من
كتاب:ركائز الإيمان بين العقل والقلب
للشيخ
محمد الغزالي
"بين
التصوف الإسلامي والتصوف الأجنبي"
الموضوع الفريد والصحيح للتصوف الإسلامي مكون من ثلاثة عناصر:
أولها جعل الإيمان النظري شعوراً نفسياً غامراً وتحويله من عقل يتصور إلى قلب يعي ويتحرك
ثانيها :تهذيب النفس-على ضوء نسبها الإلهي- حتى تكون بنمائها واكتمالها أهلاً للعبودية. ومقتضى ذلك أن يكون الإنسان مستجمعاً للفضائل متنزهاً عن الرذائل، حتى يرشحه هذا الترقي لقبول الله ورضوانه.
آخرها: النظر إلى الوجود الصغير في هذه الحياة على أنه جزء من الوجود الكبير الممتد بعد الموت، فلا اغترار بالدنيا ولا استيحاش من الله، ولا ضيق بالعودة إليه.
وهذه العناصر معروفة في سيرة الرسول وأصحابه، بل وفي سيرة الأنبياء وحوارييهم على اختلاف العصور، وجمع حقائقها تحت اصطلاح علمي تصرف مألوف في المدنيات الإنسانية، فقد قبلنا علم العروض وانتفعنا بدراسته وهو علم لم يعرفه من قبل أئمة الشعر في الجاهلية أو صدر الإسلام، فهم قد سبكوا عواطفهم على إيقاع من موسيقى الفطرة وأرسلوها قصائد تروى وتغنى، ثم جاء من بعدهم مَن كشف أسرار هذه الموسيقى وبحورها المختلفة، فصاغ منها قواعد وأسس علم العروض، وإن كانت مجرد دراسته لا تنشئ شعراً ولا تكوّن ملكة الأدب، لكنها تضبط نظم المحدثين وتحميهم من الخطأ.
وسلفنا الصالح كان يستجمع في حياته النفسية والاجتماعية العناصر الثلاثة التي سردناها آنفاً، لكنه لم يعرف كلمة تصوف، ولم ينتسب إلى فرقة ما من فرقه. كان سلفنا الأول يجيد النطق دون معرفة النحو، وكان يجيد التفكير والاستنتاج من غير أن يدرس المنطق، ثم نشأت علوم الدين واللغة مع الحاجة إليها..
وظهر التصوف مع ما ظهر من دراسات وإن كان قد نشأ سلوكاً ونمطاً في الحياة، قبل أن يكون علماً ينتمي إلى أسرة العلوم الدينية، ولما كان الإسلام ينبع من أصول معروفة هي كتاب الله وسنة رسوله فإن أي علم من علومه محكوم طوعاً أو كرهاً بهذه الأصول، وليس يُتصور أن يتضمن أحد هذه العلوم شيئاً مخالفاً لتلك المصادر القائمة المهيمنة، إلا إذا تصورنا أن علم النحو يتضمن رفع المفعول ونصب الفاعل، مراغما بذلك تراث اللغة كله.
فالتصوف نزعة إنسانية عامة، تلتقي فيها الطبيعة النفسية لبعض الناس مع طبيعة الإيمان العميق بأي دين.
وفي الكتاب والسنة ينابيع لليقين الحي والإخلاص المبرأ، والناس تحب صنوف الجمال وتبحث عنها، فإذا كان المرهقون يقصدون الحدائق ابتغاء الخضرة اليانعة، والهواء النقي، والأزهار البهيجة، والروائح العاطرة، فإن الأرواح الناشدة للجمال، الهافية للخير والرضا تجد ما تريد في آي القرآن وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، حقائق يسجد لها العقل وينفسح لها الصدر في كساء من الأدب الراقي والعرض الشائق، يؤسس الإخلاص والولاء لله وحده.
والتصوف الإسلامي في صورته المقبولة لا يعدو أن يكون مزيداً من الصلة بالله والاعتصام به والتبتل إليه، وهذا ما يجعل العابد عاشقاً للصلاة، آلفا للصيام، بذّالا للمال، متحلياً بالفضائل، نافراً من الدنايا، متحمساً للحق، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، متخففاً من مطالب النفس، متكبراً على إغراء الدنيا ... متتبعاً لشعب الإيمان كلها يقيمها في نفسه وفيمن حوله.
قد تقول: تلكم الخلال هي مطالب
الإسلام من كل مسلم، فلا وجه لتخصيصها بفريق دون فريق، ونجيب: لا تخصيص هنالك،
وإنما يتفاوت الناس سبقاً واقتصاداً، ويتفاوتون ضبطاً للعاطفة واندفاعاً معها.
في مجال العاطفة الفوّارة والقلب الخفّاق، بحب الله ورسوله، ولد التصوف الإسلامي الأول دون أن يحمل بداية هذا العنوان، ولا يتصور عاقل أن يخرج هذا المسلك عن نطاق الكتاب والسنة. بيد أن للعاطفة الإنسانية في كل زمان ومكان اهتزازات تحتاج إلى ضبط، وقد فطن العلماء في هذا الميدان إلى ذلك من قديم، فأكدوا أن الانحراف قيد أنملة عن الكتاب والسنة يعد عصياناً، ويعزل صاحبه عن الصراط المستقيم.
ويظهر أن اسم التصوف لم يعرف
إلا في المائة الثانية للهجرة، وكان القوم يلقبون بالزهاد قبل ذلك.
- وقد عرّف أبو حامد التصوف
بأنه: تجريد القلب لله تعالى، واحتقار ما سواه.
وقال عبد القادر الكيلاني في
كتاب الفتح الرباني: الصوفي من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله عز وجل، وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم.
- وقال الجنيد وهو سيد
المتصوفة: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال:
من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا العلم، لأن علمنا ومذهبنا
مقيد بالكتاب والسنة.
- وقال أبو يزيد البسطامي لبعض
أصحابه: قم حتى تنظر هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية –وكان رجلاً مشهوراً
بالزهد- فمضينا، فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببزاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو
يزيد ولم يسلم عليه، فقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه.
وقال: لو نظرتم إلى رجل أعطي
الكرامات حتى تربع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر
والنهي، وحفظ حدود الشريعة، وإلا فهذا استدراج.
- وقال أبو سليمان الداراني:
ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبل شيئا منها إلا بشاهدين
عدلين: الكتاب والسنة.
- وقال ذو النون المصري: من
علامات المحب لله سبحانه وتعالى متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله
وأخلاقه، وأوامره وسننه.
- وقال أبو سعيد الخراز: كل فيض
باطن، يخالفه ظاهر الدين فهو باطل.
غير أن التصوف بعد أن طال عليه الأمد اختلط بأوحال كثيرة، وتسللت إليه الأفكار ذاتها التي تسللت إلى النصرانية من الوثنية الهندية، حتى آثر البعض الإعراض عن هذا التراث كله، لكثرة ما طفحت به بعض الكتب من أباطيل وترهات، لكن الإنصاف يقتضي منا التمحيص وتمييز الخبيث من الطيب.
وما سعينا وراء هذا العلم إلا لأنا لم نجد في بقية علوم الدين ما يقوم بوظيفة التربية القلبية والإيقاظ العاطفي للنفس الإنسانية، والإسلام لا يستغني أبداً عن هذا الجانب.
أعرف دارسين للدين بارعين في
شتى علوم، ولكن قلوبهم خواء، وبواطنهم ما تتحرك فيها إلا غرائز العوام، ومطالب
الدنيا. إن الدين ما ينتفع بألسنة هؤلاء، إلا أن تحيا قلوبهم بعد ممات، وتهتز
بخشية الله اهتزاز الأرض بالنبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق