاء أو صلاة أو ذكر لم يرد
بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يتأولون معنى السنة الحسنة التي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم من سنها
بالأجر الجزيل، ويقولون إن معناها من نشر سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم،
وهذا تأويل سقيم واضح البطلان، لأن هذا يكون قد نشر سنة من سنن النبي صلى الله
عليه وسلم، وثوابه مذكور في أحاديث أخرى،
ولا يقال عنه أنه قد سن سنة حسنة،
أي ابتدأ هو بعمل صالح ، فاستن الناس به وقلدوه، وإنما هي سنة النبي صلى الله عليه
وسلم، ولا يمكن نسبتها إليه.
وقد انساق بعض
الناس في التشدد والإنكار على كل اجتهاد في العبادة لم يجدوه منصوصاً عليه في
الأحاديث، حتى وإن كان قد ورد النص عليه في صريح آيات القرآن الكريم، فقالوا عن
بعض الأدعية الواردة عن الصالحين: إن الدعاء بها بدعة، والله يقول: "ادعوني أستجب لكم". وقالوا إن الذكر بلفظ
الجلالة (الله) مجرداً بدعة، والله تعالى يقول: "واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا". بل وصل بهم الأمر إلى
الرمي بالبدعة ما صح عن الصحابة والتابعين، فيقولون إن الزيادة على الثماني ركعات
في التراويح بدعة، رامين عرض الحائط بفعل الخليفة الراشد المهدي عمر بن الخطاب، بل
بلغت الجرأة ببعضهم أن يقول: "سنة رسول الله أحب إلينا من سنة عمر"
وكأنه هو وقد جاء بعد عصر النبوة بقرون، سيكون أكثر علماً بسنة رسول الله ومقاصدها
من صاحبه وصهره وخليفته الثاني، الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم:
" إيها يا ابن الخطاب ، والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا
سلك فجا غير فجك." (صحيح البخاري)
وقالوا إن التكبير الجماعي أيام العيدين بدعة، رغم أنه ثابت عن ابن عمر رضي الله عنهما ، فقد كان يكبر، فيكبر الناس بتكبيره حتى ترتج المدينة من التكبير.
وقالوا إن تقبيل
المصحف بدعة ، مع أنه ثابت عن عمر بن عبد العزيز
رحمه الله.
وهكذا
................ حتى حولوا الدين إلى مجموعة من القوالب الحديدية الجامدة، وصار
همهم بدل إنكار المنكر، محاربة عباد الله الطائعين المجتهدين، والتنقيب وراءهم في
كل حركة وسكنة لعلهم يظفرون منهم بفعل ما يمكن أن يصفونه بأنه بدعة.
والغريب في الأمر
أنهم هم أنفسهم ابتدعوا أموراً، يجب أن تعتبر بحسب قواعدهم بدعة محدثة، من ذلك قيام
الليل الجماعي في العشر الأواخر من رمضان في المساجد، وتأخير أذان العشاء نصف ساعة
في رمضان، وختم القرآن في المساجد في ليلة 28 من رمضان، ثم ختمه في الحرمين في
ليلة 29، والدعاء بدعاء ابن تيمية في ختم القرآن، مع أنه ليس دعاءً مأثوراً عن
النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يبدأ بقولهم (صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو
المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال... إلخ
) ومنع النساء من الصلاة في الروضة الشريفة في المسجد النبوي، وإغلاق الأسواق عند
كل صلاة، مع أن المأمور به إغلاقها عند صلاة الجمعة فحسب، إلى غير ذلك من محدثات
أحدثها شيوخهم، فقبلوها واتبعوها، ولم يتهموها بأنها بدعة، فلماذا الكيل بمكيالين؟
ويستشهد بعضهم ببعض
الآثار التي وردت عن بعض الصحابة في استنكارعبادات أحدثها بعض التابعين، فلنستمع
للشيخ سعيد حوى يناقش هذه الشبهة، في كتابه "الإجابات":
س8- لقد دعوتَ إلى اعتماد الاجتماع على الذكر ومنه
الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب تربيتنا الروحية كوسيلة من وسائل
النهوض بالهمة، مع العلم بأن بعضهم يعتبر ذلك بدعة فما دفاعك عن مثل هذا؟ خاصّة
وهم يستشهدون بموقف ابن مسعود من مثل ما دعوت إليه:
فقد أخرج الدارمي
(1/68) بسند صحيح، والإمام أحمد في "الزهد" وأبو نعيم في
"الحلية": "أن نفراً من التابعين كانوا جالسين على باب عبد الله بن
مسعود، فجاء أبو موسى الأشعري فجلس معهم، فلما خرج ابن مسعود قال له أبو موسى
الأشعري: "يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر
والحمد لله إلا خيراً"، قال: ما هو؟ فقال: "إن عشت فستراه، رأيت في
المسجد آنفاً قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى،
فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا
مائة، فيسبحون مائة" قال ابن مسعود: فماذا قلت لهم؟ قال أبو موسى: ما قلت لهم
شيئاً انتظار رأيك، أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم
ألا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف
عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به
التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم
شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم؟ هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون وهذه ثيابه لم
تَبْلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو
مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، فقال: وكم
مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله حدثنا: "إن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز
تراقيهم" وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن
سلمة: "رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج".
جـ8- إن مذهب الصحابي إذا تعارض مع النصوص الصحيحة الصريحة المرفوعة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يترك، وهذا الذي يستشهد بحادثة ابن مسعود من
أكثر الناس إقراراً بذلك وأخذاً له، (يقصد المذهب
الحنبلي عموماً) وههنا الأمر كذلك فقد ورد حديث صحيح صريح في الاجتماع على
الذكر، وفهمه ابن حجر وهو من أئمة الحديث بأن المراد منه الاجتماع على التسبيح
والتحميد لا كما يحاول بعضهم أن يحمله على العلم، وها أنذا أذكر لك الحديث وأذكر
لك بعد ذلك كلام ابن حجر في الفتح ثم أعقب على ذلك بكلام السيوطي وهو محدث فقيه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر،
فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلمّوا إلى حاجتكم، فيحفونهم
بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم – وهو أعلم - : ما يقول عبادي؟ قال:
يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا
والله ما رأوك. فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة،
وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك
الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يارب ما رأوها. قال: يقول:
فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشدّ لها
طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فممّ يتعوذون؟ قال: يقولون: يتعوذون من النار، قال:
فيقول وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. فيقول: كيف ولو رأوها؟ قال:
يقولون: لو رأوها كانوا أشدّ منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم
أني قد غفرت لهم قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة
قال: قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" متفق عليه.
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة
سيارة فضلاء يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكرٌ قعدوا معهم، وحفّ
بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا
وصعدوا إلى السماء فيسألهم الله عز وجل – وهو أعلم - : من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا
من عند عبادٍ لك في الأرض: يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال:
وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب. قال:
فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجرونك قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب.
قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك؟
فيقول: قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: يقولون ربّ
فيهم فلانٌ عبدٌ خطاء إنما مرّ فجلس معهم. فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم
جليسهم".
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: قوله (يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك)
زاد إسحق وعثمان عن جرير "ويمجدونك" وكذا لابن أبي الدنيا، وفي رواية
أبي معاوية "فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك" وفي رواية
الإسماعيلي "قالوا ربنا مررنا بهم وهم يذكرونك الخ" وفي رواية سهيل
"جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك
ويسألونك" وفي حديث أنس عند البزار "ويعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون
على نبيك ويسألونك لآخرتهم وديناهم" ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس
الذكر وأنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير
وغيرهما وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي
دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة
النافلة في هذه المجالس نظر، والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير
ونحوهما والتلاوة فحسب، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من
جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى. وقال رحمه الله: وفي الحديث فضل مجالس
الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل
الله تعالى به عليهم إكراماً لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة
بني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر من السائل وهو أعلم بالمسئول عنه
من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنويه بقدره والإعلان بشرف منزلته.
وقيل إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس
لك) فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط
عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس، وقيل
إنه يؤخذ من هذا الحديث أن الذكر الحاصل من بنى آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من
الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب،
بخلاف الملائكة في ذلك كله". وقد ذكر السيوطي في كتابه (الحاوي للفتاوي)
سؤالاً وأجاب عليه وهذه صيغة السؤال والجواب. سألت أكرمك الله عما اعتاده الصوفية
من عقد حلق الذكر والجهر به في المساجد ورفع الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه أولا؟
الجواب – أنه لا كراهة في شيء من ذلك وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر
– وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال
والأشخاص كما جمع النووي بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة
القرآن [والأحاديث] الواردة باستحباب الإسرار بها وها أنا أبين ذلك فصلاً فصلاً.
(ذكر الأحاديث الدالة
على استحباب الجهر بالذكر تصريحاً أو التزاماً)
(الحديث الأول) أخرج البخاري عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله -: "يقول الله: أنا
عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في
ملأ ذكرته في ملأ خير منه" والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر.
(الحديث الثاني) أخرج البزار،
والحاكم في المستدرك وصححه عن جابر قال: "خرج علينا
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف
على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال:
مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله".
(الحديث الثالث) أخرج مسلم،
والحاكم واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سيارة وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في
الأرض فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضهم بعضاً ...... الحديث)
( الحديث الرابع) أخرج مسلم،
والترمذي عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله إلا
حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده".
(الحديث الخامس) أخرج مسلم،
والترمذي عن معاوية "أن النبي صلى الله عليه وسلم
خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده فقال: إنه
أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة".
(الحديث السادس) أخرج الحاكم
وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا
مجنون".
(الحديث السابع) أخرج البيهقي
في شعب الإيمان عن أبي الجوزاء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم
مراءون" – مرسل، ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أن ذلك إنما يقال عند
الجهر دون الإسرار.
(الحديث الثامن) أخرج البيهقي
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا
مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: حلق
الذكر".
(الحديث التاسع) أخرج بقي بن
مخلد عن عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه
وسلم مر بمجلسين أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه والآخر يعلمون العلم فقال:
كلا المجلسين خير وأحدهما أفضل من الآخر".
(الحديث العاشر) أخرج البيهقي
عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء قوموا
مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات".
(الحديث الحادي عشر) أخرج
البيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الرب تعالى يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع اليوم من
أهل الكرم فقيل ومن أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر في المساجد".
(الحديث الثاني عشر) أخرج
البيهقي عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه
يا فلان هل مر بك اليوم لله ذاكر؟ فإن قال نعم استبشر ثم قرأ عبد الله (لقد جئتم
شيئاً إدّاً تكاد السموات يتفطرن منه) الآية وقال أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير.
(الحديث الثالث عشر) أخرج ابن
جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله: (فما بكت عليهم السماء والأرض) قال: إن
المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر الله فيه، وأخرج
ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال: إن المؤمن إذا مات نادت بقاع الأرض عبد الله
المؤمن مات فتبكي عليه الأرض والسماء فيقول الرحمن: ما يبكيكما على عبدي فيقولون:
ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكرك. وجه الدلالة من ذلك أن سماع الجبال
والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به.
(الحديث الرابع عشر) أخرج
البزار، والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: عبدي إذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً
وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكثر".
( الحديث الخامس عشر) أخرج
البيهقي عن زيد بن أسلم قال: قال ابن الأدرع "انطلقت
مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فمر برجل في المسجد يرفع صوته قلت: يا رسول الله
عسى أن يكون هذا مرائياً؟ قال: "لا ولكنه أواه" وأخرج البيهقي عن
عقبة بن عامر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لرجل يقال له ذو البجادين إنه أواه وذلك أنه كان يذكر الله"، وأخرج
البيهقي عن جابر بن عبد الله أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل: لو أن هذا
خفض من صوته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه
فإنه أواه".
(الحديث السادس عشر) أخرج
الحاكم عن شداد بن أوس قال: "إنا لعند النبي صلى
الله عليه وسلم إذ قال: ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا الله ففعلنا فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها
الجنة إنك لا تخلف الميعاد ثم قال أبشروا فإن الله قد غفر لكم".
(الحديث السابع عشر) أخرج
البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم فيقول الله تعالى:
غشوهم برحمتي فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
(الحديث الثامن عشر) أخرج
الطبراني، وابن جرير عن عبد الرحمن بن سهل ابن حنيف قال: "نزلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته (واصبر نفسك مع الذين يدعون
ربهم بالغداة والعشي) الآية فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله تعالى منهم ثائر
الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل
في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم"
.
(الحديث التاسع عشر) أخرج
الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال: "كان سلمان في
عصابة يذكرون الله فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا فقال: ما كنتم تقولون؟ قلنا
نذكر الله قال إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ثم قال: الحمد
لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم".
(الحديث العشرون) أخرج
الأصبهاني في الترغيب عن أبي رزين العقيلي "أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري
الدنيا والآخرة؟ قال: بلى، قال: عليك بمجالس الذكر وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر
الله".
(الحديث الحادي والعشرون) أخرج
ابن أبي الدنيا، والبيهقي والأصبهاني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح
إلى أن تطلع الشمس أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد
العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إليّ من الدنيا وما فيها".
(الحديث الثاني والعشرون) أخرج
الشيخان عن ابن عباس قال: إن رفع الصوت بالذكر حين
ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس كنت
أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.
(الحديث الثالث والعشرون) أخرج
الحاكم عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له
الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا
عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وبنى به بيتاً في الجنة" وفي
بعض طرقه "فنادى".
(الحديث الرابع والعشرون) أخرج
أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه، والنسائي وابن ماجه عن السائب أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل فقال: مر أصحابك
يرفعوا أصواتهم بالتكبير".
(الحديث الخامس والعشرون) أخرج
المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان
السوق أيام العشر فيكبران لا يأتيان السوق إلا لذلك، وأخرج أيضاً عن عبيد بن عمير
قال: كان عمر يكبر في قبته فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل
السوق حتى ترتج منى تكبيراً، وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس
وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها.
(فصل) إذا تأملت ما أوردنا من
الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر بل فيه ما يدل
على استحبابه إما صريحاً أو التزاماً كما أشرنا إليه، وأما معارضته بحديث
"خير الذكر الخفي" فهو نظير معارضه أحاديث الجهر بالقرآن بحديث المسر
بالقرآن كالمسر بالصدقة، وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف
الرياء أو تأذي به مصلين أو نيام والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر ولأن
فائدته تتعدى إلى السامعين ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه
إليه ويطرد النوم ويزيد النشاط".
وقال الأستاذ البنا رحمه الله:
(4- الذكر في جماعة:
ورد في الأحاديث ما يشعر باستحباب الاجتماع على الذكر ففي الحديث الذي
يرويه مُسلم: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم
الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده". وكثيراً ما ترى في
الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم خرج على جماعة وهم يذكرون الله في المسجد فبشرهم
ولم ينكر عليهم. والجماعة في الطاعات مستحبة في ذاتها ولا سيما إذا ترتب عليها
كثير من الفوائد مثل: تألف القلوب، وتقوية الروابط، وقضاء الأوقات فيما يفيد،
وتعليم الأمي الذي لم يحسن التعلم وإظهار شعيرة من شعائر الله تعالى. نعم إن
الجماعة في الذكر تكره إذا ترتب عليها محظور شرعي كالتشويش على مصلّ، أو لغو وضحك،
أو تحريف للصيغ، أو بناء على قراءة غيره، أو نحو ذلك من المحظورات الشرعية، فحينئذ
تمنع الجماعة في الذكر لهذه المفاسد لا للجماعة في ذاتها وخصوصاً إذا كان الذكر في
جماعة بالصيغ المأثورة الصحيحة، كما في هذه الوظيفة التي جمعها الأستاذ البنا من
السنة النبوية فحبذا لو اجتمع الإخوان على قراءتها صباحاً ومساءً في ناديهم أو في
مسجد من المساجد مع اجتناب هذه المكروهات. ومن فاتته الجماعة فيها فليقرأها
منفرداً ولا يفرّط في ذلك).
لقد رأيت فيما ذكرناه لك كلام
ابن حجر، وكلام السيوطي، وكلام حسن البنا وهم من أعلام الهدى فهل ترى عليّ من حرج
فيما بنيت عليه من كلامهم؟ على أن حادثة ابن مسعود يمكن أن تحمل على معنى
آخر، فقد رأينا أن أكثر هؤلاء الذين كانوا مجتمعين قد قتلوا على الخارجية
فلربما توسم فيهم ابن مسعود معنى اجتمعوا من أجله، أو توسم فيهم أنهم على أبواب
غلو فأنبأهم، أو أنهم فعلوا هذا من عند أنفسهم دون دليل، وعلى كل حال فقد يكون
مذهب ابن مسعود مذهب من يفهم هذا النوع من النصوص التي نقلناها أنها في العلم وهو
مذهب مرجوح كما رأينا وعصرنا أولى العصور باعتماد المذهب الراجح لما في الاجتماع
على الذكر من فوائد قلبية وروحية تغسل بها الأوضار وتمحى بها الذنوب وتستجاش بها
عواطف الإيمان. انتهى
ولا شك أن
العبادات الأصل فيها التوقف، ولا يجوز فيها القياس ولا الاستحداث، وإلا لاستطاع كل
من أراد أن يشوه دين الله أن يزيد فيه ما شاء، وقد ختم الله تعالى الدين، وقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}...
وإنما يجوز للمسلم أن يجتهد في التزود من العبادات من جنس مافرضه الله تعالى، بمعنى أن الله تعالى شرع الدعاء، فيجوز لنا أن ندعو في أي وقت وعلى أية حال مالم ندعُ بمعصية أو إثم.
وإنما يجوز للمسلم أن يجتهد في التزود من العبادات من جنس مافرضه الله تعالى، بمعنى أن الله تعالى شرع الدعاء، فيجوز لنا أن ندعو في أي وقت وعلى أية حال مالم ندعُ بمعصية أو إثم.
وشرعت لنا الصلاة المسنونة ركعتين بكيفية معينة، فيجوز لنا أن نصلي بهذه الكيفية وحدها، لكن في أي وقت من ليل أو نهار إلا الأوقات المنهي عنها...
ويمكن لي أن ألزم نفسي بهذا، لأن أحب العبادات إلى الله أدومها وإن قل، لكن لا يجوز لي أن أزعم أنه شرع ودين وألزم به غيري قسراً...
وهذه النقطة هي محل خلاف بيننا وبين الإخوة السلفيين، فبعض المتشددين منهم ينهون حتى عن العبادات المشروعة إن لم يرد نص بكيفيتها ووقتها ... حتى إن بعض المساجد في المملكة لا يصلون مثلاً في العشر الأواخر ولا الأوائل من رمضان إلا ثماني ركعات من التراويح... وفي العشر الأواخر يقسمونها إلى أربع بعد العشاء، وأربع في التهجد!!.. وينهون عن التكبير الجماعي في العيد بحجة أنه لم يرد فيه نص، ويرون أن يكبر كل شخص منفرداً حتى يتحول المسجد لضجيج وفوضى... إلخ... وهذا ما ننكره عليهم ونعتبره فهماً خاطئاً لمفهوم البدعة..
واختلافنا هنا ليس على أن الابتداع في العبادات يجوز أو لا يجوز، بل على مفهوم ما يسمى بدعة شرعية مذمومة، وما لا يسمى..
ولمزيد من لتوضيح
سنورد بعض الأمثلة على البدع الواجب إنكارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق