الأربعاء، 17 أبريل 2013

رد فرية تحريم الإمام أبى حبيفة التوسل للعلامة الغمارى





بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ وكفى؛ وصَلاةً وسَلامًا على عِبادِه الذين اصْطفى؛ وبَعْدُ:

* قال مولانا العارف بالله الحافظ العلامة المحدث السيد عبد الله ابن الصدِّيق الغماري الحسني رحمه الله تعالى ( 1328هـ - 1413هـ ) في كتابه الرائع « الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين» -وهو رد على واعظ اسمه: الشيخ محمد مخيمر له كتاب «القول المبين في حكم نداء ودعاء من الأنبياء والأولياء والصالحين» طُبِعَ كتابه بمطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر- قال العلامة الغماري رحمه الله:

ثمّ نقلَ المتنطّعُ -أي صاحب «القول المبين»- عن الكنز: أنّ أبا حنيفةَ قالَ: أكرهُ أن يقولَ العَبدُ: أسألُك بأنبيائكَ، ورسُلكَ، وبمعاقدِ العزِّ من عرشكَ، وبالبيتِ الحَرامِ، وبالمشعَرِ الحرامِ؛ ا.هـ.

وأقولُ: قضى اللهُ، ولا رادَّ لقَضائهِ؛ ألا يكونَ للمتنَطّعِ نصيبٌ من الصّوابِ، ولا على كلامِهِ مسحةٌ من الحقِّ، وذلكَ علامةٌ على أنّهُ غيرُ موفَّقٍ، ولا مُعانٍ، فما أجدَرهُ بقولِ القَائلِ:

إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى * فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ

فلقدْ تَتبَّعنا ما استَدَلَّ بهِ المُتَنَطِّعُ في كتابِه فإذا هوَ لا يخْرُجُ عن أحدٍ أمرينِ؛ إِمّا أن يكونَ لا دَلالَةَ فيهِ لزَعمِهِ، وهذا حالُ أغلَبِ أدِلِّتِهِ؛ وإمّا أنْ يكونَ حجَّةً عليهِ، لا لهُ، واستِدلالُهُ بكلامِ أبي حنِيفةَ من هذا القَبيلِ.


وتقريرُ ذلكَ: أنّ أبا حنِيفةَ عَبَّرَ بـ"أَكرهُ"؛ فيكونُ التوسُّلُ بالأنبياءِ والرّسلِ، وما ذكرَ معهُم؛ مكروهًا. والمكروهُ -على ما تقَرّرَ في صِغارِ كُتبِ الأصولِ وكِبارِها-: هو ما يكونُ جائزَ الفعلِ، مع رُجحانِ التّركِ عليهِ؛ وبِعبارةٍ أخرى: هوَ ما يُثابُ على تركِهِ، ولا يُعاقَبُ على فِعْلِه؛ وإن شئتَ قُلتَ: هو ما يُمدحُ تاركُهُ، ولا يُذَمُّ فاعلُه شرعًا؛ هذه حقيقةُ المكروهِ عند الأصولِيّينَ، لا يجهَلُها صغارُ الطّلبةِ فضلاً عن كبارِهمْ.

وعلى ضوءِ هذهِ الحقيقةِ الأصُوليّةِ يكونُ قولُ أبي حنيفة حجّةٌ لنا في جوازِ التوسّلِ، وأنَّه لا إثمَ فيه، ولا عقابَ، وإن كانَ ترْكُه أرجحْ.

وهذا نقيضُ غرضِ المُتنَطِّعِ، فإنَّهُ إنّما أتَى بكَلامِ أبي حنيفةَ لِيُثبِتَ بهِ أنّ التوسُّلَ بدعَةٌ من البدَعِ، وضلالٌ بحكمِ القُرآنِ، وعدوانٌ على ما أنزلَ الله..الخ جملهِ السخِيفةِ الرَّكيكَةِ.

فكانَ ما أتى بهِ حجَّةٌ عليهِ، قدّمها إلى خُصُومِهِ من حيثُ لا يشْعُر، وذلكَ آيةُ خُذلانِهم، ولو كانَ المتنطِّعُ يفهمُ معنى قولِ أبي حنيفةَ "أكرهُ"، ويعرِفُ معنى "الكراهة" عندَ الأصولِيّين؛ لأدركَ ضرَرَ استِدلالِه بهذا الكَلامِ عليهِ، فلَعدَل عنهُ إلى غيرهِ؛ ولكنَّهُ لا يفهمُ ما يُنقلُ، ولا يعقِلُ ما يقولُ؛ فقضى على نفسِهِ بيدِهِ قضاءً محكَمًا.


فإن قيلَ: ليسَ معنى قولِ أبي حنيفةَ "أكرَهُ أنْ يقولَ العبدُ: أسألكَ بأنبيائكَ ورسلكَ..الخ"، الكراهةُ التنزيهيَّةُ حتّى يلزَمَ منهُ ما ذكرتَهُ؛ بلْ معناهُ الكراهةُ التَّحرِيميةُ؛ بدلِيلِ أنّ صاحِبَ الكَنزِ ذكرَ هذه العِبارةِ في بابِ الحَظْرِ والإباحةِ، فيَقتضِي كلامُ أبي حنيفةَ على هذا تحريمَ التوَسُّلِ؛ وهو المطْلوبُ.

قلنا: هذا المَعنى لا يُفِيدُ شيئًا، بلْ هوَ حجّة عليهِ أيضًا، وذلكَ أَنّ من أصولِ الحنفيّةِ أنّهم يفَرِّقونَ بينَ قولِهم في الشّيءِ: "هوَ حرامٌ" أو "مُحرّمٌ"، وبينَ قولِهم: "هو مكروهٌ كراهةَ تحريمٍ"؛ حيثُ يطلِقونَ العِبارةَ الأولى على ما كانَ مُحرَّمًا بنصٍّ قطعِيٍّ، كالزّنا، والرّبا، وشربِ الخمرِ، وأكلِ الميتةِ، والخنزيرِ، ونحوِ ذلكَ؛ ويُطلِقونَ العبارةَ الثَّانيةَ على ما ليسَ في تحريمِهِ نصٌّ قطْعِيّ.

ففي الكَنزِ وشرحِهِ، للشّيخِ مصطفى بن أبي عبد الله الطّائيّ ما نصُّهُ: المكروهُ تحريمًا إلى الحرَامِ أقربُ عندَهما، ونصّ محمّدٌ: أنّ كل مكروهٍ حرامٌ، وأمّا المكْروهُ تنزِيهًا فإلى الحِلِّ أقربُ اتّفاقًا.

وفي الكنزِ أيضًا وشرحِهِ لمُلاَّ مسكين، ما نصُّهُ: المكروهُ إلى الحَرامِ أقربُ عندَهما. وقالَ خلف بن يحيى: المكروهُ إلى الحَلالِ أقربُ؛ ونصّ محمّد: كلُّ مكروهٍ حرامٌ؛ وإنّما لم يُطلِق عليهِ لفظُهُ لأنَّهُ لم نثبتْ حرمتهُ بدَليلٍ قطعيٍّ، كما في الحرامِ. اهـ.

إِذا عُلِمَ هذا، فحملُ قولِ أبي حنيفةَ "أكرهُ" على الكراهةِ التّحريميَّةِ يكونُ معناهُ في اصطِلاحِ أبي حنيفةَ، وأبي يوسفَ: أنّ التوسُّل إلى الحَرامِ أقربُ؛ وفي اصطِلاحِ محمد بن الحسن: أنّه ليسَ في حرمةِ التوسُّلِ دليلٌ قطعِيٌّ.

وكِلا المعْنَيينِ يُكَذّبان المُتنطّعَ في زعمِهِ: أنّ التوسُّل ضلالٌ وإشراكٌ، وأنّ القُرآنَ كلُّهُ -إلاّ يسيرًا منهُ- يدلُّ على حرمتِهِ، ويحكُمُ بشركِ أصحابِهِ، إذ لوْ كانَ الأمرُ كذلكَ، لما خَفيَ على أبي حنيفةَ وصاحِبيهِ؛ وقد كانوا -خصوصًا أبا حنيفةَ- مضرِب المثلِ في الذّكاءِ والفِطنةِ، وصفاءِ الذّهنِ، وجودَةِ القَريحةِ؛ ثمّ يُدركُهُ المُتنطّعُ في آخرِ الزّمانِ، وهو على ضدِّ هذهِ الصّفاتِ الجليلَةِ.

فقدْ رأيتَ أنّ قولَ أبي حنيفةَ -على كِلا الاحتِمالينِ- يصفعُ المتَنطّع، ويصرَعهُ، ويقضِي عليه قضاءً لا يُرجى لهُ بعدهُ رجوعٌ.

ثمّ بعدَ هذا رجعنا إلى كتُبِ الحنفيّةِ، فوجَدنا المُتنطِّعَ كذَبَ عليهِم في شيئَينِ:

الأول: ادّعاؤهُ أنّ صاحِبَ الكنزِ نقلَ تلكَ العِبارةِ عن أبي حنيفةَ، مع أنّهُ لم ينقُلها عنهُ، ولا ذكرَ اسمَهُ فيها.

الثّاني: ادّعاؤهُ أنّ كلامَ أبي حنيفةَ في التوسُّلِ، مع أنّهُ في الإِقسامِ على اللهِ بخَلقِهِ.
وقد حرَّفَ العِبارةَ، ولم ينقُلها على أصلِها بل حذفَ منها بعضَ كلماتٍ تبيِّنُ أنّ مرادَ أبي حنيفةَ الإقسامُ على اللهِ بخلقِهِ، لا التوسُّلَ؛ وهاكَ العِبارةَ على أصلِها، سالمَةً من كذِبِ المتنطِّعِ وتحرِيفِهِ.

فَفي الكَنزِ وشرحِهِ للشّيخِ مصطفى بن أبي عبد الله الطّائيِّ ما نصُّهُ: وكُرِهَ الدُّعاءُ بأن يقولَ: أسألكَ بمقعدِ العزِّ من عرشِكَ، ولو بتقديمِ العينِ؛ وعن أبي يوسفَ: لا بأسَ بِهِ، والأحوَطُ الإمتِناعُ، وبأنْ يقولَ: بحقّ فُلانٍ، وبحقّ أنبيائكَ، ورُسلكَ، وبحقّ البيتِ، والمشعرِ الحَرامِ؛ لأنَّهُ لا حقَّ للخلقِ على الخالِق. اهـ.

فانظُر إلى عبارةِ الكنزِ، فلا تجدُ فيها ذكرًا لأبي حنيفةَ؛ وتأمّل تعليلَ الشارحِ بأنّه لا حقّ للخلقِ على الخالقِ، تجدِ المسألةَ مفروضةً في الإقسامِ على الله بخَلقِهِ، لا في مجرّدِ سؤالِهِ بهم، كما هو زعْمُ المتنطِّعِ.

يوضحُ هذا ما جاءَ في شرحِ العقِيدةِ الطّحاويّةِ، ونصُّهُ: وإن كانَ مرادُهُ -أي: الدّاعي- الإقسامُ على اللهِ بحقِّ فلانٍ فذلكَ محذورًا أيضًا، لأنَّ الإقسامَ بالمخلُوقِ على المخلُوقِ لا يجوزُ؛ فكيفَ على الخالقِ؛ وقد قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ، فَقَدْ أَشْرَكَ»؛ ولهذا قالَ أبو حنيفةَ، وصاحِباهُ، رَضِيَ اللهُ عنهُم: يُكرَهُ أن يقولَ الدّاعي: أسألُكَ بحقِّ فلانٍ، أو بحقِّ أنبيائِك ورُسلك، وبحقِّ البيتِ الحرامِ، والمَشعرِ الحرامِ، ونحوِ ذلكَ؛ حتّى كرهَ أبو حنيفةَ، ومحمد: أن يقولَ الرجلُ: اللهمّ إنّي أسألكَ بمقعدِ العزِّ من عرشكَ، ولم يكرههُ أبو يوسفٌ، لما جاء من الأثرِ فيهِ. اهـ.

والأثرُ الّذي أشارَ إليهِ، هو ما جاءَ:
عن ابنِ مسعودٍ: عن النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «اِثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، تُصَلِّيهِنَّ مِنْ لَيْلٍ، أَوْ نَهَارٍ، وَتَتَشَهَّدُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا تَشَهَّدْتَ فِي آَخِرِ صَلاَتِكَ، فَاثْنِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاقْرَأْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ فَاتِحَةَ الكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَآَيَةَ الكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَاقِدِ العِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَاسْمِكَ الأَعْظَمِ، وَجَدِّكَ الأَعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، ثُمَّ سَلِّمْ يَمِينًا وَشِمَالاً، وَلاَ تُعَلِّمُوهَا لِلسُّفَهَاءَ فَإِنَّهُم يَدْعُونَ بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُمْ»؛ رواهُ الحاكِمُ؛ وقالَ: قالَ أحمد بن حربٍ: قد جرّبتُهُ، فوجَدتُهُ حقًّا، وقالَ إبراهيمُ بن عليٍّ الدبيلي: قد جرَّبتُهُ فوجَدْتُهُ حقًّا، قال الحاكمُ: قد جرَّبتهُ، فوجَدتُّه حقًّا.

والحديثُ -وإن كانَ ضعيفًا-، فهوَ من بابِ التّرغيبِ، والفَضائلِ؛ والإعتمادُ في مثلِ هذا -كما قالَ الحافظُ المُنذِريُّ- على بابِ التجرِبةِ، لا على الإسنادِ.

ولعلَّكَ -بعدَ هذا البيانِ- تحقّقتَ كذبَ المتنَطِّعِ وخِيانتَهُ، وكفى بِهما خزيًا وعارًا، وباللهِ التّوفيقُ.

انتهى كلام العلامة الغماري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق