المذاهب الأربعة، والخلافات الفقهية
هل أحس أحدكم يوماً
بنعمة الاجتهاد التي أُمرنا بها في الإسلام على مستوياتنا المختلفة، بل واختُصِصنا
بها من بين الأمم؟
فعالم الحديث عليه
أن يجتهد في تخريج الحديث، وقد يختلف مع غيره من العلماء في تقوية الحديث أو
تضعيفه، فيتحاجّون ويتناظرون، ويمحصون الأدلة والشواهد.
وعالم الفقه يجتهد
لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وقد يختلف استنباطه أو
استدلاله مع اجتهاد نظير له، فيتناقشان ويتحاوران، وينظران ويفكران..
وأنت كمسلم عادي،
مأمور إذا كنت في فلاة أن تجتهد لتعرف اتجاه القبلة، وتجتهد لتميز مواقيت
الصلاة...
فتفكر ... وتبحث... وتستدل...
وترى أحياناً في
المسألة الفرعية الواحدة عدة آراء، لعدة علماء، فتسأل عن دليل هذا، ودليل ذاك،
وتحاول رغم قلة علمك، أن تقارن وتنظر أيهم كانت حجته أقوى، واستدلاله مقنع أكثر...
لماذا لم يحدد الله
سبحانه لنا هذه الدقائق والأمور الفرعية، بحيث يرتاح المسلمون من الاختلاف والنقاش
والمحاجّة؟ ويكونون كلهم على مذهب واحد، ورأي واحد؟
لو شاء الله تعالى
أن يقدر ذلك لكان...
أما حدد لنا مثلاً
أن اليد يجب أن تغسل في الوضوء إلى المرفق، وليس إلى الكتف، وليس إلى الرسغ، فما
اختلف في ذلك أحد؟
وأن الصيام يكون من
ظهور الفجر الصادق، حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، إلى أن تغيب
الشمس بكامل قرصها، فلم يختلف في ذلك اثنان؟
لماذا لم يتم هذا
الحسم والتحديد ويسري ليشمل كافة أمور ديننا صغيرها وكبيرها؟
لا شك أن لله تعالى
في ذلك حكمة كبيرة، فالحكيم الخبير تعالى عن العبث أو الخطأ أو النسيان.
وقد نهتدي لتلك
الحكمة، أو لشيء منها، وقد لا نهتدي، ولا يمنعنا ذلك من الإيمان والتسليم.
بيد أنه لا شك أن
من الحكمة في ترك هذه الأمور غير محسومة تماماً، وفتح باب الاجتهاد فيها، أن يربيك
الإسلام أيها المسلم على التفكر والنظر، ويدربك على البحث عن الأدلة
وتمحيصها، وفحصها والترجيح بينها، ويعلمك
الاجتهاد في طلب العلم، والبحث عن الحقيقة، وألا تأخذ الأمور على عواهنها، ولا
تقلد كل ما يقال لك تقليداً أعمى.
عندما وعى المسلمون
هذا وأتقنوه، تفتحت لهم أبواب العلوم والمعارف على مصاريعها، فمضوا ينهلون منها
بوعي وحذر، وفهم وتمحيص، فلم يقبلوا علوم من قبلهم بحسنها وسيئها، بل ترجموها، ثم
نقدوها، ثم أضافوا إليها وصححوها، وقدموا للبشرية أعظم هدية معرفية علمية حظيت بها
في تاريخها، ألا وهي منهج البحث العلمي.
وقد اجتهد المسلمون
الأوائل في تلمس الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ليضبطوا بها حياتهم وحياة
مجتمعاتهم، ونشأت بينهم خلافات في الاجتهادات، وكان هذا مقبولاً ومعروفاً بينهم، فالعالم
المسلم لا يقول برأيه دون أن يستند إلى دليل من الكتاب والسنة، ويجتهد كل عالم في
الاستناد إلى الدليل الذي يراه أقوى، أو في الاستنباط الذي يراه أصح وأكثر منطقية.
ولا بد لمن يتبنى
رأياً أن يعتقد أن من يخالفه رأيه مخطئ، وإلا فهذا يعني أنه ليس مقتنعاً بالرأي
الذي تبناه أصلاً. ولكن لا بد له كذلك أن يحترم رأي الآخرين، ولا يشكك في نواياهم،
ويتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا
حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر".
وقد كان الخلاف
قائماً منذ عصر الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، فكم اختلفوا في قضايا الفقه
والتفسير وغيرها، ولم يتهم بعضهم بعضاً، ولم يحاول أحد أن يجمع الجميع على رأي
واحد، بل كانوا يرون ذلك من مرونة الإسلام وواقعيته وحيويته.
ولم يختلف علماؤنا
أبداً إلا في الفروع. هل اختلفوا في فرضية الصلاة ، أو عدد الصلوات أو عدد
الركعات؟؟ هل اختلفوا في وجوب الزكاة أو الحج، أو أركان الإيمان والعقيدة
والأخلاق؟؟
لو راجعنا كل
الأمور المختلف فيها، لوجدناها أموراً فرعية لا تؤثر على الدين ككل، وإن كانت تبدو
كثيرة جداً ومتشعبة، فهذا شأن الفروع دوماً أن تكون كثيرة، فالشجرة لها أصل واحد
وعدد لا يعد من الأغصان والفروع، لكنها في النهاية ستطرح نفس النوع من الثمار، وإن
اختلف مذاقها وألوانها، لكنها تبقى من نفس النوع ونفس الشجرة.
فلنتعرف على أنواع
هذه الخلافات، وأسبابها.
أنواع الاختلاف بين العلماء وأسبابه
1-
الخلاف المعقول
2-
الخلاف المذموم
3-
الخلاف السائغ المقبول
1-
الخلاف المعقول: وهذا النوع يكون في الأمور التي شرعت
متنوعة، فيختلف العلماء في استحباب واحد منها وتقديمه على غيره، ويمثل ابن تيمية
لهذا بأنواع الحج، فإن من حج قارناً أو متمتعاً أو مفرداً أجزأه عند علماء المسلمين،
وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، وكذلك الأذان يعد أذاناً صحيحاً إذا رجّع فيه أو لم
يرجّع، وسواء ربع التكبير في أوله أو ثناه، وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد
والتثنية، بأيتها أقام صحت إقامته عند علماء المسلمين، وكذلك الجهر بالبسملة أو
المخافتة بها، فكلاهما جائز لا يبطل الصلاة، وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما أو
يكره الآخر، أو يختار ألا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة جائزة
بأحدهما عند عامة العلماء... إلخ
فهذا النوع من
الخلاف بين الأمة أمره سهل يسير، يقول ابن تيمية:
"ولا يجوز التفرق بذلك بين
الأمة، ولا أن يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك من المستحب من
أمور أخرى واجبة أو مستحبة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة
الواجبات، بحيث يمتنع الرجل من تركها، ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله،
بل يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك. ومعلوم أن
ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض المستحبات، فلو تركها المرء لائتلاف
القلوب، كان ذلك حسناً"
2-
الخلاف المذموم وأسبابه:
1-
الجهل: فكثير من الناس يجهلون الأمر المشروع
المسنون الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وأمرهم
به. وقد كان الجهل هو الداء الذي أصاب الخوارج لجهلهم بهدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وعندما ذهب إليهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبين لهم
ما هم فيها من باطل، وكشف لهم الشبهات، رجع منهم ألفان.
ومن الجهل أيضا
تتبع رخص العلماء الشاذة التي يخالفهم فيها سائر أهل العلم، كمن يفتي بجواز إعارة
الجواري للوطء، أو جواز الأكل للصائم في رمضان بين الفجر والإسفار.
حكى البيهقي عن
إسماعيل القاضي أنه قال: "دخلت
على المعتضد ورفع إلي كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت:
مصنف هذا زنديق، فإن من أباح النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح
الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر
المعتضد بإحراقه".
2-
الظلم والبغي: فقد يحدث تدابر وتباغض وتحاسد
بين بعض الفرق، فيحمل ذلك فريقاً على مخالفة الفريق الآخر في أقواله وأفعاله وإن
كانت حقاً.
3-
الهوى واتباع الظن: فكثير من الفرق الضالة
كالمعتزلة والخوارج والشيعة ضلت بسبب اتباع الهوى، وقد حذرنا الله من اتباع أهل
الضلال وأهوائهم: {ولا
تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل} (المائدة 77)
3-
الاختلاف السائغ المقبول:
وهذا هو اختلاف
المجتهدين من فقهاء ومفتين وحكام، في المسائل الاجتهادية، وهي التي لا يوجد فيها
نص قطعي، ويشترط لهذا النوع من الخلاف شروطاً ليكون سائغاً مقبولاً، وهي:
1-
أن يكون هذا الخلاف بين أهل الفقه والبصيرة في الدين (وليس
بين بعض الجهال أو أدعياء العلم، أو المتطفلين على الأمر برأيهم).
2-
أن يكون اجتهادهم واختلافهم في المسائل الفرعية التي لم يدل
دليل قطعي على حكمها.
3-
أن يكون القصد الوصول إلى الحق والصواب.
4-
أن يبذل الفقيه أقصى جهده في الوصول إلى الحق، فإذا قصّر ذم
بتقصيره، ومن التقصير عدم طلبه للدليل من الكتاب والسنة.
وهذا النوع من
الخلاف وقع من الصحابة والتابعين، ولا يذم أحد منهم لذلك، فكلهم طلاب حق، فإذا
وقعوا في الخطأ في طلبهم للحق فهم معذورون، وفي الحديث: "إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا
حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر".
أسباب الاختلاف
السائغ المقبول:
كثيرة جدا، سنورد
بعضاً منها لضرب الأمثلة لا أكثر:
1-
التفاوت في العقل والفهم والقدرة على تحصيل
العلم:
بعض الفقهاء كان ذا
قدرة عظيمة على الحفظ والفهم، وآخرون كان حفظهم أجود من فقههم، وآخرون فقههم أجود
من حفظهم.
وقد ضرب الرسول صلى
الله عليه وسلم مثلاً لتفاوت الناس في ذلك فقال: " إن مثل ما بعثني الله به
عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً .
فكانت منه طائفة طيبة . قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكان منها أجادب
أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا . وأصاب طائفة منها
أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ،
ونفعه بما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ً، ولم يقبل هدى
الله الذي أرسلت به" (صحيح مسلم)
وقال: " رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"
- فمن الفقه الدقيق
مثلاً استدلال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بآيتين من كتاب الله على أن أقل
مدة الحمل ستة أشهر، وهما:
{وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} و {وفصاله في عامين}.
- ومن ذلك فهم أبي
بكر لمعنى الكلالة الوارد في سورة النساء، رغم إشكاله على كثير من الصحابة، فقال:
الكلالة هو من لا والد له ولا ولد.
2-
التفاوت في الحصيلة العلمية:
فالفقيه كلما كان
أعلم بالكتاب والسنة كان حكمه أقرب للصواب، وقد كان الصحابة يتفاوتون في حفظ
السنة، ثم تفرقوا في الأمصار، وأصبح عند أهل كل مصر جملة من أحاديث الرسول، ثم هيأ
الله لهذه الأمة رجالاً من المخلصين، جمعوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ودونوها في الصحاح والمسانيد والمعاجم، ولكن بقيت الإحاطة بالسنة كلها عسيرة،
فالمدونات كثيرة، ولن يتيسر الاطلاع على جميعها لكل فقيه، وإن اطلع فقد لا يتذكر، وإن
تذكر فقد يختلف حكمه على الحديث من حيث الصحة والضعف عن غيره، فيؤدي كل ذلك إلى
الاختلاف في الحكم الفقهي.
- من ذلك مثلاً أن
أبا هريرة كان يفتي من أصبح جنباً ببطلان صيامه، لكن السيدة عائشة رضي الله عنها
روت:
أن رجلاً جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه ، وهي تسمع من وراء الباب ، فقال: يا رسول الله ! تدركني الصلاة وأنا جنب
. أفأصوم ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم " فقال : لست مثلنا . يا
رسول الله ! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
. فقال : " والله ! إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي
" (صحيح مسلم)
- وكان عمر بن
الخطاب يرى أن لابس الخف يمسح عليه إلى أن يخلعه، ولا يوقِّت لذلك وقتاً، واتبعه
على ذلك طائفة من السلف، ولم تبلغهم أحاديث التوقيت، ومنها ما رواه شريح بن هانئ:
سألت عائشة رضي الله
عنها عن المسح على الخفين قالت : سل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن
وللمقيم يوم وليلة قال يحيى : وكان يرفعه يعني شعبة ثم
تركه"
(رواه أحمد وصححه
أحمد شاكر)
3- التفاوت في الإحاطة بعلوم اللغة العربية
4- الاختلاف في حجية بعض المصادر الفقهية: أجمع العلماء على ترتيب أدلة
الشرع الأساسية : القرآن والسنة، والإجماع،
ولكنهم اختلفوا في بقية الأصول وحجيتها أو ترتيبها، فقد اختلفوا في حجية
الحديث المرسل (فأخذ به الأحناف والمالكية، واعتبره الحنابلة والشافعية من أقسام
الضعيف)، والقياس، والعرف، والمصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، فكل من
يرى أن واحداً من هذه الأصول حجة، فإنه يعمل به في إثبات بعض الأحكام الشرعية،
والفريق الذي لا يعد ذلك حجة يرد ذلك ويبطله، ويبطل ما بني عليه، مالم يدل عليه
دليل آخر.
5-
الاختلاف في الشروط التي يجب توافرها في
الحديث الصحيح الذي يجوز الاحتجاج به:
- الحنفية اشترطوا للعمل بخبر
الآحاد ألا يعمل الراوي بخلاف ما يروي وألا يكون موضوعه مما تعم به البلوى، وألا
يكون مخالفاً للقياس والأصول العامة، وبخاصة إذا كان راويه غير فقيه.
*وبناء على الشرط
الأول لم يعمل الحنفية بحديث أبي هريرة:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن
بالتراب".
وقالوا بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب ثلاث مرات، وذلك لأن الراوي وهو أبو هريرة
اكتفى بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب ثلاثاً، فهذه المخالفة لم تكن إلا بسبب
يعلمه كناسخ للحديث الذي رواه، في حين أخذ غيره بمقتضى حديث السبع.
*وبناءً على الشرط
الثاني لم يعمل الحنفية بحديث رفع اليدين عند الركوع في الصلاة الذي رواه ابن عمر
رضي الله عنهما إذ قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا
افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع ".
فقالوا بعدم رفع
اليدين عند الركوع، لأن الصلاة أمر عام رآه جميع الصحابة، فكيف لا يرويه إلا واحد،
فكان هذا من علل الحديث عندهم، في حين ذهب غيرهم إلى مشروعية رفع اليدين عند
الركوع في الصلاة.
*وبناء على الشرط
الثالث لم يعمل الحنيفة بحديث الناقة المصراة، وهي التي جمع لبنها في ضرعها عدة
أيام. والحديث رواه أبو هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم:"لا تصروا الإبل والغنم،
فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها مع صاعين
من التمر".
فالأحناف يرون أن
أبا هريرة غير فقيه، والحديث خالف الأصول العامة من جهتين:
الأولى: الحديث
خالف قاعدة "الخراج بالضمان" (وهي قاعدة مأخوذة من حديث نبوي بنفس
اللفظ)
ووجه المخالفة أن
الأصل في غلة المبيع أنه للمشتري، لأنه ضامن له، أي: إذا هلك في يده يهلك عليه.
والحديث يقضي بأن
الغلة للبائع وليست للمشتري.
والجهة الثانية: أن
الحديث خالف قاعدة "المثلي يضمن بمثله، والقيمي يضمن بقيمته" (والمأخوذة
من عدد كبير من الأحاديث)، ووجه المخالفة
أن الحديث يقضي بضمان الحليب بصاع من تمر لا بمثله أو بقيمته.
فالحنفية لم يأخذوا
بحديث المصراة في حين أن غيرهم أخذ به ورد على الإشكالات التي أثارها الحنيفة.
- والمالكية
اشترطوا للعمل بخبر الآحاد أن يكون موافقاً لعمل أهل المدينة لأن عملهم بمنزلة
الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة أحق أن يعمل بها من رواية
الفرد، ولأن أهل المدينة أدرى الناس بآخر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ولهذا لم يعمل المالكية بحديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". حيث قال الإمام مالك في الموطأ:"ليس
لهذا عندنا حد معروف ولا معمول به فيه". في حين أن الشافعية والحنابلة عملوا
بمقتضى الحديث وقالوا بخيار المجلس لأنهم لم يشترطوا في الحديث ما اشترطه
المالكية، وإنما اشترطوا صحة الحديث فحسب.
6- الاختلاف في
القواعد الأصولية: والمراد بالقواعد الأصولية: الأسس والخطط والمناهج التي
يضعها المجتهد نصب عينيه عند البدء والشروع في الاستنباط، لكي يشيد عليها صرح
مذهبه، ويكون ما يتوصل إليه ثمرة ونتيجة لها. وهذا الاختلاف في القواعد الأصولية
من أهم أسباب الاختلاف. من ذلك على سبيل المثال:
أ- الاختلاف في تحديد معنى اللفظ
المشترك: فإذا ورد اللفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر، فيأخذ بعض الفقهاء بمعنى،
وغيرهم بمعنى آخر، من ذلك قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، فلفظ القرء حمله الحنفية على الحيض،
وحمله المالكية والشافعية على الطهر، لاشتراك اللفظ في المعنيين، ويترتب على هذا
اختلاف في حساب المطلقة لعدتها، هل تبدأ من أول حيض، أم تبدأ من أول طهر بعد
الحيض..
ب- الاختلاف في حمل الأمر على الوجوب
أو على الندب: من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة" فذهب الظاهرية إلى وجوب
الوليمة، وذهب الجمهور إلى أنها مندوبة.
ج- الاختلاف في حمل النهي على
التحريم أو على الكراهة: من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما حين رآه يلبس ثوبين معصفرين: "إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها"، فذهب جمهور الفقهاء إلى
كراهتها، وذهب بعض العلماء إلى تحريمها.
د- الاختلاف في حمل المطلق على
المقيد: فقد اتفق الأصوليون على حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب
فيهما، لكن اختلفوا إن اختلفا، مثال ذلك: اختلافهم في شرط الإيمان في الرقبة
المعتقة في كفارة الظهار، فالله تعالى شرط أن تكون الرقبة المعتقة في كفارة القتل
الخطأ رقبة مؤمنة، فالرقبة في القتل الخطأ مقيدة، وفي الظهار مطلقة، لم يقيدها
القرآن بالإيمان، {فتحرير
رقبة من قبل أن يتماسا} (أطلق ولم يشترط أن تكون مؤمنة)، فذهب جمهور المالكية والشافعية
والحنابلة إلى حمل المطلق على المقيد، واشترطوا أن تكون الرقبة المعتقة في الظهار
مؤمنة، وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك لعدم حمل المطلق على المقيد عندما يكون السبب
مختلفاً.
هـ- الاختلاف في حمل اللفظ على
الحقيقة أو على المجاز: فإذا دار اللفظ بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،
فهل يكون كلاهما مراداً أم لا؟ من ذلك لفظ "لامستم" في آية التيمم، فذهب
الحنفية إلى أن المراد هو المعنى المجازي فقط، فلا ينتقض الوضوء بمجرد اللمس
باليد، في حين ذهب الشافعية إلى أن المراد به المعنى الحقيقي والمجازي معاً،
فذهبوا إلى نقض الوضوء باللمس.
وغير ذلك من خلافات
بسبب الاختلاف في القواعد الأصولية التي أسسها كل مذهب.
7- الاختلاف في
القراءات في القرآن الكريم: فمن ذلك الاختلاف في قراءة (أرجلكم) في آية
الوضوء، فالذين قرؤوها منصوبة، أوجبوا غسلها لأنها معطوفة على الأيدي، والذين
قرؤوها مجرورة أوجبوا مسحها فقط، لعطفها على الرأس.
8- الاختلاف
بسبب تعارض الأدلة: فقد تتعارض الأدلة تعارضاً ظاهرياً، فلا بد من دفع هذا
التعارض، وقد اختلف الفقهاء والأصوليون في طريقة الدفع، فذهب الجمهور إلى أنه يُصار
إلى الجمع بوجه مقبول كالتخصيص، فإن تعذر يصار إلى ترجيح أحد الدليلين، فإن تعذر
يصار إلى النسخ إذا عرف المتقدم والمتأخر، فإن لم يعرف يصار إلى إسقاط الدليلين
والعمل بدليل آخر أقل رتبة.
وأما الحنفية
فذهبوا إلى النسخ أولاً إذا عرف المتقدم والمتأخر، وإلا فالترجيح، وإلا فالجمع،
وإلا فإسقاط الدليلين. وقد ترتب على ذلك
اختلاف بين الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية، مثل اختلافهم في قراءة المأموم
للفاتحة خلف الإمام.
(من: مسائل في الفقه المقارن/ د.عمر سليمان الأشقر
وآخرون/ بتصرف واختصار)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق