الإلهام لدى أهل اللغة :
الإلهام في اللغة مشتق من : لَهِمَ ، يقال : لَهِمَه - كَسَمِعَهُ - لَهْماً ، وتَلَهَّمَه ، والْتَهَمَهُ ، أي : ابْتَلَعَهُ بمرَّة .مصدر ألهم، وهو ما يلقى في الرُّوع – بضم الراء – أي القلب. يقال : ألهمه الله، واستلهم الله صبراً. قال الله تعالى في كتـابه العـزيز: فألهمها فجورها وتقواهاـ (آية 8: سورة الشمس). وله معاني أخر :منها : ألْهَمَهُ الله خيراً : لَقَّنه إياه .واسْتَلْهَمَه إياه : سأله أن يُلْهِمَه إيّاه([1]) .وقال صلى الله عليه وسلم لحصين بن منذر الخزاعي لما أسلم قل:
"اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي .
هذا ولم يرتض ابن القيم تسمية الإلهام بالتحديث وذلك لأن التحديث أخص من الإلهام وذلك لأمرين: أحدهما: أن الإلهام يكون لعموم المؤمنين ولا يختص به أحد دون أحد كما في الآية المتقدمة . (الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 184)
الثاني: أن التحديث لا يكون لعموم المؤمنين بدليل تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم عمر به دون الأمة حيث قال صلى الله عليه وسلم: إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر وعرف ابن القيم الإلهام بأنه وحي لغير الأنبياء ولكن للمكلفين كما في قوله سبحانه: ويكون لغير المكلفين كما في قوله سبحانه: .
وهو عند صاحب المنازل على ثلاث درجات :
الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا بسماع والنبأ أخص من الخبر لأن النبأ هو الخبر الذي له شأن وهو نبأ لأنه خبر عن غيب معظم .
وقد عرف ابن القيم هذا النوع بأنه (الإعلام الذي قطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة وقد انتقد ابن القيم جعل طريق الإلهام السمع وذلك لأنه والحالة هذه خطاب وليس إلهاما وهذا يستحيل أن يحصل إلا للأنبياء وهذا من خصوصيات موسى عليه السلام حيث خاطبه ربه فيالطور .
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 185)
وأما ما يقع لأرباب الرياضيات من السماع فأعلاها ما يكون منه أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يمكن أن يقع لغير الأنبياء وذلك لخطاب الملائكة عمران بن حصين بالسلام عليه فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عادت بالسلام وهو على نوعين:
أحدهما: خطاب يسمعه بأذنه وهو وارد بالنسبة لعموم المؤمنين .
الثاني: (خطاب يخاطب به الملك الروح فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن
للملك لمه بقلب ابن آدم وللشيطان لمه فلمة الملك إيعاد بالخير والتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد) ثم قرأ وهذا هو واعظ القلب في قلب المؤمن . وأما وقوع الإلهام بغير واسطة لم يقم عليه دليل فلا يجزم بنفيه ولا إثباته إلا بدليل من سماع أهل الرياضيات الخطاب المسموع كخطاب الجن وقد يكون المخاطب مؤمنا وقد يكون شيطانا وهو على نوعين:
أحدهما: أن يخاطبه بحيث يسمعه بأذنه .
الثاني: أن يلقيه على قلبه عندما يلم به .
وعلى هذا فإن المخاطب لا يعلم هل خطابه في هذه الحال خطاب ملك أو خطاب شيطان يطلق ابن القيم على هذين الخطاب الرحماني والخطاب الشيطاني .وعلى ذلك فلا يمكن التمييز بينهما إلا بعرضهما على الشرع فما وافقه علم أنه رحماني وما خالفه علم أنه شيطاني .
ومن سماع أرباب الرياضيات خطاب حالي ويكون من النفس فتوهمه أنه من خارجها وهذا كثيرا ما يعرض لكثير من السالكين فيظن أن الله قد خاطبه وسببه أن النفس حين صفائها وتخلصها من كدراتها حال الرياضة يقوى سلطان الروح والقلب على سلطان البدن والجسد وعندئذ يكون الخطاب للقلب والروح والسالك في حال غيبته وفنائه قد يتصور من يخاطبه وهو ليس كذلك .
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 186)
الدرجة الثانية إلهاما يقع عيانا هو عام ضروري لا يستطيع القلب دفعه وشرطه:
أولا: ألا يتجاوز حدود الله فيرتكب المعاصي كالكهان وأصحاب الكشف الشيطاني .
ثانيا: أن لا يقع على خلاف الحدود الشرعية كالتجسس على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها .
ثالثا: أن لا يخطئ أبدا بل يستمر صدقه لأن الكشف الشيطاني لا يستمر صدقه بل يكذب وتمثله الأمور الفطرية والمعلومات الضرورية التي لا تحتمل الخطأ .
هذا ويقرر ابن تيمية أن الإلهام الذي في القلب تارة يكون في الشرعيات وتارة يكون في الكونيات فإذا كان في الشرعيات فهو على نوعين:
النوع الأول: ما كان من جنس العلم والقول والظن والاعتقاد .
النوع الثاني: ما كان من جنس العمل والحب والإرادة والطلب وفي
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 187)
هذين الأمرين يكون الإلهام بترجيح أحد الفرضين على الآخر وبيان أنه هو الحق والصواب وقد يكون مجرد ميل لأحدهما دون الآخر .
وأما إذا كان في الأمور الكونية فقد ينكشف للعبد المؤمن يقينا أو ظنا وإذا تقرر هذا فإن الكشف في الأمور الدينية أولى وأحرى لكن لا بد أن يكون بالدليل الكاشف وقد يكون بدليل ينقدح في قلب العبد لكن لا يستطيع التعبير عنه .
وقد خطأ ابن تيمية الغزالي في إنكاره هذا النوع الأخير من الترجيح بالدليل المنقدح في نفس العبد ولا يستطيع التعبير عنه وذلك أن كثيرا من الناس ينقصهم البيان فقد يلقي في القلب أن هذا الطعام حرام وأن هذا الرجل فاسق أو كافر وإن كان من جهة العمل للجزم لا بد من دليل شرعي في ذلك كله وأنه لا يعمل بمجرد الظن والتخمين وبنى قوله هذا على أن الأدلة لا يجوز أن تتكافأ في واقع الأمر وحقيقته وإن كانت تتكافأ عند الناظر فيجتهد في معرفة أرجحها فإذا بذل جهده في معرفة الحق لم يطلب منه أكثر من ذلك .
هذا وابن تيمية عندما يقرر ما تقدم فإنه لا يرى الاعتماد على مجرد ما يحصل في القلب من إرادة بل لا بد من عرض ذلك على الكتاب والسنة ويدل عليه قوله: ( فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه وبهذا يقوي أحدهما الآخر كما قال سبحانه: .
قال بعض السلف في هذه الآية: (هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها أثرا فإذا سمع الأثر كان نورا على نور ،
.خامسا: الفراسة : الفراسة في اللغة بالكسر مصدر فرست بالعين أفرس من باب ضرب ومنه تفرست فيه الخبر تعرفته بالظن الصائب ومنه حديث: اتقوا فراسة المؤمن .
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على معناها كقوله تعالى: قال مجاهد رحمه الله المتفرسين وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (للناظرين) وقال قتادةرحمه الله للمعتبرين وقال مقاتل : للمتفكرين ولم يرد لفظها فيه .
وأما في السنة فقد وردت بلفظها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله رواه الترمذي عن أنس وهو حسن ولا تعارض بين أقوال المفسرين في الآية المتقدمة لأن الناظر متى نظر وتفكر في حالهم وانتقل إلى الصور المشابهة لهم في الحال وصل إلى الحكم عليهم بنفس الحكم فهي أقوال متلازمة غير متنافرة .أنواع الفراسة : .
يرى ابن القيم أن الفراسة على ثلاثة أنواع:النوع الأول: ( الفراسة الإيمانية وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثبت على القلب) وسمي بهذا الاسم تشبيها له بوثوب الأسد على فريسته وسبب هذا النوع: نور يقذفه الله في قلب العبد يكون من
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 189)
نتائجه أن يفرق بين الحق والباطل والصادق والكاذب وغيرها وهي بحسب الإيمان قوة وضعفا فكلما قوي الإيمان قويت وكلما ضعف ضعفت فمن كان أقوى إيمانا كان أقوى فراسة .
النوع الثاني: الفراسة الرياضية :
وهي تكون بالمران والتكرار وتحمل المشاق من الجوع والسهر والتخلي وسببها أن النفس إذا تجردت مما يثقلها صار لها كشف بحسب ذلك التجرد وهذا النوع لا يختص بأهل الإيمان بل هو حاصل للمؤمن والكافر فهي مشتركة بين الناس وقوتها تبعا لسببها .
ولا دلالة فيها على إيمان ولا ولاية ولا يستفاد منها الكشف عن الحق ولا عن طريق مستقيم فهي تحصل للولاة والأطباء وأرباب الحرف بحسب معرفتهم بوظائفهم وتمكنهم منها .
النوع الثالث: الفراسة الخلقية وهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن لما بينهما من ارتباط اقتضته حكمة الله كأن يستدل بزرقة العينين على الدهاء والخبث وبسعة الصدر على سعة الخلق والحلم ونحو ذلك وهي أيضا كسابقتها لا يستدل بها على إيمان ولا كفر ولا ولاية ولا عداوة .
ويرى صاحب المنازل أن الفراسة: استئناس الغيب ويقصد بها قياس الشاهد على الغائب وهو أمر مشترك بين المؤمن والكافر وغيرهما ومثالها الاستدلال على نزول المطر بشدة البرق والرعد واستدلال الطبيب على المرض بظواهر على المريض ونحو ذلك وهي عنده على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: فراسة طارئة نادرة وهي التي تقع على لسان شخص مرة واحدة في العمر مثلا وهي عنده فراسة الغافلين الذين لم يأنسوا بذكر الله وقربه فهي كرمية من غير رام . (الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 190)
الدرجة الثانية: فراسة تجنى من غرس إيماني وهي تبعا لصدق الحال فكلما كان الحال أصدق كانت هذه الفراسة أقوى وهي عنده تختص بأهل الإيمان وهم فيها متفاوتون .
النوع الثالث: فراسة سرية وهي التي يخبر فيها المختار المصطفى صاحب الولاية عن الأمور المغيبة تارة تصريحا وتارة تلويحا إما سترا لحاله أو صيانة لما أخبر به من الابتذال ووصوله إلى غير أهله وإما لغير ذلك من الأسباب وهي أعلى الأنواع عند صاحب منازل السائرين مع أن هذه الدعوى غير مقبولة لأن الخبر عن الغيب قد يكون ساحرا أو كاهنا أو عرافا أو منجما وكل هؤلاء أحوالهم من الشرع مذمومة . قال صلى الله عليه وسلم: من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا وقد غلا الصوفية في الفراسة حتى جعلوها مصدرا من المصادر الأساسية للمعرفة حتى حكموها في أمور الديانة مع أن صاحب الفراسة إن كانت إيمانية لا يعرف صدقها إلا بوقوعها وجزمه بمجرد الواردات يحتاج إلى عرضه على الشرع ليحكم عليه بالنفي أو الإثبات والحق أو الباطل وغاية الأمر إن لم يدل الدليل على أنه باطل أو حق أن تكون الفراسة من المرجحات ، ولذا لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بفراسة في مال أو عرض أو نفس أو نسب أو عقل بل بالبينات والشهود وغاية الفراسة أن تكون أمارة ظنية لا تصل إلى مقام الدليل من حيث دلالته على إثبات الحكم فلا تصلح للاستقلال بالحكم في أمر شرعي أو قدري بل لا بد من عرض ما دلت عليه على نصوص الكتاب والسنة وما دل عليه معقولهما .
مما يدل على أن الفراسة ترجع أسبابها إلى أمرين : .
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 191)
الأول: جودة ذهن المتفرس .
الثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه وهما أمران ظنيان فما بني عليه يكون ظنيا فلا يستقبل بالإثبات أو النفي ولا تعارض به الأدلة اليقينية من الكتاب والسنة ومعقولهما .
وبذا يتبين لنا أنه لا يجوز الاعتماد في إثبات الحكم الشرعي أو القدري على مجرد الفراسة وحدها بل لا بد من اجتماع أمارات كثيرة تقرب إلى اليقين أو أدلة شرعية تدل على المنفي أو المثبت .
وأما في الأمور الدنيوية التي لا تعارض كتابا ولا سنة ولا تستلزم نقل الأموال وإثبات الحدود والتعزيرات فلا بأس من الاستفادة من الفراسة في مجال الترجيح بين المتعارضات
سادسا: الرؤى والأحلام :
تعريفها: الرؤى جمع رؤيا: وهي ما يراه الشخص في منامه وهي بوزن فعلى وقد تسهل الهمزة ، وقال الواحدي : هي في الأصل مصدر كاليسرى فلما جعلت اسما لما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء .
قال الراغب : والرؤية بالهاء إدراك المرء بحاسة البصر وتطلق على ما يدرك بالتخيل نحو: أرى أن زيدا مسافر وعلى التفكر الفطري نحو وعلى الرأي وهو اعتقاد أحد النقيضين على غلبة الظن .
وقد وردت الرؤيا في القرآن الكريم كما في قوله سبحانه:
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 192)
وقال جل جلاله: وقال سبحانه في سورة يوسف: .
وكما ورد في القرآن فقد ورد ذكرها في السنة فقال صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة رواهالبخاري عن أنس . .
وأخرج البخاري أيضا عن عبادة بن الصامت وأبي هريرة قال: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . وأخرج أيضا عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
تعريف الرؤيا اصطلاحا: .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : (الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها وإما بكناها أي بعباراتها وإما تخليط ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة وهذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق )لكل أحد بحسبه) ويدل على ما ذكره ابن القيم من أنواع الرؤيا بقوله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما حدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام .
والرؤيا هي مبدأ الوحي وقد كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وصدقها عند اقتراب الزمان لا يكاد يخطئ وذلك لبعد الناس عن عصر النبوة وآثار النبوة فيعوض الله المؤمن بالرؤيا الصالحة . وأما في زمان النبوة فلم تكن الحاجة إليها ملحة لاستغناء الناس بنور النبوة عن أي شيء آخر ولذا فهي من نظير الكرامات التي تخرج على أيدي الصالحين من عباد الله فهي في عصر الصحابة أقل من سواه لاستغنائهم بقوة الإيمان واحتياج غيرهم لضعفه عندهم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام) وقال صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له رواه البخاري . لذا فإنها إذا تواطأ رؤى المسلمين فإنها لا تكذب قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رأوا ليلة القدر في العشر الأواخر قال: (أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان .قال القرطبي : (والمسلم الصادق الصالح هو الذي ناسب حاله حال الأنبياء فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب أما الكافر والفاسق والمخلط فلا ولو صدقت رؤياهم أحيانا فذاك كما قد يصدق الكذوب وليس كل من حدث عن غيب يكون خبره من أجزاء النبوة كالكاهن أو المنجم) .
وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم للطريق الصحيح الذي يسلكه العبد مع رؤياه فأخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره وأخرج من طريق آخر عن أبي قتادة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره .
وأخرج البخاري عقيد التوحيد في فتح الباري ص (333). عن أبي سلمة قال لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول وأنا كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث به أحدا فإنها لا تضره .
(الجزء رقم : 41، الصفحة رقم: 196)
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل .
قال الحافظ ابن الحجر : (محاصيل ما ذكره في أدب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء ، أن يحمد الله عليها وأن يستبشر بها وأن يحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها ، ومن شر الشيطان وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا ولا يذكر لأحد أصلا .
ووقع عند المصنف (يعني البخاري ) عن أبي هريرة خامسة وهي الصلاة) .
وزاد مسلم سادسة (وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه) قال صلى الله عليه وسلم: وليتحول عن جنبه الذي كان عليه . قال الحافظ : (ورأيت في بعض الشروح ذكر سابعة وهي قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك سندا) .
( مجلة البحوث الإسلامية الممملكة العربية السعودية )http://www.alifta.net/Fatawa/fatawaDetails.aspx?View=Page&PageID=5709&PageNo=1&BookID=2
أما في الاصطلاح فهو :
« ما يحرّك القلب بعلم ، ويطمئن به ، ويدعو إلى العمل به »
انظر : مادة « لهم » في لسان العرب ، وتاج العروس .
وقال الزبيدي في تاج العروس : الإلهام : ما يُلقى في الروع بطريق الفيض، ويختص بما هو من جهة الله والملأ الأعلى. أما ابن منظور في لسان العرب نوعاً من الوحي فقال : الإلهام أن يلقي الله في النفس أمراً يبعثه على الفعل أو الترك، وهو نوع من الوحي، يخص الله به من يشاء من عباده.
قال الشريف الجرجاني رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الإلهام: ما يُلقَى في الرُّوع بطريق الفيض. وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم. وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة) ["تعريفات الشريف" الجرجاني ص23].
ومنه الأثر الذي ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين قال : « الوَحَا الوَحا »([1]) أي : السرعة السرعة .
[ التقاء الإلهام بالوحي في أصل المعنى ]
وهذه المعاني كلها حاصلة في الإلهام ، يقول أبو إسحاق([2]) : « وأصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء ، ولذلك صار الإلهام يسمى وحياً »([3]) .
وقد جاء في التنـزيل تسمية الإلهام وحياً في مواضع عدّة ، منها قوله تعالى : ﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين ﴾ [ المائدة : 111 ]((عن أنس أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة، وقد تحنط، ولبس ثوبين أبيضين، فكفن فيهما، وقد انهزم القوم، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر من صنيع هؤلاء، بئس ما عودتم أقرانكم ! خلوا بيننا وبينهم ساعة، فحمل، فقاتل حتى قتل، وكانت درعه قد سرقت، فرآه رجل في النوم، فقال له: إنها في قدر تحت إكاف، بمكان كذا وكذا، وأوصاء بوصايا، فنظروا فوجدوا الدرع كما قال. وأنفذوا وصاياه)) اهـ.
هذا خبر صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وفي رواية أخرى:
(( فلما استشهد، رآه رجل: فقال: إني لما قتلت، انتزع درعي رجل من المسلمين، وخبأه، فأكب عليه برمة، وجعل عليها رحلا. فائت الامير، فأخبره، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، وإذا أتيت المدينة، فقل لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: إن علي من الدين كذا وكذا، وغلامي فلان عتيق، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، فأتاه، فأخبره الخبر، فنفذ وصيته، فلا نعلم أحدا بعد ما مات أنفذت وصيته غير ثابت بن قيس رضي الله عنه)) اهـ.
فانظر كيف أن الصحابة وعلى رأسهم الصديق رضي الله عنهم، قد استمعوا إلى رؤيا منامية من واحد منهم فعملوا بها، فهاهي رؤيا صحابي وكشف الصديق ومن معه بأنها رؤيا حق، فانظر كم بابا فقهيا وحكما شرعيا تم تنفيذه بناء على هذه الرؤيا المنامية ولكم الكشف، فحكموا بأن الدرع التي وجدوها لثابت بن قيس فحكموا بملكه لها برؤيا، ثم حكموا بأنها ميراث لأهله، ثم أخذوا من ميراثه وتركته وقضوا ديونا بمقادير معينة ولأناس معينين لا إثبات عليها سوى هذه الرؤيا، ثم انظر كيف أعتق الغلام بناء على رؤيا ولم يعتبر من الإرث والتركة .. فانظر إلى كل هذه الأحكام الشرعية والأبواب الفقهية كيف نتجت بناء على رؤيا منامية وهي أخت الكشف عندكم وأشد منها
خليفة رسول الله وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وجيل الصحابة الذين أنفذوا أحكاما شرعية على رؤيا منامية
ويقول ابن القيم في الروح - (1 / 15)
((فقد اتفق خالد [و] أبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها وانتزاع الدرع ممن هى في يده وهذا محض الفقه))اهـ.
ابن تيمية في الفتاوى الكبرى ـ (5 / 127):
(( والتحقيق أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك ))اهـ.
ويقول في الفتاوى الكبرى - (6 / 621):
((إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاءت به النصوص فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة يعارضون بعقلهم عقل النفاة وبكشفهم كشف النفاة لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح))اهـ.
بل آتيك بنص من كلام ابن تيمية في عين مسألتنا وهو التعويل على الكشف في باب الجرح والتعديل الذي استغربه القرضاوي !
قال ابن تيمية كما في المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - (1 / 159)
((وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت، بخلاف القلب الخراب المظلم، قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجاً يزهر. وفي الحديث الصحيح: (إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء) ؛ فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله، مع أن الله يجري على يديه أموراً هائلة ومخاريق مزلزلة، حتى إن من رآه افتتن به، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها.
وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}؛ قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نوراً على نور؛ فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم، والظن أن هذا القول كذب، وأن هذا العمل باطل، وهذا أرجح من هذا أو هذا أصوب.
وفي الصحيح عن النبي (؛ قال: قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر)، والمحدث: هو الملهم المخاطب في سره، وما قال عمر لشيء: إني لأظنه كذا وكذا؛ إلا كان كما ظن، وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه.
وأيضاً؛ فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقيناً وظناً؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى؛ فإنه إلى كشفها أحوج، فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب، فإن كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه، فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان، ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه، وربما لوح أو صرح به خوفاً من الله وشفقةً على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به.
وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام، وأن هذا الرجل كافر أو فاسق أو ديوث أو لوطي أو خمار أو مغن أو كاذب من غير دليل ظاهر، بل بما يلقي الله في قلبه.
وكذلك بالعكس، يلقي في قلبه محبة لشخص، وأنه من أولياء الله، وأن هذا الرجل صالح، وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يُستبعد في حقِّ أولياء الله المؤمنين المتقين.)) اهـ.
فاسمع هذا الكلام وافهم ولا تستبعد ذلك في حق أولياء الله المؤمنين المتقين.
ويقول في جامع الرسائل - (1 / 22)
((وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم، لكن ليس هذا مما يجب التصديق العام به فإن كثيراً مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظاناً في ذلك ظناً لا يغني من الحق شيئاً، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كاهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد)) اهـ.
اسمع يقول خواص الناس يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم .. ولا يعترض ابن تيمية على التصديق الخاص بهذا ! وأنتم ما ترون أحدا تنكرون عليه إلا الصوفية ؟!
ولو أردت أن أنقل لك كل كلام ابن تيمية في تقرير الكشف وتعظيمه لطال الأمر جدا ولكن أنا أتساءل ما هو موقف القرضاوي والوهابية من قول ابن القيم في مدارج السالكين (2 / 489):
((ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما:
ـ أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة.
ـ وأن جيوش المسلمين تكسر.
ـ وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام.
ـ وأن كلب الجيش وحدته في الأموال.
وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة
ـ ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم.
ـ وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا.
فيقال له : قل إن شاء الله فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا . وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام)) اهـ.
فهل بلغ القائلون بالكشف ما بلغه ابن تيمية قدوة القرضاوي والوهابية حتى أنه خرق الحجب كلها وعلم ما كتب في اللوح المحفوظ؟؟!!
إذا مال عالم صوفي إلى صحة خبر أو ضعفه بالكشف فهذا لا يختلف كثيرا عما يفعله أهل الحديث في آخر المطاف من الاعتماد على التخمين بعد تصارع الأدلة وتضارب الأقوال فينتهي الأمر إلى ترجيح بالرأي والخبرة الميل النفسي، فالصوفي يحكم في ذلك أيضا بأذواقه الإسلامية والإيمانية، ولكن ليس في كتب الصوفية المعمدة ولا غيرهم أن أحدهم حلف سبعين يمينا وأن الله كتب في اللوح المحفوظ كيت وكيت ! فليستح هؤلاء المتناقضون ولينصفوا في كلامهم.
حضرت جمعا من الوهابية يتضاحكون على كشف الصوفية فحكيت لهم قصة اللوح المحفوظ هذه عن بعض الصوفية فاستهجنوا ذلك واستقبحوه وصرحو بكفر القائل فلما أخبرتهم أنه ابن تيمية قال لي قائلهم : إن كان شيخ الإسلام قد قال فقد صدق !!!
فانظروا كيف نزلوا أنفسهم منزلة الصديق ونزلوا ابن تيمية منزلة النبي ثم يأتون يتكلمون عن الكشف ! ما أسفه عقولهم.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله
(وللفراسة سببان:أحدهما: جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته.
والثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته بين بين.
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة.
وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل: إن له فيها تآليف.
ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما:
• أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال: وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة.
• ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له: قل إن شاء الله فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وسمعته يقول ذلك قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام.
قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو.
وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور: اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا: قد تواترت الكتب بأن
القوم عاملون على قتلك فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا.
قالوا: أفتحبس قال: نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس. سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا: الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال.
فقيل له: ما سبب هذه السجدة فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له: متى هذا فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه.
وقال مرة: يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورالا أذكرها لهم فقلت له: أو غيري لو أخبرتهم فقال: أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة.
وقلت له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال: شهرا.
وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني.
وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم).انتهى كلام العلامة ابن القيم
وقوله (كتب الله في اللوح المحفوظ) مستنبطاً هذا من كتاب الله من كتابة النصر للمؤمنين ويوضح ذلك ابن كثير
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" : (وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة ، فاجتمع بهم في القطيفة ، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو ، فأجابوا إلى ذلك ، وحلفوا معهم ، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس : إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار ، فيقول له الأمراء : قل إن شاء الله ، فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا ، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله ، منها قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور [ الحج : 60 ] . ) أهـ
أما أهل التصوف فقد أكثروا من الحديث عن الإلهام وكشفوا اللثام عن دلالته لكثرة اهتمامهم بما يرد على القلب من الواردات.
وقد عرفه صاحب الرسالة القشيرية بأنه خطاب يرد على الضمائر من قِبل الملَك، وسُمّي الخِطاب الوارد عليها من قبل الله تعالى وإلقائه، بخاطر الحق. أما حجة الإسلام الغزالي فقد عدّه من الأنوار التي يقذف بها الله تعالى الى قلوب أصفيائه.
الموقف الثاني : الفرق بين الإلهام وبقية الواردات القلبية
تتوارد النفحات على قلب الصوفي بالليل والنهار، فبحمل كل وارد معه خطاباً عرفانياً يختلف عن ما يترشح عن غيره. ولكي لا تلتبس المعاني الواردة على القلب، وتتضح معالم النفحات سنحاول أن نقيم برزخاً معفياً بين الإلهام من جهة وبين بقية الواردات.
الموطن الأول : الفرق بين الإلهام والفراسة :
الفِراسة بكسر الفاء : النظر والتثبّت والتأمل للشيء والبصر به. وتفرسّ فيه الشيء : توسّمه، وتفرست فيه الخير : تعرفته بالظن الصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا فراسة المؤمن).
قال ابن الأثير : ويقال بالمعنيين : أحدهما : ما دلّ ظاهر الحديث عليه، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الظن والحدْس. والثاني : نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس .
ويبدو لنا أن الفراسة نوع من الاستدلال تناط بكسب وتحصيل، أما الإلهام فهو إلقاء بالروع من مقام أعلى فهو موهبة مجرّدة لا تنال بكسب الإنسان لأنها من عطايا الرحمن.الموطن الثاني : الفرق بين الإلهام والتحديثالتحديث هو إلقاء خطاب الى قلب العبد يخبره بأمر، فيكون كما حدّث به. ويقف الخليفة الزاهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رأس قائمة المحدّثين، بعد أن أثبت له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم".الموطن الثالث : الفرق بين الإلهام والكشف :
الكشف لدى أهل اللغة رفع ما يواري الشيء ويغطيه، أما لدى أهل التصوف فهو مطالعة شهودية بنور البصيرة تمحو معها كل السوى، فلا يشهد القلب إلا معروفه.وفي هذا الموطن تدقّ العبارة، وتختلط المعاني، وتتباين الأذواق. والذي نراه أن مقام الكشف يمحق الذات بحيث يزول البرزخ، أما الإلهام فيثبت للذات هويتها. والبون شاسع بين هذين المعنيين، والله أعلم.الموقف الثالث : البعد المعرفي للإلهامإن ورود الواردات على قلب الصوفي لا يعفيه من التحقق عن مواردها، لأنها لا يمكن أن تعدّ قطعية إلا لدى من تمكّن من آفات النفس، وغالب النزعات الشيطانية التي تسعى الى خلط ما هو رحماني بآفة شيطانية تفسد على الصوفي ذوقه، وتلبس عليه البعد المعرفي لما يرد على قلبه في الأوقات.
ولقد وصف لنا أطباء النفوس من مشايخ الصوفية العقار الذي يزيل آفة الوهم، ويظهر حقيقة ما تلهم به القلوب عند مناجاة المحبوب.
قال أبو سليمان الداراني : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل : الكتاب والسنة.
وقال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع الله حالاً تخرجه عن حدّ العلم الشرعي فلا تقربن منه.
وقال السري : من ادّعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم، فهو غالط.
فلا يمكن أن ينال القلب معرفة من إلهام يخالف موارد الشريعة وكتاب، وإجماع الأمة. وتربية النفس، والاسترشاد بوصايا الشيخ الكامل توفر معياراً إضافياً يرقى بالإلهام،فيبعد عنه نزغات الشيطان، وحديث النفس الذي يتداخل لدى البعض فيتوهمه إلهاماً، والله أعلم بالصواب
عن وابصة بن معبد الأسدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال: نعم. قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره. وقال: استفت نفسك، إستفت قلبك يا وابصة – ثلاثا- البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) سنن الدارمي، البيوع 2.
وفي حديث آخر قوله عليه الصلاة والسلام: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة”الترمذي،
والإِلهام إِما أن يكون من قِبَلِ الله تعالى، أو من قبل ملائكته، يُفْهَم منه أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب..
أما الذي من قِبل الله تعالى:
فحكى لنا حضرةُ الله تعالى في كتابه عن مريم رضي الله عنها حينما أوتْ إِلى شجرة النخل في أيام الشتاء، فخاطبها بإِلهام ووحي من دون واسطة وقال لها: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنياً . فكُلِي واشرَبي وقرِّي عيناً} [مريم: 25].
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (إِنَّ ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإِلهام والإِلقاء في القلب، كما كان في حق أُم موسى عليه السلام في قوله: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] ["التفسير الكبير" للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669].
وكذلك أخبرنا عن أُم موسى عليه السلام، حينما ضاق بها الحال من أمر ابنها عليه السلام، وداهمها جنود فرعون لقتله، فألهمها، وأوحى إِليها بلا واسطة، فقال تعالى: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفتِ عليه فألْقِيهِ في اليَّمِ ولا تخافي ولا تحزَني إنَّا رادُّوه إليكِ وجاعِلُوه مِنَ المرسلينَ} [القصص: 7] [قال العلامة الألوسي في تفسيره عند هذه الآية ج16. ص170: (والمراد بالإِيحاء عند الجمهور ما كان بإِلهام، كما في قوله تعالى: {وأوحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ} [النحل: 68].. إِلى أن قال: وإِلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بُعد فيه، فإِنه نوع من الكشف)].
ألقتْ ابنها وفلذة كبدها بين أمواج البحر الخضم. إِلى أين يذهب هذا الولد الكريم بين هياج موج البحر يا ترى ؟! إِنه الهلاك بعينه، لكنها كانت على يقين من أمرها، لِمَا اعتادت من سماع الوحي الذي يأتيها من ربها بلا واسطة، في خلوتها وجلوتها.
هذه امرأة مؤمنة، وولية وليست نبية [اتفق الأكثرون على أن أم موسى لم تكن نبية لأن النبوة منحصرة في الرجال. {وما أرسَلْنا قبلَكَ إلا رجالاً نوحي إليهِم} [يوسف: 109]. والوحي جاء في القرآن لا بمعنى النبوة، بل بالإِلهام كما قال تعالى: {وإذ أوحيتُ إلى الحواريينَ} [المائدة: 111]. { وإذ أوحينا إلى أمِّكَ ما يُوحَى } [طه: 38]]، وتلك مريم رضي الله عنها في أُمة إِسرائيلية، فما بالك بالأمة المحمدية التي شهد الله لها بالخيرية على سائر الأمم ؟! قال تعالى: {كُنْتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمُرونَ بالمعروفِ وتنْهَونَ عن المُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وأما الإِلهام من قبل الملائكة:
فالمَلَك يحدِّث الإِنسانَ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "..وأما لَمَّةُ الملك فإِيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله" [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب. واللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث].
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وإذْ قالتْ الملائِكَةُ يا مريَمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمينَ} [آل عمران: 42]: (اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: {وما أرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجالاً نوحِي إليهِم مِنْ أهْلِ القرى} [يوسف: 109]. وإِذا كان كذلك ؛ كان إِرسال جبريل عليه السلام كرامة لها، وكلمها شفاهاً، وليس هذا خاصاً بها، بل هناك كثير من الصالحين كلمتهم الملائكة عليهم السلام) ["التفسير الكبير" للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669]. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مَدْرجتِه مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد ؟ قال: أُريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها ؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإِني رسول الله إِليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" [رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله عن أبي هريرة رضي الله عنه].
أرصد الله على مدرجته ملكاً: أي وكَّله بحفظ المدْرجَة، وهي الطريق وجعله رصَداً: أي حافظاً مُعَداً. تَرُبُّها: أي تحفظها وتربيها كما يربي الرجلُ ولدَه.
قال العلامة محمد بن علاّن الصديقي الشافعي رحمه الله تعالى شارح رياض الصالحين عند قوله: "فأرصد الله تعالى على مدرجته مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد ؟": (ظاهره أن المَلكَ خاطبه وشافهه) [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ج3. ص232].
وقال الله تعالى: {إنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عليهِمْ الملائِكَةُ أنْ لا تخافوا ولا تحزَنُوا وأبْشِروا بالجَنَّةِ التي كنتم توعَدُونَ . نحنُ أولياؤكُم في الحياة الدنيا وفي الآخِرة} [فصلت: 30ـ31].
قال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى مفسراً تنزل الملائكة في هذه الآية: (تتنزل عند الموت والقبر والبعث. وقيل: تتنزل عليهم: يمدونهم فيما يَعِنُّ ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية، بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن، بطريق الإِلهام.
وهذا هو الأظهر ؛ لما فيه من الإِطلاق والعموم الشاملِ لتنزلهم في المواطن الثلاثة وغيرها، وأن جمعاً من الناس يقولون بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين، وإِنهم يأخذون منهم ما يأخذون، فتذكر.
ثم قال في قوله تعالى: {وأبشِروا بالجَنَّة التي كنْتُم توعَدونَ} [فصلت: 31]. أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة.
وقال في قوله تعالى: {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا} [فصلت: 31]: من بشاراتهم في الدنيا، أي أعوانكم في أموركم، نلهمكم الحق ونرشدكم إِلى ما فيه خيركم وصلاحكم. إِلى أن قال: إِن الملائكة تقول لبعض المتقين شفاهاً في غير تلك المواطن: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) [روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للعلامة محمود الألوسي البغدادي رحمه الله تعالى المتوفى سنة 1270هـ. ج24 ص107].
وقال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: (ثم إِنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا وفي الآخِرَةِ}[فصلت: 31] : ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإِلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإِلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إِليها.
وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة، فإِن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إِلى الشمس، والقطرة بالنسبة إِلى البحر. والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماوات". فإِذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر والشعلة بالشمس، فهذا هو المراد من قوله: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31] [تفسير الإِمام الرازي ج7. ص371].
وقد كان عمران بن الحصين رضي الله عنه يسمع تسبيح الملائكة حتى اكتوى، فانحبس ذلك عنه، ثم أعاده الله إِليه. وروى ابن الأثير رحمه الله تعالى في أسد الغابة بسنده إِليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكَيّ، قال عمران: فاكتوينا، فما أفلحنا ولا نجحنا.
قال: وكانت الملائكة في مرضه تسلم عليه، فاكتوى ففقد التسليم ثم عادت إِليه [وقد ألف العلامة الكبير جلال الدين السيوطي رسالة سماها "تنوير الحلك في إِمكان رؤية النبي والملك" ننقل منها ما يهمنا في موضوعنا الذي نتكلم فيه.
قال جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: (أخرج مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين رضي الله عنه: قد كان يسلم علي حتى اكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد. وأخرج مسلم من وجه آخر عن مطرف قال: بعث إِلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إِني محدثك فإِن عشتُ فاكتمْ عني، وإِن متُّ فحدِّثْ بها إِن شئتَ: إِنه قد سُلِّم عليّ.
قال النووي في شرح مسلم: معنى الحديث الأول أن عمران بن حصين كانت به بواسير، فكان يصبر على ألمها، وكانت الملائكة تسلم عليه، واكتوى، وانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه. قال: وقوله في الحديث الثاني: فإِن عشتُ فاكتمْ عني، أراد به الإِخبار بالسلام عليه، لأنه كره أن يُشاع عنه ذلك في حياته لما فيه من التعرض للفتنة بخلاف ما بعد الموت.
وقال القرطبي في شرح مسلم: يعني أن الملائكة كانت تسلم عليه إِكراماً له واحتراماً، إِلى أن اكتوى فتركت السلام عليه، ففيه إِثبات كرامات الأولياء..
وقال القاضي أبو بكر بن العربي أحد الأئمة المالكية، شارح صحيح الترمذي، في كتاب قانون التأويل: ذهبت الصوفية إِلى أنه إِذا حصل للإِنسان طهارة النفس في تزكية القلب، وقطع العلائق، وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس، والإِقبال على الله تعالى بالكلية، علماً دائماً وعملاً مستمراً، كشفت له القلوب، ورأى الملائكة وسمع أقوالهم، واطلع على أرواح الأنبياء، وسمع كلامهم، ثم قال ابن العربي من عنده: ورؤية الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن كرامة، وللكافر عقوبة). الحاوي للفتاوي ج2 ص257، 258 للعلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ].
ولقد سمى الصوفية العلم الناتج من الإِلهام علماً لدنياً حاصلاً بمحض فضل الله وكرمه بغير واسطةِ عبارةٍ.
قال بعضهم: تعلّمْنَا بلا حرفٍ وصوْتِ قرأْناه بلا سهْوٍ وفوْتِ
يعني بطريق الفيض الإِلهي، والإِلهام الرباني، لا بطريق التعليم اللفظي، والتدريس القولي.
وقد سئل الإِمام الغزالي عن الإِلهام فقال: (الإِلهام ضوء من سراج الغيب، يسقط على قلبٍ صافٍ لطيفٍ فارغٍ) كل هذا يدل على إِمكان الكشف وصحة الإِلهام ؛ إِذا كان القلب صافياً فارغاً من علائق الدنيا وهمومها، ومِنْ صدأ الذنوب وظلماتها. فالشياطين الظلمانية لا تقع إِلا على القلوب العفنة، كما يقع الذباب على الأواني الوسخة، فتُحجبُ القلوب عن مطالعة ما حُجب عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماء" [رواه الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. وتُصرَفُ وسوستُها عن تلك القلوب بذكر الله تعالى ومراقبته: "إِن الشيطان واضع خَطمه على قلب ابن آدم، فإِنْ ذَكَرَ الله خنسَ وإِن نسي الْتقم قلبه" [رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والبيهقي عن أنس، كما في الترغيب والترهيب. خطمه: فمه. ج2. ص400]. لأن القلب إِذا اعتاد الوسوسة، والغفلة عن ذكر الله تعالى مَرِضَ. وأما إِذا اعتاد الذكر، وسُقيَ بأنواره، وسطعت عليه شمس تجليات الله تعالى حيِيَ وكان في عداد الأحياء، يقول عليه الصلاة والسلام: "مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربَّه مثل الحي والميت" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه].
فإِذا واظب المؤمن على ذكر الله تعالى، وكان مستقيماً على شرعه متحلياً بالتقوى، مستأنساً بربه صار حياً بالله. ويقول القوم: القلوب نوعان: قلب لا يولد ولم يأنِ له أن يولد، بل يظل جنيناً في بطن الشهوات والغي والضلال. وقلب وُلد، وخرج إِلى فضاء التوحيد، وحلَّق في سماء المعرفة، وخلص من ظلمات النفس وشهواتها واتباع هواها، فقرَّت عينُه بالله تعالى وأنارت جوانبَهُ أشعةُ اليقين، وجعلته مرآةً شفافة، لا سبيل للشيطان إِليه، ولا سلطان له عليه. وليس هذا ببعيد، فالطاقة الروحية قد انطلقت إِلى عالم الغيب، وصار صاحبها حَيَّاً بعد أن كان ميتاً، ومنوراً بعد أن كان مظلماً، وملكياً بعد أن كان شيطانياً: {أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحيَيناهُ وجعلنا لهُ نوراً يمشي بهِ في الناسِ} [الأنعام: 122].
ولا شك أن تلك الأسرار الروحية، لا تُدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له في شيء منها لا يضره أن يكلها إِلى أربابها، وأن يعطي القوس باريها:
فللكثافةِ أقوامٌ لها خُلقوا وللمحبةِ أكبادٌ وأجفان
وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به وتسليمه لأهله، وأقل عقوبة مَنْ ينكره أن لا يُرزق منه شيئاً. وهو علم الصديقين والمقربين (وفي الإِحياء للغزالي بحث مستفيض في الموضوع فليُرجع إِليه) ( منقول من كتاب حقائق عن التصوف للشيخ عبد القادر عيسى )
هذه مجرد موضوعات قمت بجمعها ولا فضل لى فيها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق