الأحد، 19 مايو 2013

الإستواء والعرش



قلت في كتاب درر الفرائد:
ومن نفس الباب قوله تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " فكل هذه الآية تأكيد لكمال تدبير الله تعالى للمخلوقات من العرش إلى الفرش .
وهذه الآية مقسمة إلى قسمين: الأول بيان أن الله تعالى هو خالق الكون لا خالق له سواه.
والثاني بيان أن الله تعالى مدبر حكيم للمخلوقات لا يعزب عن علمه وتدبيره شيء كبر أو صغر.

ففي أول الآية يؤكد الله تعالى أنه خالق للسموات والأرض، ثم بعد ذلك لم يتركها بلا تدبير، بل قدرة الله تعالى ممسكة بكل ما في الكون على أحكم وجه .
وهذان المعنيان مذكوران على التفضيل في أول الآية ثم تكرر ذكرهما مرة أخرى على سبيلالإجمال ، وفي آخر الآية مدح لله تعالى بما يستحق.
وسنزيد هذا الكلام بيان ووضوحاً فيما يلي :
وسنعتمد في ذلك على تقسيم الآية وتدبرها والنظر فيها كلها من أولها إلى آخرها، لا كما يفعل المجسمة، كما سننبه إليه .
الآية تنقسم إلى :كلام تفصيلي .
وكلام إجمالي .
وخاتمة مناسبة .

فأما القسم الأول وهو التفصيلي فيتألف من معنيين:
المعنى الأول: وهو تفصيل قوله تعالى: [إن ربكم الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ]. وفيه بيان أن الله تعالى خالق للكون بما فيه.
المعنى الثاني وهو تفصيلي، قوله تعالى: [استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبُه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ] .
وفيه بيان أن الله هو المدبر لشؤون الكون، العالم بما فيه، الحكيم في أفعاله . والربط بين المعنيين في هذا القسم التفصيلي هو حرف [ثم] الذي له هنا معنى الواو،فحرف ثم هنا لا يجوز أن يكون مفيداً للتراخي، لما يلزم عن ذلك من أن الله تعالى ترك الكون فترة غير مدبر أي بلا تدبير، وهذا باطل ومعنى فاسد وخلاف ما هو المقصود بيانه في هذه الآية، لذلك وجب حمل "ثم" هنا على المعنى الذي ذكرناه أي الترتيب بلا تعقيب، وسيأتي زيادة بيان لذلك .
أما القسم الثاني من هذه الآية، فهو الكلام الإجمالي العام وهو قوله تعالى: [ ألا له الخلق والأمر ] وفي الحقيقة فهذا الكلام ما هو إلا تأكيد لما سبق ذكره على سبيل التفصيل، ولذلك فهو يتألف من حيث المعنى من نفس المفردات والمعاني التي يتركب القسم الأول المذكور .
وبيان ذلك كما يلي: 
ـ قوله تعالى [ألا] هو حرف تنبيه يراد به هنا التأكيد على المعنى اللاحق .
وهو يقابل قوله تعالى في أول الآية [إن] فهي كما هو معلوم حرف تأكيد .
ـ قوله تعالى: [ له الخلق ] فيه توكيد أن الخلق إنما هو لله تعالى وهو يقابل المعنى الأول من القسم الأول التفصيلي كما رأينا .
ـ قوله تعالى:[ والأمر ] فيه توكيد أن الأمر الذي يتضمن معنى العلم والتدبير التام إنما هو لله رب العالمين. وهو يقابل المعنى الثاني من القسم الأول التفصيلي كما رأينا .
ـ وأما حرف [ ثم ] المذكور في القسم الأول التفصيلي كرابط بين المعنى الأول منه والمعنى الثاني، والذي تكلمنا على معناه في هذا الموضع فيقابل حرف الواو المذكور في قوله تعالى [ألا له الخلق و الأمر] فحرف الواو هنا يربط بين جزأي المقسم الثاني الإجمالي، ويفيد أن الخلق مصاحب وغير متخلف مطلقاً عن الأمر الذي هو التدبير، وهذا فيه توكيد أن حرف "ثم" لا يجوز أن يكون معنا الترتيب مع التراخي كما قلنا، بل الترتيب بلا تعقيب .
وبهذا تكتمل هيكلية الآية الكريمة، وتزداد وضوحاً في أذهان القراء الكرام .
وأما القسم الثالث منها، فهو قوله تعالى: [تبارك الله رب العالمين ] وهي خاتمة مناسبةللمعاني المذكورة منها.
لأن الرب تتضمن معنى المدبر لشؤون الخلق العالم بأحوالهم، إذ لا تدبير بلا علم، وهو المربي لخلقه الدال على ما فيه خيرهم .
ومن كان كذلك استحق أن يكون مباركاً، ومعبوداً من المخلوقات إظهاراً منهم لشكره على ما أنعم به عليهم .
هذا هو المفهوم من الآية كما يفهمها العاقلون، وكل الآيات التي ورد فيها ذكر الاستواء تفهم بنفس الأسلوب المذكور .
ولو أردنا ذكر جميع أدلتنا على ما ذكرناه هنا في فهمنا لهذه الآية للزمنا إفراد كتاب خاص، والمجال لا يتسع ههنا لأكثر مما مضى .
والذي نريد التنبيه إليه هنا هو أن هذه الآية ومثيلاتها تتكلم عن أفعال الله وما يجب علينا تجاه الله تعالى تبعاً لما أنعم به علينا ولما أحاطنا به من نعمة لا تنكر .
وليس المراد هنا مطلقاً الكلام على الصفات الذاتية لله تعالى، لأن كل ما فيها إنما هو كلام عن أفعال الله تعالى التي اقتضتها صفاته الذاتية وليس الكلام عن صفاته الذاتية أصالة .
وبأسلوب آخر نقرر أن المراد من الآية إنما هو إثبات أحكام تصديقية تتعلق بالله تعالى، أي أنها تثبت أن الله تعالى هو خلق العالم، وهو يدبر ما فيه، فمع أن الآية بمضمونها لا تتكلم مطلقاً عن صفات ذاتية لله تعالى، كلاماً مقصوداً بالذات، وإن كان متضمناً، فإن الآيات التي قبلها والآيات التي وردت بعدها تتكلم لا عن الصفات الذاتية لله تعالى بل تتكلم عن وجوب طاعة البشر لله تعالى وعبادته لكونه مدبراً لشؤونهم خالقاً لهم ، وهو نفس معنى الآية محل الكلام، .
ولتحصيل هذا المعنى نذكر فيما يلي الآيات إلى سبقت آية الاستواء محل البحث .
فقد قال تعالى: " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين {50}الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون{51}ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون{52 } هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون{53}".
فهذه هي الآيات التي سبقت الآية المذكورة لا ترى فيها ذكراً لصفة من صفات الله الذاتية، ولكنك ترى فيها تحديداً لعلاقة البشر مع خالقهم، وتفهيمهم أن عليهم أن يعبدوه ويطيعوه فيما يأمر هم به ولا يخالفون أمره، لأنه هو الذي أنعم عليهم بنعمة الوجود.
وأما الآيات التي تلت هذه الآية، فهي تتكلم أيضاً عن نفس الموضوع كما ستراه .
قال الله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين{55}ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين{56} وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون{57}"
إلى آخر الآيات، التي مَن يفهمها يعلم أنّها لا علاقة لها بصفات ذاتيّة للّه تعالى، بل هي توضح للنّاس مدى فضل اللّه عليهم، بحيث يجب عليهم طاعته وعبادته .
والذي نريد قوله هنا، إنّ أصل وضع - أو اعتبار- هذه الآية من آيات الصّفات، أي من الآيات التي تتحدّث عن الصّفات الذّاتيّة للّه تعالى غير المتعدّية إلى الخلق بآثارها، هو اعتبار فاسد، وبالتّالي فمن اعتبرها كذلك، اعترف بأنّه لا يستطيع فهم حقيقة الصّفات –التي توهّم وجودها-، فلزمه القول بأنّ هذه الآية من المتشابهات التي يجب الإيمان بها والسّكوت عنها .
وهذا الاعتبار أي القول بأنّها من المتشابهات، ناتج أصلاً عن اعتبارها تتكلّم عن صفة ذاتيّة للّه تعالى، وفعل لا يتعدّى إلى خلقه، بل يلتزم ذاته تعالى، ولمّا لم يستطع فهم حقيقة وصفه بل – كيفيّة - هذا الفعل الذي زعمه، ادّعى أنّ هذه الآية من المتشابهات كما قلنا.
والحقّ الذي لا شكّ فيه أنّها من المحكمات التي لا يضطّرب المسلم العاقل في فهم المراد منها .
وتوضيح وتفصيل الكلام السّابق كما يلي:
ادّعى بعض النّاس أنّ قوله تعالى: ( استوى على العرش )، أي جلس عليه، واستقرّ وعلا عليه، وكان فوقه، إلى آخر ذلك من المعاني السّاقطة في حقّ اللّه تعالى .
ولم يتوهّم هؤلاء هذا المعنى للآية إلاّ لأنّهم أصلاً يعتقدون أنّ اللّه تعالى محدود من جميع الجهات، أي أنّ لذاته نهايات ومسافات وغايات ينتهي عندها وجوده تعالى اللّه عمّا يصفون .
وهم يعتقدون أنّ اللّه تعالى جسم له حيّز ومكان، وموجود في جهة من بقيّة الأجسام، ويمكن أن يلمس باقي الأجسام بيده التي هي عضو وأداة له من ذاته، كما يشكّل الصّانع إبريق الفخّار من الطّين ثمّ يعرضه للنّار كي يستوي.!!!!! 
ويعتقدون أنّ اللّه - تعالى عن ذلك - له أعضاء هي الوجه والعين واليد والقدم والسّاق والأصابع وغير ذلك، وإنّ هذه الأعضاء تشغل ذواتها حيّزاً ومكاناً، لأنّها أجزاء وأبعاض للذّات الإلهيّة، وهم يقرّون أنّ للّه تعالى أجزاء، إلاّ أنّ الفرق بين أجزائه تعالى وأجزاء غيره، أنّ غيره يمكن أن تنفصل أجزاؤه عن بعضها البعض، وأجزاء اللّه وأعضاؤه لا يمكن حدوث ذلك لها .
وأثبتوا للّه تعالى جميع لوازم الأجسام المرئيّة من حركة وسكون، وارتفاع ونزول وغير ذلك، كلّ ذلك قالوه وذكروه في كتبهم، ويوجد فيها غير ذلك من المفاسد والقبائح أعرضنا هنا عن ذكرها بتفصيل لأنّ المقام لا يتّسع، وإن كنّا قد خصّصنا كتابا خاصّاً بذلك . وهؤلاء هم المجسّمة الذين سبق أن أشرنا إليهم في أكثر من موضع من هذا الكتاب.
وهم عندما اعتقدوا بكلّ تلك المفاسد، وواجهتهم النّصوص التي تقطع بأنّ الباري تعالى ليس كمثله شيء، وأنّه تعالى لم يكن له كفوا أحد، وأنّه لا يشبهه شيء، وتواترت أقوال الأئمّة الكبار في تنزيه الباري عن كلّ ما ذكروه من قبائح، ولمّا وقعوا بين هذين الأمرين، حاولوا الخروج من هذا التّناقض، فلجأوا إلى قول غير مفهوم، ولا مقبول وازدادت خلافاتهم بعد ذلك فيما بينهم.
فقالوا مثلا في هذه الآية محلّ الكلام، الرّحمن على العرش استوى جلس، وكلّ جلوس له هيئة وكيفيّة، فادّعوا أنّهم علموا بنصّ الآية أصل الجلوس، ولم يعلموا كيفيّته ولا هيئته، واكتفوا بقولهم أنّ جلوس اللّه، تعالى عمّا يقولون، ليس كجلوس أحد من خلقه، فالملك يجلس على العرش بكيفيّة معيّنة، والفارس يجلس على ظهر حصانه بكيّفيّة أخرى، والصّبيّ يجلس على الأرض بكيّفيّة أخرى وهكذا، فكلّ واحد من النّاس له هيئة معيّنة عند جلوسه، وكذلك اللّه عندما جلس على العرش، كانت له كيفيّة خاصّة، وهذه الكيفيّة لا نعلمها، ولكنّها لا تشابه أيّ هيئة من الهيئات المعلومة، فقالوا: جلوس يليق به تعالى، جعلوا هذه العبارة تفسيراً لقوله تعالى: (استوى على العرش)، واتّخذوا هذا الفهم أصلا أصيلا من العقائد يكفّرون غيرهم، ويبدّعونهم، ويفسّقون بناء عليه، هم أحقّ بهذه الأسماء.
تكملة الكلام على الاستواء 
[align=justify]وازداد خلافهم، فيما بينهم:
فالبعض منهم قال: جلس على العرش، وبينه وبين عرشه الذي يعتقدون أنّه جسم آخر بينهما مسافة معيّنة، فهو غير مماسّ للعرش.
و البعض قال هذه المسافة لا متناهية والبعض جزم بأنها متناهية ومحدودة ولكنّها غير معلومة عندهم.
ومنهم من قال بل لا توجد مسافة بينه وبين العرش، فهو مماسّ للعرش.
وبالغ بعضهم فقال: إن العرش يئطّ عندما يجلس الله عليه، كما يئطّ الكرسي عند جلوس رجل كبير عليه، وما دام يئطّ فلابدّ أن يكون له ثقل، وأكملوا أقوالهم و اعتقادهم بأن الذي له ثقل لابدّ أن ينزل إلى أسفل لثقله، والله تعالى كما يعتقدون في جهة العلوّ.!!! هذا هو اعتقادهم في خالقهم.
ولمّا أدركوا أن هذا فيه تنقيص من قدر الله تعالى فكيف يحمله غيره، قالوا: أن الملائكة لم يكونوا ليحملون الله تعالى إلاّ بالقدرة التي أودعها الله تعالى فيهم.
فحقيقة الأمر عندهم أن الله محمول من قبل الملائكة، وأن هذا ليس فيه تنقيص من قدرة الله تعالى و عظمته لأنه هو الذي أودع فيهم القوة على حمله !!!!!!!!!!!!
هذا هو حاصل ما يعتقدون في الله تعالى من هذه الجهة، وبينهم اختلافات كبيرة، ومفاسد دخلوها على العقائد الإسلامية لوثوا بها عقائد كثيرة من العوام، وقد تكلمنا على هذا في مواضع أخرى غير هذا الكتاب .
وقد بينت أنا في مواضع أخرى إن قوله تعالي: "استوي على العرش"يستحيل أن يكون معناه جلس أو أن يكون أي معنى من المعاني السابقة الساقطة، بل إن استواء الله تعالى على العرش ما هو إلا تمام تدبيره وعلمه وإحكام لشؤون الكون، فالله تعالى بعد خلق العالم دبره وأحكم إدارته، وهذا لا يتم إلا بعلمه بما في الكون .
ولهذا عقب قوله "استوى على العرش" بقوله تعالى: "يغشي الليل النهار" أي أن حالة استواء الله تعالى أو صفته هو إغشاء الليل النهار إلى آخر أفعاله التي ذكرها في الآية وفي غيرها من المواضيع .
فصفة الاستواء هو التدبير التام المحكم لشؤون الكون.
والرحمن على العرش استوى بمعنى دبره بحكمة وعلم، ولذلك ذكر وصفه أو اسمه "الرحمن" أي إن الله تعالى دبر العالم برحمته التي وسعت كل شيء .
هذا هو المعنى الوحيد المفهوم من هذه الآية ومن مثيلاتها، ولا يوجد معنى آخر،كما ترى، وهو ما يراه فحولة العلماء .
ولذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى فوق العرش بذاته، أي أن الله تعالى بذاته فوق العرش. وهذا فيه نفي للفوقية المكانية الحسية عن الله تعالى لأنها لا يوصف بها إلا الأجسام والمحدودات، ويبقى لله تعالى الفوقية المعنوية الذاتية التي تليق بذاته،وهي ليست الفوقية المكانية الحسية قطعاً . 
وإذا قال بعض العلماء، أو إذا وردت في بعض النصوص إن الله تعالى فوق خلقه فإن معناه أنه فوقهم فوقية قهر، وإنما يستعملها هؤلاء لما مر عند بيان معنى قوله تعالى"وسع كرسيه السموات والأرض"من أن النفوس تجد من التعظيم والهيبة عند سماع الأشياء المحسوسة الدالة على الكبرياء ما لم تجده عند عدم ذلك .
وعين هذا المعنى يقال في معنى قوله تعالى "ثم استوى على العرش" فإنه استعانة بذكر الأمر الحسي لبيان أمر معنوي .
والوارد إنما هو ذكر الفوقية مطلقاً من غير تقييد لها بالذات ، أي أنه لم يرد أن الله فوق عرشه بذاته .
وقد اعترض العلماء على من قالها ، وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء: هل هذا يفهم منه القول بالجهة أم لا .وهل يكفر معتقدها أم لا؟
فأجاب: بأن ظاهره القول بالجهة، والأصح أن معتقدها لا يكفر.
كذا قال ، وما قاله من أن ظاهره القول بالجهة يرده قول الإمام أبي عبد الله محمد بن مجاهد مما أجمعوا على إطلاقه أنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه إطلاقاً شرعياً، ولم يرد الشرع أنه في الأرض، فلذلك قال بعضهم دون أرضه، وهذا مع ثبوت علمهم باستحالة الجهة عليه تعالى.
وإذا تقرر هذا، فالناس عالة على الصدر الأول، فإذا كان إطلاقهم هذا فيتفهم علينا تمثله بالتمثيل والبسط، إذ قد غلبت العجمة على القلوب حتى ظنت أن هذا الإطلاق يلزم منه إثبات الجهة في حق المنزه عنها تقدس وتعالى .
[ الفوقية المعنوية لله تعالى ]

واعلم أن الفوقية عبارة عن كون الشيء أعلا من غيره.
وتكون حسية ومعنوية، كزيد فوق الفرس، والسلطان فوق الوزير.
وأن الذي يحوز عليه المكان يجوز أن تكون فوقيته حسية ومعنوية، والذي يستحيل عليه المكان والجسمية لا تكون فوقيته إلا معنوية، ففوقية الله على عرشه المراد بها فوقية معنوية لما قدمنا .
فعلم مما ذكرنا أن الباري سبحانه وتعالى يوصف بالعلو حقيقة، وبالفوقية مجازاً ، وان كان معناها العظمة .
ولا يوصف سبحانه بالسفل ولا بالتحتية لا حقيقة ولا مجازاً.
وقد تكلم كبار الأئمة يبينون موقفهم في فهم هذه الآية، أي آية الاستواء:
فقال الإمام أبو حنيفة لما سئل عن الاستواء: من قال لا أعرف الله في السماء أم في الأرض كفر.
لأن هذا الفول يوهم أن للحق مكاناً، ومن توهم أن للحق مكاناً كفر .
وقال الإمام الشافعي: استوى بلا تشبيه، وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض في ذلك كل الإمساك.
وقال الإمام أحمد: استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر.
وأما الإمام مالك، فقد جاءه أحدهم وقال له: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟
وقال الإمام مالك كما روي عنه في بعض الروايات: الاستواء معلوم والكيف مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .
وقد فسرها بعض العلماء فقال: قوله الاستواء معلوم أي إن عقولنا دلتنا على إن الاستواء اللائق بالله هو الاستيلاء دون الاستقرار والجلوس، لأنهما من صفات الأجسام.
وقوله والكيف مجهول معناه إن ذات الله تعالى لا توصف بالأحوال المتعقلة والهيئات الحسية من التربع ونحوه، والإيمان به واجب لوروده في الكتاب.
والسؤال عنه بدعة لأنه لم تجر العادة بالسؤال عنه من السلف ،بل يفوضون معرفته على التحقيق إلى الله تعالى.
وبناء على هذا التفسير لكلمة الإمام مالك، لا يكون مفوضاً، بل يكون الإمام مالك مؤولاً، وذلك لأنه قد فسر معنى الاستواء بما ذكرناه نحن وهو المعنى الصحيح، ونفى أن يكون معناه يستلزم الاستقرار والجلوس، وهذا هو مذهب جمهور العلماء .
وإذا كان هذا هو المعنى الذي أراده الإمام مالك من كلمته، فإن الأصل أن مذهب السلف كان هو التأويل دون التفويض خلافاً لما هو مشهور.
وقد يستعجب بعض الناس هذا التفسير لكلام الإمام،
فنقول له نحن: قد يفهم كلام الإمام على معنى آخر مغايراً للأول غير متضاد معه ولا مناقض له، وذلك كما يلي:
قوله الاستواء معلوم، أي معلوم ذكر الاستواء في القرآن الكريم، ومعلوم نسبته أي نسبة الاستواء إلى الله تعالى.
وأما قوله والكيف مجهول فمعناه أن نسبة الاستواء الكيف مجهولة لا نعرفها لا في القران ولا في السنة ولا في كلام أحد من العلماء المعتبرين، أي أن أصل نسبة الكيف غير معلومة بل مجهولة، وما كان كذلك فهو مردود.
ولذلك قال بعد ذلك: والإيمان به أي الاستواء المعلوم واجب، أي الإيمان بمجرد الاستواء المعلوم واجب، أي الإيمان بمجرد الاستواء كما ذكر في القرآن واجب،
وأما السؤال عنه بكيف فهو بدعة، ومعنى بدعة كما هو مقرر أي مبتدع مخترع لم يكن معروفاً من قبل، لأن مجرد نسبة الكيف إليه تعالى فيها تجسيم وتشبيه كما مضى، وما كان بدعة فهو مردود، ولذلك يفهم لماذا أمر يعد ذلك بالرجل أن يخرج من المسجد.
وبناء على هذا التفسير والشرح لكلام الإمام يكون الإمام مفوضاً التفويض الصحيح وهو السكوت عن الشيء مع نفي اللوازم الفاسدة أو ما يتوهم أنه من اللوازم، وذلك كالتجسيم والتحيز والكون في مكان والحركة وغير ذلك.
وهذا هو التفويض عند أهل السنة، ولذلك يقولون عنه إنه تأويل أجمالي لأنه في الحقيقة ليس سكوتاً محضاً، بل سكوت عن التفصيل، وليس سكوتاً عن المعنى العام المفهوم، فإن كل من قرأ الآية الاستواء يفهم منها أن الله تعالى قادر على كل شيء مسيطر على الكون حكيم مدبر لشؤون الخلائق. ومثل هذا المعنى يسكت عنه السلف، ولكنهم لا ينظرون بل لا يحلمون بما وراءه بل يسكتون.
ومذهب السلف كما وضحه أهل السنة لا يستلزم التجسيم مطلقاً، ولذلك ورد عن كثير منهم نفي الكيف "وكيف عنه مرفوع"، وغير ذلك من العبارات التي فيها نفي أصل نسبة الكيف إلى الله تعالى .
وقد ادعى المجسمة أن المعنى المفهوم من عبارة الإمام مالك ليس كما مضى بل قالوا: إن قوله الاستواء معلوم، أي أن الله استوى ، واستوى عندهم لها معان:استقر وجلس وصعد، ولكن الاستقرار والجلوس والصعود لها كيفيات متعددة، قالوا:فالرجل يستوي استواء معيناً على الكرسي، والفارس يستوي استواء خاصاً على فرسه، والملك يستوي أي يجلس استواء أي جلوساً خاصاً به على العرش، وهكذا فكل مخلوق له استواؤه الذي يختلف عن استواء الذي يختلف عن استواء غيره بكيفية خاصة. وكذلك فالله يستوي بالمعاني السابقة، أي يجلس ويستقر!! لكن كيفية الجلوس والاستقرار والاستواء غير معلومة لدينا، لكن يوجد كيفية وصورة وهيئة معينة يستوي بها الله تعالى عرشه، قالوا:ولذلك قال الإمام مالك والكيف مجهول !!!!!!!!
هكذا فسر المجسمة كلمة الإمام مالك، وهو تفسير غير صحيح قطعاً، وذلك لما مضى ذكره .
وأيضاً لو كان أصل الكيفية ثابتاً، لما استحق الرجل السائل أن يسمى مبتدعاً لمجرد سؤاله عن أمر هو في نفسه ثابت على زعمهم، فما الذي ابتدعه في هذه الحالة، إنه لم يبتدع إلا السؤال عن شيء يدعون أنه في ذاته ثابت، ومجرد هذا الأمر لا يكفي ليرتقي الرجل إلى المنزلة المبتدعة وإن يخرج من المسجد أيضاً، بل كان يكفي أن يقول له الإمام مالك: لا يحوز السؤال عن ذلك.
ولكن الرجل يصبح مبتدعاً حقاً عندما يثبت شيئاً هو في ذاته أصلا غير موجود، ويسأل عنه، حينذاك يصبح مبتدعاً حقاً، لأنه أثبت شيئاً غير موجود، وهذا إنما لو كانت الكيفية أصلاً غير ثابتة، بل منفية عن الله تعالى، فبناءاً على هذا، فمن جاء وقال: كيف استوى الله؟ فإنه يكون بسؤاله قد افترض وجود الكيف لله تعالى ويطلب من المسؤول أن يصوره له ويوضحه، وهذا هو المبتدع حقاً .
ويؤيد كلامنا المذكور هنا أنه قد ورد عن الإمام مالك رواية أخرى بلفظ آخر غير لفظ الرواية السابقة يقول فيها جواباً عن سؤال الرجل:[ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب].
فقوله غير مجهول، أي معلوم، أي معلوم أنه نسب إلى الله تعالى في القرآن الكريم، ويوضح معناه ما ورد عن الإمام الشافعي من أنه قال: [الاستواء مذكور]، فهذا هو معنى قوله [معلوم].
وأما قوله[غير معقول] أي أن العقل ينفيه ولا يثبته لله تعالى، فالعقل ينفي نسبة الكيف إلى الله تعالى، وهو يرادف قول كثير من السلف "وكيف عنه مرفوع"، وقولهم: "بلا كيف" .
وهذه الرواية التي فيها "والكيف غير معقول" أقوى من حيث السند من الرواية السابقة المشهورة، وهي راجحة عليها من جهة المعنى ومن جهة السند.
ومن جهة ثالثة وهي أن الذين سئلوا عن الاستواء قبل الإمام مالك وهم حماد وأم سلمة أجابوا بنفس هذه الرواية وهي [الاستواء غير مجهول والكيف غيرمعقول… إلخ]، وهذا يعني أن الإمام مالك ليس هو صاحب هذا الجواب، بل أخذه عن غيره، وحينذاك ترجح الرواية التي توافق جواب السابقين فهذا هو الوجه الثالث

ونحن لا نريد أن نطيل الكلام على هذه العبارة، لوجوه عديدة ونحن نعلم أن كثيراً من المجسمة لن يزحزحهم عن موقفهم أي كلام ولو كان مبنياً على قواطع الشرع .
واعلم أن كل الكلام السابق وغيره، مبني وواقع على التسليم، بأن الروايات المذكورة لها سند قوي معتبر يصح الاعتماد عليه ، وفي هذا شك. وإذا لك يكن لها سند قوي فلا حاجة لتسويد الصفحات زيادة .
وفي هذا المقام لا بد أن نوضح مذاهب العلماء في الآيات التي كثر النزاع فيها ويسميها بعضهم آيات الصفات.
ومثالها الآية السابقة وهي آية الاستواء، فمثلاً هذه الآية لا يظهر لنا عند النظر فيها إنها تشير من قريب ولا من بعيد إلى جلوس ولا إلى صعود ولا إلى استقرار، بل الظاهر منها إنما هو بيان عظمة ملك الله تعالى وتدبيره الحكيم لهذا الكون الكبير. فهذا هو الظاهر منها .
ولكن بعض الناس وهم المجسمة بقولون إن الظاهر منها إنما هو الجلوس على العرش، وأما كيفيته فغير ظاهرة، وهو كلام فاسد لما ذكرنا سابقاً .
ولا بد هنا أن نبين ما هو المقصود بلفظ "الظاهر"، فنحن عندما نقول أن هذه الآية ظاهرها هو المعنى الفلاني، نقصد من ذلك أن المفهوم منها هو ذلك المعنى، أي أننا عندما نظرنا فيها وتدبرنا معانيها ظهر لنا أن المعنى الذي تشير إليه هذه الكلمات المكونة للآية هو المذكور.
وكذلك عندما نقول: إن المعنى الظاهر عند غيرنا هو المعنى الفلاني، نقصد أنهم فهموا منها ذلك المعنى، وندعي في نفس الوقت أن ما فهموه ليس لهم عليه دليل مستقيم، ولذلك فنحن نرفض ما يقولون من ادعاءات باطلة.
ونستطيع أن نبرهن بالبراهين القاطعة أن المعنى الذي ظهر لها هو المعنى المراد لا غير .
فكلمة الظاهر لا تعني ما تظهره الآية لنا من المعاني، فإن ما يكون كذلك لا يكون إلا صحيحا ولا تجوز مخالفته .
بل الظاهر هو ما تستظهر نفوسنا من الآية، أي ما يظهر لنا حسب اجتهادنا أنه المراد، واجتهادنا صحيح ، وقد يكون باطلا، والحكم في هذا إنما هو الدليل .
لذلك فعندما يقول العلماء أن لفظ الاستواء من جملة المتشابه، كاليد والوجه والعين والأصابع ونحو ذلك مما ظاهر مستحيل على الباري سبحانه ، فإنهم يقصدون، إننا نحن البشر عندما كثر استعمالنا للكلمة اليد والعين وغيرها في الآلات والأدوات التي هي أجزاء وأعضاء ودلالات على النقص والتركيب، صرنا نتوهم مهما استعملت هذه الكلمات فأن المراد فيها هو هذه المعاني .
وغاب عن ذهن من يفهم هذا الفهم أن ما جاز على المخلوق قد لا يجوز على الخالق،وإنه إذا أطلق فلا بد أن يكون الإطلاق مجازياً لا حقيقياً كما سبق ذكره في الفوقية والعلو.
فصار البعض يتوهمون أن هذه المعاني هي الظاهرة مطلقاً من هذه الألفاظ، ولا يفهمون إنها ظاهرة بشرط إطلاقها على البشر أو على المخلوقات وبشروط معينة كما هو مذكور في كتب اللغة.
هذا ما أردت أن أنقله من ذلك الكتاب.
راجيا أن يكون فيه فائدة ومقنع.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
انتهى النقل وهو موجود بمنتدى الأصلين قسم المناظرات والمحاورات ...أ هـ
أرجو أن ينفعكم الله بهذا الكلام وتقرأوه بقلب مفتوح وأن يشرح الله صدرى وصدرك للحق فليس العبرة بكثر النقل ولكن العبرة بالإخلاص وطلب الحق والفهم جعلنا الله كذلك ..
الشيخ / سعيد فودة
من منتدى الأصلين 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق