حاجتنا إلى التصوف وحاجة التصوف إلينا
للشيخ /أشرف سعد الأزهري
الحيرة والقلق والصدمة والمرارة والضيق مشاعر تختلج وتسيطر على كثير من قلوبنا نحن المصريون في هذه الأيام، بسبب ما نسمعه من أفواه بعض المنتسبين إلى الدعوة هذه الآوانة خاصة على القنوات الفضائية التي تروج لتيارات سياسية بعينها وتمتطي الدين وسيلة لتحقيق أغراضها، فهذا يسب باسم الإسلام، وذاك يقذف الناس في أعرضهم في سبيل الله، وهذا يرد السخرية بسخرية مثلها أو أشد منها، وآخر يحاول تلميع ما اعتلى تاريخه من صدأ ونسيان عن طريق تبرير ما انطوى عليه ذلك التاريخ من قتل واغتيال وتدمير وتفجير حصد مئات الأرواح بعضهم من الأطفال الأبرياء.
والملحوظة التي تستدعي التأمل في هذا السياق أن الفوارق المتسعة التي كنا نراها مساحات شاسعة بين تيارات العنف العقدي التكفيري وبين تيارات العنف الحسي المسلح وبين تيارات الوسط السياسي قد تلاشت تقريبا بل تماهت مما يوحي بأنها كانت قبل ذلك – أعني قبل الثورة - أقرب ما يكون إلى المساحات والفوارق الوهمية.
ونحن الآن على مفترق طريق يجرنا في اتجاهات متعددة إما أن نقنع بأن هذا التشويه الذي لحق بالدين جراء الممارسات السياسية الخاطئة هو أمر واقع عادي وأن هذا هو الدين فعلا، وأن حسن الخلق وسعة الصدر والصبر والإحسان والمسامحة والعفو واللين وجميع الفضائل وخصال الخير التي بذلها النبي صلى الله عليه وسلم للكافر حال كفره والمحارب بعد القدرة عليه أصبحت أمورا منسوخة ملغاة لا تليق بوقتنا هذا ولا مخالفينا وأن اللائق بهذا العصر حقا، ذلك الجهاد اللفظي بالسب والشتم والقذف والضرب إن لزم الأمر... وفي هذه الحالة دع عنك عناء كلام طويل متكرر حول سماحة وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغالبا لن يسمعك أحد فشهوة السياسة شهوة طاغية غالبة.
هذا اتجاه. أن نقبل الدين بصورة شائهة تقدمها هذه الجماعات بدافع سياسي لا غير.
أما الاتجاه الآخر – وهذا موجود وحذرنا منه مرارًا – أن يكفر البعض بالدين جملة وتفصيلا إما صراحة بإعلان الإلحاد والكفر عياذا بالله وهذا موجود، أو مواربة بأن يجعل الدين اسما في بطاقة هوية أو استمارة جامعية وأن نطلق - طلاقا بائنا غير رجعي- كل ما له صلة بالدين في حياتنا العملية من جوهر أو حتى مظهر. وهذا أيضا موجود بل شائع ذائع.
ويرى هذا البعض أن الدين الذي يحمل أتباعه على هذا التدني اللأخلاقي وإلى تلك المستنقعات من الانحطاط والإسفاف لا يمكن أبدا أن يكون دينا حقا جاء به رسول كريم من عند رب رحيم.
وفي هذه الحالة أيضا دع عنك عناء كلام كثير مل الشباب من ترديده وتكراره حول ضرورة الفصل بين الإسلام وبين المسلم، وكذلك بين الشخص وبين المنهج. فالقلوب والصدور والعقول ضاقت عن تقبل هذا الكلام. ولعل شهوة السياسة في الاتجاه العلماني المضاد هي التي تغذي مثل هذا وترويه وتربيه.
وهذا أيضا اتجاه ثان مصادم للأخلاق والدين معا.
وكلا الاتجاهين يتدافع الشباب نحوهما تدافع الفراش نحو النار.
ثمة اتجاه ثالث يرى أتباعه القلائل – وأنا لا شك واحد منهم – أن الدين بصفائه ونقائه وروحانيته ورحمته بالمؤمن والكافر، وعمومه وشموله... لا علاقة له بكثير من المتحدثين باسمه السائقين الناس إلى مهاوي الفتن والضلال، بسبب خلط الدين بالسياسة على وجه شائه قبيح، وأن الروحانية وإصلاح النفوس وتهذيبها وإنارة القلوب بنور الذكر وجمال الفكر وروعة الأنس وجلال الخشية هو المخرج الوحيد لنجاة الإنسان في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن.
إن الصوفية الأوائل رضي الله عنهم كالحسن البصري ومحمد بن واسع وعبد الله بن المبارك والحارث المحاسبي وعبد القادر الجيلاني والجنيد والسري السقطي وأبي طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي وغيرهم من الأكابر قد رأوا أنه ليس بعد اعتلال النفوس وإظلام الأرواح علة ولا داء، وأن الإنسان بدون صلاح قلبه وإشراق روحه سيكون كائنا ربما أخس من كثير من البهائم والحيوانات، وإذا ارتقت نفسه وأشرقت روحه وامتلأ قلبه بنور المحبة واليقين فإنه يعلو في معارج (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها) حتى يكون عبدا ربانيا يقول للشيء كن فيكون، يعلو إلى درجات عليا من محبة الله له وإكرامه له واصطفائه إياه درجات ربما لا تبلغها الملائكة.
من قديم وضع الصوفية الأوائل منهجا دقيقا لإصلاح علل القلوب والنفوس، ما عليك إلا أن تفتح كتابا كإحياء علوم الدين لحجة الإسلام الغزالي أو عوراف المعارف للسهروردي أو قوت القلوب لأبي طالب المكي لترى منهجا دقيقا مؤسسا على الوحي كتابا وسنة، غائصا في أعماق أعماق النفوس والقلوب والأرواح البشرية على اختلاف عللها وأمراضها، واصفا الدواء النافع والترياق الشافي لأمراض النفوس وعللها.
أعتقد أننا الآن بحاجة ماسة إلى بعث التصوف في حياتنا كثورة روحية على ما أفسدته السياسة من ديننا، نحن بحاجة إلى إصلاح ما فسد من نفوسنا نحن بحاجة إلى تنوير ما أظلم من قلوبنا.
أعرف كثيرا من إخواني الذي يخشون على أنفسهم وعلى قلوبهم قد امتنعوا تماما من متابعة الأخبار السياسية والقنوات الدينية، بعضهم قال لي : إنه وضع التلفاز في داخل الدولاب حتى لا يصاب بالاكتئاب!!!!
يسألني كثير من الناس عن مسجد يصلي فيه الجمعة لا يتعاطى الخطيب فيه أي حديث عن السياسة مع أو ضد التيار الإسلاميً!!!!
الناس بحاجة إلى التصوف، بحاجة إلى فهمه، وإلى معرفته.
على طلاب العلم أن يشرحوا للناس أن التصوف هو مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
عليهم أن يعلموا الناس أن التصوف علم صحيح موروث مؤسس على الكتاب والسنة، وأنه لا يبنى على الجهل ولا الشعوذة ولا الخرافات، بل إن أول وأعظم شعار عند الصوفية (من لم يحفظ القران ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة).
علموا الناس أن أهل التصوف هم أهل التواضع لخلق الله وعامتهم لا يرون لأنفسهم منة ولا فضلا ولا درجة على أحد من خلق الله وإن كان غارقا في الذنوب والمعاصي بل والكبائر (لعله يحب الله ورسوله) فالنظر إلى عيوبهم شغلهم عن عيوب الناس. (اعتقد أن جميع الناس ذهبا وأنك وحدك ترابا).
علموا الناس أن الصوفية هم أهل الخدمة وأهل النجدة، فهم في سبيل الله يسعون في سدة خلة الفقير ومساعدة المسكين وإطعام الجائع وحمل الكل والعاجز ومداوة المريض وسد دين المدين، لا يفعلون ذلك مقابل أجر ولا مدح ولا شكر، ولا يطلبون بذلك عرضا من أعراض الفانية، ولا كرسيا زائلا من كراسي الحكم، بل يرون هذا حقا عليهم لأهل الفقر والحاجة، مع المحافظة على الستر وحفظ ماء وجه أهل الحاجة ومراعاة أن الفقير قبل أن يكون صاحب حاجة فهو صاحب عزة وكرامة.
علموهم أن الصوفية أهل خلوة بالليل يذكرون الله فرادى وجماعات يصلحون الباطن قبل الظاهر. يتقربون إلى الله تعالى بكثرة الذكر وإطالة الفكر، يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.
علموهم أيضا أن التاريخ يشهد أن الصوفية لم تشغلهم خلواتهم بالليل عن ساحات الجهاد في سبيل الله بالنهار، فساحات المعارك تشهد أن الصوفية هم حائط الصد المنيع والدرع الواقي الذي حمى الله به الأمة ورفع عنها الذل والعار.
ألم يكن صلاح الدين الأيوبي محرر القدس الشريف صوفيا؟ ألم يكن معلمه وسيده نور الدين محمود زنكي صوفيا؟ ألم يكن أبوه ومعلمه عماد الدين زنكي صوفيا؟ اقرأوا كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) لتعلموا أثر الإمام الغزالي الصوفي في إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله، وكما فعل الغزالي فعل الإمام الصوفي الشاذلي عز الدين ابن عبد السلام في حروب التتار.
الصوفية أهل العبادة والمجاهدة وأهل الجهاد، وهم مع ذلك أهل علم وفقه، هم الأصوليين وشاهدهم مستصفى الغزالي ومنهاج البيضاوي ومحصول الرازي وجمع جوامع السبكي ومختصر ابن الحاجب، وهل بعد هؤلاء الفحول أصول؟
هم الفقهاء والمحدثون والمفسرون......إلخ.
هم أهل الفن والذوق والأدب.
نحن بحاجة إلى التصوف فالتصوف طوق نجاة، ومنهج حياة.
أما عن حاجة التصوف إلينا، فالتصوف كممارسة يحتاج إلى إصلاح بسبب كثرة السهام الموجهة إليه من أعداء الإسلام والمسلمين الجهال أيضا – فمن جهل شيئا عاداه - فكما ذكرت في مقالات سالفة، إن تشويه التصوف ورميه بالابتداع وربما الكفر والعمل على تنفير الناس منه أشد التنفير، حتى إن كثيرا من المحبين الذين وقفوا على سلامة المنهج ينصحوننا إشفاقا علينا أن نبتعد في الدعوة عن ذكر كلمة التصوف والصوفية نظرا لما تحمله هذه الكلمة من ظلال غير حميدة في نفوس كثير من الناس، وإن ألفاظا مثل الزهد وغيره قد تكون أنفع لنا من لفظ والتصوف، وللأسف بعض الصوفية يفعل هذا ويمارسه. وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل ليس هذا محله.
اكتسب التصوف هذه السمعة على الرغم من مكانته العالية السامية عبر مراحل التاريخ الإسلامي كله، فالتصوف كان مصدر قوة جبارة بسبب منهجه الروحي الإصلاحي، فتشويه التصوف ورميه بالنقائص لم يكن إلا لإقصاء المنهج الروحي الإصلاحي عن أي حركة إحياء أو تجديد، وانظر إلى الجماعات التي عادت التصوف وحاربته واعتبرته رجسا من عمل الشيطان، كيف تحولت هي على عكس إرادتها وقصدها إلى معول هدم وتفرقة وتشويه للدين الذي تزعم أنها تحمله وتدافع عنه؟
(السلفية من أيام الشيخ رشيد رضا والإخوان المسلمون من أيام حسن البنا سقطوا في هذا الفخ)
أقول كل هذا لم يكن مصادفة ورب الكعبة بل كان مدروسا ومقصودا.
لهذا أقول نحن بحاجة إلى التصوف.
والتصوف كذلك بحاجة إلينا لإحيائه وإعادته وإصلاحه وتنقيته من جهل وخرافات العوام والمحبين وما أفسدته السياسة واللوائح والقوانين العقيمة في طرقه ومناهجه.
التصوف بحاجة إلينا فينبغي علينا أن نعلي من شأنه ونحافظ على مكانته وندعو إليه ونفتخر بالانتساب إليه.
أهل التصوف بحاجة إلى العلم والعمل بالمنهج الصوفي والأخلاق الصوفية ، وأن يعودوا بالتصوف سيرته الأولى على طريقة الكتاب والسنة.
هذا هو التصوف وحاجتنا إليه وحاجته إلينا. فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا
كتبت هذا المقال ونشرته في ساعة سحر صافية قبل منصرفي لصلاة الفجر. وأستغفر الله لي ولكم.
خادمكم أشرف سعد الأزهري
للشيخ /أشرف سعد الأزهري
الحيرة والقلق والصدمة والمرارة والضيق مشاعر تختلج وتسيطر على كثير من قلوبنا نحن المصريون في هذه الأيام، بسبب ما نسمعه من أفواه بعض المنتسبين إلى الدعوة هذه الآوانة خاصة على القنوات الفضائية التي تروج لتيارات سياسية بعينها وتمتطي الدين وسيلة لتحقيق أغراضها، فهذا يسب باسم الإسلام، وذاك يقذف الناس في أعرضهم في سبيل الله، وهذا يرد السخرية بسخرية مثلها أو أشد منها، وآخر يحاول تلميع ما اعتلى تاريخه من صدأ ونسيان عن طريق تبرير ما انطوى عليه ذلك التاريخ من قتل واغتيال وتدمير وتفجير حصد مئات الأرواح بعضهم من الأطفال الأبرياء.
والملحوظة التي تستدعي التأمل في هذا السياق أن الفوارق المتسعة التي كنا نراها مساحات شاسعة بين تيارات العنف العقدي التكفيري وبين تيارات العنف الحسي المسلح وبين تيارات الوسط السياسي قد تلاشت تقريبا بل تماهت مما يوحي بأنها كانت قبل ذلك – أعني قبل الثورة - أقرب ما يكون إلى المساحات والفوارق الوهمية.
ونحن الآن على مفترق طريق يجرنا في اتجاهات متعددة إما أن نقنع بأن هذا التشويه الذي لحق بالدين جراء الممارسات السياسية الخاطئة هو أمر واقع عادي وأن هذا هو الدين فعلا، وأن حسن الخلق وسعة الصدر والصبر والإحسان والمسامحة والعفو واللين وجميع الفضائل وخصال الخير التي بذلها النبي صلى الله عليه وسلم للكافر حال كفره والمحارب بعد القدرة عليه أصبحت أمورا منسوخة ملغاة لا تليق بوقتنا هذا ولا مخالفينا وأن اللائق بهذا العصر حقا، ذلك الجهاد اللفظي بالسب والشتم والقذف والضرب إن لزم الأمر... وفي هذه الحالة دع عنك عناء كلام طويل متكرر حول سماحة وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغالبا لن يسمعك أحد فشهوة السياسة شهوة طاغية غالبة.
هذا اتجاه. أن نقبل الدين بصورة شائهة تقدمها هذه الجماعات بدافع سياسي لا غير.
أما الاتجاه الآخر – وهذا موجود وحذرنا منه مرارًا – أن يكفر البعض بالدين جملة وتفصيلا إما صراحة بإعلان الإلحاد والكفر عياذا بالله وهذا موجود، أو مواربة بأن يجعل الدين اسما في بطاقة هوية أو استمارة جامعية وأن نطلق - طلاقا بائنا غير رجعي- كل ما له صلة بالدين في حياتنا العملية من جوهر أو حتى مظهر. وهذا أيضا موجود بل شائع ذائع.
ويرى هذا البعض أن الدين الذي يحمل أتباعه على هذا التدني اللأخلاقي وإلى تلك المستنقعات من الانحطاط والإسفاف لا يمكن أبدا أن يكون دينا حقا جاء به رسول كريم من عند رب رحيم.
وفي هذه الحالة أيضا دع عنك عناء كلام كثير مل الشباب من ترديده وتكراره حول ضرورة الفصل بين الإسلام وبين المسلم، وكذلك بين الشخص وبين المنهج. فالقلوب والصدور والعقول ضاقت عن تقبل هذا الكلام. ولعل شهوة السياسة في الاتجاه العلماني المضاد هي التي تغذي مثل هذا وترويه وتربيه.
وهذا أيضا اتجاه ثان مصادم للأخلاق والدين معا.
وكلا الاتجاهين يتدافع الشباب نحوهما تدافع الفراش نحو النار.
ثمة اتجاه ثالث يرى أتباعه القلائل – وأنا لا شك واحد منهم – أن الدين بصفائه ونقائه وروحانيته ورحمته بالمؤمن والكافر، وعمومه وشموله... لا علاقة له بكثير من المتحدثين باسمه السائقين الناس إلى مهاوي الفتن والضلال، بسبب خلط الدين بالسياسة على وجه شائه قبيح، وأن الروحانية وإصلاح النفوس وتهذيبها وإنارة القلوب بنور الذكر وجمال الفكر وروعة الأنس وجلال الخشية هو المخرج الوحيد لنجاة الإنسان في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن.
إن الصوفية الأوائل رضي الله عنهم كالحسن البصري ومحمد بن واسع وعبد الله بن المبارك والحارث المحاسبي وعبد القادر الجيلاني والجنيد والسري السقطي وأبي طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي وغيرهم من الأكابر قد رأوا أنه ليس بعد اعتلال النفوس وإظلام الأرواح علة ولا داء، وأن الإنسان بدون صلاح قلبه وإشراق روحه سيكون كائنا ربما أخس من كثير من البهائم والحيوانات، وإذا ارتقت نفسه وأشرقت روحه وامتلأ قلبه بنور المحبة واليقين فإنه يعلو في معارج (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها) حتى يكون عبدا ربانيا يقول للشيء كن فيكون، يعلو إلى درجات عليا من محبة الله له وإكرامه له واصطفائه إياه درجات ربما لا تبلغها الملائكة.
من قديم وضع الصوفية الأوائل منهجا دقيقا لإصلاح علل القلوب والنفوس، ما عليك إلا أن تفتح كتابا كإحياء علوم الدين لحجة الإسلام الغزالي أو عوراف المعارف للسهروردي أو قوت القلوب لأبي طالب المكي لترى منهجا دقيقا مؤسسا على الوحي كتابا وسنة، غائصا في أعماق أعماق النفوس والقلوب والأرواح البشرية على اختلاف عللها وأمراضها، واصفا الدواء النافع والترياق الشافي لأمراض النفوس وعللها.
أعتقد أننا الآن بحاجة ماسة إلى بعث التصوف في حياتنا كثورة روحية على ما أفسدته السياسة من ديننا، نحن بحاجة إلى إصلاح ما فسد من نفوسنا نحن بحاجة إلى تنوير ما أظلم من قلوبنا.
أعرف كثيرا من إخواني الذي يخشون على أنفسهم وعلى قلوبهم قد امتنعوا تماما من متابعة الأخبار السياسية والقنوات الدينية، بعضهم قال لي : إنه وضع التلفاز في داخل الدولاب حتى لا يصاب بالاكتئاب!!!!
يسألني كثير من الناس عن مسجد يصلي فيه الجمعة لا يتعاطى الخطيب فيه أي حديث عن السياسة مع أو ضد التيار الإسلاميً!!!!
الناس بحاجة إلى التصوف، بحاجة إلى فهمه، وإلى معرفته.
على طلاب العلم أن يشرحوا للناس أن التصوف هو مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
عليهم أن يعلموا الناس أن التصوف علم صحيح موروث مؤسس على الكتاب والسنة، وأنه لا يبنى على الجهل ولا الشعوذة ولا الخرافات، بل إن أول وأعظم شعار عند الصوفية (من لم يحفظ القران ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة).
علموا الناس أن أهل التصوف هم أهل التواضع لخلق الله وعامتهم لا يرون لأنفسهم منة ولا فضلا ولا درجة على أحد من خلق الله وإن كان غارقا في الذنوب والمعاصي بل والكبائر (لعله يحب الله ورسوله) فالنظر إلى عيوبهم شغلهم عن عيوب الناس. (اعتقد أن جميع الناس ذهبا وأنك وحدك ترابا).
علموا الناس أن الصوفية هم أهل الخدمة وأهل النجدة، فهم في سبيل الله يسعون في سدة خلة الفقير ومساعدة المسكين وإطعام الجائع وحمل الكل والعاجز ومداوة المريض وسد دين المدين، لا يفعلون ذلك مقابل أجر ولا مدح ولا شكر، ولا يطلبون بذلك عرضا من أعراض الفانية، ولا كرسيا زائلا من كراسي الحكم، بل يرون هذا حقا عليهم لأهل الفقر والحاجة، مع المحافظة على الستر وحفظ ماء وجه أهل الحاجة ومراعاة أن الفقير قبل أن يكون صاحب حاجة فهو صاحب عزة وكرامة.
علموهم أن الصوفية أهل خلوة بالليل يذكرون الله فرادى وجماعات يصلحون الباطن قبل الظاهر. يتقربون إلى الله تعالى بكثرة الذكر وإطالة الفكر، يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.
علموهم أيضا أن التاريخ يشهد أن الصوفية لم تشغلهم خلواتهم بالليل عن ساحات الجهاد في سبيل الله بالنهار، فساحات المعارك تشهد أن الصوفية هم حائط الصد المنيع والدرع الواقي الذي حمى الله به الأمة ورفع عنها الذل والعار.
ألم يكن صلاح الدين الأيوبي محرر القدس الشريف صوفيا؟ ألم يكن معلمه وسيده نور الدين محمود زنكي صوفيا؟ ألم يكن أبوه ومعلمه عماد الدين زنكي صوفيا؟ اقرأوا كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) لتعلموا أثر الإمام الغزالي الصوفي في إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله، وكما فعل الغزالي فعل الإمام الصوفي الشاذلي عز الدين ابن عبد السلام في حروب التتار.
الصوفية أهل العبادة والمجاهدة وأهل الجهاد، وهم مع ذلك أهل علم وفقه، هم الأصوليين وشاهدهم مستصفى الغزالي ومنهاج البيضاوي ومحصول الرازي وجمع جوامع السبكي ومختصر ابن الحاجب، وهل بعد هؤلاء الفحول أصول؟
هم الفقهاء والمحدثون والمفسرون......إلخ.
هم أهل الفن والذوق والأدب.
نحن بحاجة إلى التصوف فالتصوف طوق نجاة، ومنهج حياة.
أما عن حاجة التصوف إلينا، فالتصوف كممارسة يحتاج إلى إصلاح بسبب كثرة السهام الموجهة إليه من أعداء الإسلام والمسلمين الجهال أيضا – فمن جهل شيئا عاداه - فكما ذكرت في مقالات سالفة، إن تشويه التصوف ورميه بالابتداع وربما الكفر والعمل على تنفير الناس منه أشد التنفير، حتى إن كثيرا من المحبين الذين وقفوا على سلامة المنهج ينصحوننا إشفاقا علينا أن نبتعد في الدعوة عن ذكر كلمة التصوف والصوفية نظرا لما تحمله هذه الكلمة من ظلال غير حميدة في نفوس كثير من الناس، وإن ألفاظا مثل الزهد وغيره قد تكون أنفع لنا من لفظ والتصوف، وللأسف بعض الصوفية يفعل هذا ويمارسه. وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل ليس هذا محله.
اكتسب التصوف هذه السمعة على الرغم من مكانته العالية السامية عبر مراحل التاريخ الإسلامي كله، فالتصوف كان مصدر قوة جبارة بسبب منهجه الروحي الإصلاحي، فتشويه التصوف ورميه بالنقائص لم يكن إلا لإقصاء المنهج الروحي الإصلاحي عن أي حركة إحياء أو تجديد، وانظر إلى الجماعات التي عادت التصوف وحاربته واعتبرته رجسا من عمل الشيطان، كيف تحولت هي على عكس إرادتها وقصدها إلى معول هدم وتفرقة وتشويه للدين الذي تزعم أنها تحمله وتدافع عنه؟
(السلفية من أيام الشيخ رشيد رضا والإخوان المسلمون من أيام حسن البنا سقطوا في هذا الفخ)
أقول كل هذا لم يكن مصادفة ورب الكعبة بل كان مدروسا ومقصودا.
لهذا أقول نحن بحاجة إلى التصوف.
والتصوف كذلك بحاجة إلينا لإحيائه وإعادته وإصلاحه وتنقيته من جهل وخرافات العوام والمحبين وما أفسدته السياسة واللوائح والقوانين العقيمة في طرقه ومناهجه.
التصوف بحاجة إلينا فينبغي علينا أن نعلي من شأنه ونحافظ على مكانته وندعو إليه ونفتخر بالانتساب إليه.
أهل التصوف بحاجة إلى العلم والعمل بالمنهج الصوفي والأخلاق الصوفية ، وأن يعودوا بالتصوف سيرته الأولى على طريقة الكتاب والسنة.
هذا هو التصوف وحاجتنا إليه وحاجته إلينا. فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا
كتبت هذا المقال ونشرته في ساعة سحر صافية قبل منصرفي لصلاة الفجر. وأستغفر الله لي ولكم.
خادمكم أشرف سعد الأزهري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق