الأحد، 19 مايو 2013

تهمة صرف ظواهر النصوص إلى المجاز


قالوا: الأشاعرة يفسرون بعض آيات القرآن والأحاديث التي تتحدث عن صفات الله عز وجل بالمجاز ويرفضون الحقيقة، وهذا يعني أنهم يقولون أن ظاهر كلام ربنا تشبيه وتجسيم فلا بد من صرفه للمجاز، وفي هذا تهمة لكلام ربنا وكلام رسوله وتشكيك فيه، كما أننا إذا سمحنا لكم بالقول بالمجاز ستضطرب العقيدة، ويفسر كل شيء بالمجاز الذي لا ضابط له، فتضيع العقيدة والشريعة، ونخشى أن تقولوا لنا بعد قليل أن الله تعالى نفسه مجاز..
وإذن نحن نمنع المجاز إلا بقرينة، والقرينة عندنا أن يفسره الرسول بالمجاز.. وإلا حملناه على الحقيقة..

وهذه أيضا شبهة قوية، يتأثر بها كثيرون، خاصة مع عموم الجهل المنتشر باللغة العربية وفنونها في عصرنا، والحقيقة أن المجاز جزء لا يتجزأ من اللغة العربية، بل ومن جميع اللغات وحتى اللهجات العامية، فلو قال قائل: "طار عقلي من الفرح"، فيستحيل أن يحمل أي عاقل كلامه على ظاهره، ويظن أن عقله له جناحان طار بهما على الحقيقة، وسيفهم أن مقصود القائل هو التعبير عن شدة الفرح التي أذهلته وعطلت قدرته على التفكير، فهل أخذنا هنا بظاهر اللفظ أم بمعناه المجازي؟
 هذه أمور اصطلاحية، فإن كان المقصود بظاهر اللفظ أول ما يتبادر لذهن السامع، فلا شك أن أول ما يتبادر لذهن السامع هنا هو " شدة الفرح التي أذهلت وعطلت القدرة على التفكير"، وعندها نقول نثبت المعنى الظاهر، وأما إن كان المقصود بالمعنى الظاهر هو حقيقة كل لفظ على حدة، مما يجعل المعنى: " العقل له جناحان طار بهما على الحقيقة" فعندها سنقول نصرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مجازي...
وهذا الخلاف في التعريف هو سبب الخلاف الأصلي بين جمهور العلماء الذين أثبتوا المجاز في صفات الله تعالى، وبين من أنكرها كابن تيمية ومن تابعه، إذ اعتبر ابن تيمية –رحمه الله- أن ما يتبادر لذهن السامع عند استماعه لصفات الله عز وجل هو أنها مختلفة عن صفات البشر، ولا يتصور كيفيتها، لذا يعتبر هذا هو الظاهر، ويصر بالتالي على إثبات الظاهر وعدم جواز الانصراف عنه إلى المجاز، في حين يعتبر غيره من جمهور العلماء أن الظاهر هو المعنى الأصلي لكل لفظ بمفرده، وهو ما يسمى (الوضع)، فكل لفظ في اللغة وضع للدلالة أصلا ًعلى معنى معين، فهذا معناه الحقيقي، ثم قد يستعمله الناس في معانٍ أخرى فتصبح معانيَ مجازية له، فلو قلنا (جفن) فأول ما يتبادر للذهن هو هذا الجلد الذي يحمي العين، فلو أضفناه للسيف لاكتسب معنى جديداً هو الغمد... وهكذا، والقرآن الكريم نزل بلغة العرب بكل ما فيها من جمال وبلاغة واستعمالات (بلسان عربي مبين)، وعلى ضوء هذا تفسر بعض الصفات أو الأفعال التي أسندت لله تعالى والتي ظاهر لفظها لا يليق بالله جل جلاله، كالنزول والضحك واليد والعين،  وليس صرفها للمجاز هنا تعدٍّ على اللغة أو النص، أو قول على الله بغير علم، لوجود القرينة الموجبة للصرف إالى المجاز، وهي استحالة المعنى الوضعي للألفاظ على الله تبارك وتعالى شرعاً وعقلاً.
ومن يقولون بإثبات الألفاظ على ظاهرها، وهم أتباع ابن تيمية، إنما يعنون بالظاهر المعنى المتبادر للأذهان من النص، لا المعنى القاموسي، والمعنى المتبادر للذهن ليس هو الظاهر في تعريف الجمهور، وبالتالي نعود لنجد أن الخلاف اصطلاحي لا حقيقي..

*ومن قالوا بالمجاز بينوا أنه لابد لصرف المعنى من الحقيقة للمجاز من وجود قرينة تدل عليه، إما معنوية أو لفظية مقترنة به، وبالتالي فصرف الكلام عن ظاهره إلى المعنى المجازي ليس خبط عشواء، تتلاعب به الأهواء، بل هو أمر معروف له ضوابطه وحدوده. ولم يتعرض له السلف الصالح بالشرح لأنه كان أمراً معروفاً في لغتهم، يفهمونه بالبديهة والسليقة، وإن كان كثير منهم قد استعمله في تفسير آيات القرآن الكريم عندما يقتضي الأمر، على نحو ما بينا في باب تأويل الصفات....


و التأويل المجازي بمعنى صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر تدل عليه القرينة وله علاقة بالمعنى الظاهر، قد عرف منذ القرن الأول وكثر تطبيقه على آيات الذكر الحكيم عند الثقات من علماء الأمة وعلى رأسهم الصحابة- علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم –رضي الله عنهم أجمعين –  وكذلك التابعون، وقبلهم جميعاً المعلم الأكبر صلى الله عليه وسلم، ومن تأويلاته المجازية: تأويله الخيطين الأبيض والأسود بالنهاروالليل.
وقد كان سلف الأمة يفهمون معنى المجاز ويستعملونه وإن لم يذكر بعضهم اسمه المصطلح (المجاز) لعدم انتشاره في البداية بل كان بعضهم يطلق عليه (الاتساع في اللغة) كما ورد عن سيبويه والشافعي الذي يقول في (الرسالة) عن ألفاظ القرآن: "وظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهرهفهو بذلك قد عرّف المجاز وبين نوعي القرينة: اللفظية التي لها ذكر في الكلام، والمعنوية التي تفهم من الأحوال وليس لها صورة في الكلام، فقال: "قال الله تبارك وتعالى وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم {ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين* واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} (سورة يوسف 81-82) فهذه الآية في مثل معنى الآية التي قبلها لا تختلف عند أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمساءلة أهل القرية وأهل العير، لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم" (الرسالة ص 64.)
 فهذا طبعا مجاز في القرآن.
والقرينة الحالية المعنوية هنا كما يقول الإمام (لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم) فهو رحمه الله يؤول لفظ القرية بأهلها ولفظ العير بأهلها أيضاً ولا يبقي اللفظ على ظاهره كما يفعل الإمام ابن تيمية، الذي يقول أن القرية تطلق على مباني القرية وموقعها، كما تطلق على أهلها، لأن الأساس أن أي إنسان عندما يسمع لفظ "قرية" مجرداً، لا يخطر في باله السكان، بل المكان، فهذا هو الظاهر، وهذا ما عبر عنه الإمام الشافعي أعلم العلماء باللغة العربية وفنونها عندما قال:
"وظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره"

ويقول الإمام تاج الدين السبكي:
" وأما من أنكر المجاز في اللغة مطلقاً فليس مراده أن العرب لم تنطق بمثل قولك للشجاع أنه (أسد) فإن ذلك مكابرة وعناد ولكن هو دائر بين أمرين:
أ- أحدهما أن يدّعي أن جميع الألفاظ  حقائق ويكتفي في كونها حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلّم ويرجع البحث لفظياً ( أي خلافاً لفظياً ) فإنه حينئذ يطلق الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن أصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك.
ب- وإن أراد بذلك استواء الكُلّ في أصل الوضع: فقال القاضي في مختصر التقريب "فهذه مراغمة للحقائق فإنا نفهم أن العرب ما وضعت اسم (الحمار) للبليد، ولو قيل للبليد: حمار على الحقيقة كالدابة المعهودة وأن تناول الاسم لها متساوٍ في الوضع، فهذا دنو من جحْد الضرورة".
وكذلك من زعم أن الجدار له إرادة حقيقة تمسكاً بقوله تعالى {جدارًا يريد أن ينقض} عد ذلك من مستشنع الكلام
 (أ.هـ انظر الإبهاج في شرح المنهاج 1/298، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/385 بألفاظ متقاربة).

ويقول الشيخ علي الطنطاوي -في لقاء صحفي أجري معه في السعودية- مفسراً التأويل والتفسير وأنهما بمعنى واحد، وأن ما يفهمه العربي سليم السليقة من النصوص مؤولاً لا بد أن يؤول إذن:  

"-  من ذلك مثلاً استواء الرحمن سبحانه وتعالى على العرش .. فمن أنكر الاستواء كفر دون شك ، ومن فسره بمثل قعود الناس فقد كفر أيضاً .. ولابد أن يكون الحق بين هذين الجانبين .. فأنا شهد الله سلفي العقيدة ؛ لكن هناك أمور من آيات الصفات لا أراها تفهم إلا مؤولة."

" - فربنا الذي يخبر أنه استوى على العرش ، يقول في آية أخرى من كتابه الحكيم: {وهو معكم أينما كنتم} فلابد من تأويل هذه المَعيَّة بأنها معية علم وسمع وبصر ، وهو النحو الذي جرى عليه ابن تيمية في تأويلها .."

" - كنت أسمع إلى أحد القراء فلما انتهى إلى قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} تساءلت: هل يمكن فهم هذه الآية إلا مؤولة!.."
" وكذلك الأمر في {نسوا الله فنسيهم} ..

- أنا أقول: إن القرآن أنزل بلسان عربي مبين ، فما لا يفهمه العربي الفصيح لأول مرة إلا مؤولاً فنحن نؤوله ..

- وما الفرق بين التفسير والتأويل .. التفسير من فسر ، ومنه السفور، أي الوضوح. والتأويل من قولهم: آل إلى كذا أي صار إليه ، ونقلوه إلى التعدية بالتشديد فأَوَّله إليه: يعني صيره إلى المعنى الأول. وما دام هذا التأويل لا يخالف كلام الله ولا ينافي الوحدانية أولاً ، ويوافق ما يفهمه العربي السليم الطبع السليقي الفصيح ثانياً: فهو صحيح ولابد منه في مثل الأمور التي ذكرتها مما لا يفهم إلا التأويل. "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق