الخميس، 25 أبريل 2013

الله منزه عن المكان والجهة بالأدلة


قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:


[وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء، والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات].


بعض الأدلة في تنـزيه الله عن الجهة والمكان مع ذكر حكم المجسمة:
اعلم أخي المسلم أن اعتقاد المسلمين سلفهم وخلفهم أن الله غنيّ عن العالمين،أي مستغن عن كل ما سواه أزلاً وأبدًا فلا يحتاج إلى مكان يقوم به أو شىء يحل به أو إلى جهة

ويكفي في تنـزيه الله عن المكان والحيز والجهة قوله تعالى( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشُّورى:11 فلو كان له مكان لكان له أمثال وأبعاد طول وعرض وعمق ومن كان كذلك كان محدَثًا مخلوقا محتاجًا لمن حدَّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق.
هذا الدليل من القرءان. أما من الحديث فما رواه البخاري وابن الجارود والبيهقي بالإسناد الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "‏ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىءٌ غَيْرُهُ"‏ 
ومعناه أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه احد لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا كرسيّ ولا عرش ولا إنس ولا جن ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان ولا جهة
فهو تعالى موجود قبل المكان بلا مكان ولا جهة وهو الذى خلق المكان والجهات فليس بحاجة إليها 
وهذا ما يستفاد من الحديث المذكور.
وقال الحافظ البيهقي المتوفى سنة 458 هـ في كتابه الأسماء والصفات:" استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه تعالى بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"وأنتَ الظَّاهرُ فليسَ فوقكَ شىءٌ، وأنتَ الباطنُ فليسَ دونَكَ شىءٌ
وهذا الحديث فيه الرد أيضًا على القائلين بالجهة في حقه تعالى.
وقال الإمام عليّ رضي الله عنه: "كان الله ولا مكان وهو الآنَ على ما عليه كان"
رواه الإمام أبو منصور البغدادي.
وأما رفع الأيدي عند الدعاء إلى السماء فلا يدل على أن الله متحيز في جهة فوق لانّ السماء قبلة الدّعاء كما جعل الله الكعبة قبلة للصلاة والدعاء وهي مسكن الملائكة الكرام . 
كما أن حديث مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء " اي كان باطن كفيّه لجهة الارض وظهرها للسماء وهذا لا يدل على أن الله في جهة تحت فلا حجة في هذا ولا في هذا لإثبات جهة فوق ولا جهة تحت لله تعالى
 بل الله تعالى منـزه عن الجهات كلها فالله موجود بلا جهة ولا مكان.
وقال الإمام السلفي أبو جعفر الطحاوى المولود سنة 227هـ فى عقيدته التى ذكر أنها عقيدة أهل السنّة والجماعة: "تعالى (يعني الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الستّ كسائر المبتدعات ".انتهى
الجهات الست هي فوق وتحت ويمين وشمال وامام وخلف هذه الجهات تختص بالمخلوقين وليس لله لانّه خالقها ولا يحتاج اليها
عقيدة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان (80 - 150هـ) رضي الله عنه 
يقول الإمام أبي حنيفة النعمان ما نصه :
( قلت :أرأيت لو قيل أين الله تعالى ؟ فقال - أي أبو حنيفة :يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق ،وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء ،وهو خالق كل شيء )
الفقه الأبسط ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري ص25

وقال أيضاً ما نصه :
( ونقر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه ،وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج ،فلو كان محتاجاً لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين ،ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله ،تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً )
كتاب الوصية ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري ص2

وقد كفّر الإمام المجتهد من ينسب المكان لله تعالى، فقال ما نصه :
(من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض)
الفقه الأبسط، ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري ص12
وقال أيضاً ما نصه :
(ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة)
شرح الفقه الأكبر ص136 وما بعد

وقال أيضاً ما نصه :
(لقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة)
شرح الفقه الأكبر ص138
وممن نقل إجماع المسلمين سلفهم وخلفهم على أن الله موجود بلا مكان الإمام أبو منصور البغدادى المتوفّى سنة 429 هـ 

الذي قال فى كتابه "الفَرْق بين الفِرَق" في بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة، (ص256) ما نصّه :"وأجمعوا - أي أهل السنة والجماعة - على أنّه - تعالى- لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان" .انتهى بحروفه
وقال إمام الحرمين عبد الملك الجويني المولود سنة 419 هـ في كتابه الإرشاد: "مذهب أهل الحق قاطبة أن الله يتعالى عن التحيز والتخصصبالجهات" انتهى يتعالى اي يتنزه اي لا يجوز في حق الله القول انّه يحتاج للتحيز في مكان اي ان يكون في مكان ,قال تعالى :"وهو الغنيّ الحميد" فالله لا يحتاج لشيء.

وقال مفتي ولاية بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري الشافعي المتوفى سنة 1323 هـ في كتابه " الكفاية لذوي العناية " عن الله مانصه:
ليس بجِرم يأخذ قدرا من الفراغ، فلا مكان له، وليس بعرض يقوم بالجرم، وليس في جهة من الجهات، ولا يوصف بالكِبَر ولا بالصغر، وكل ما قام ببالك فالله بخلاف ذلك " .انتهى اي مهما وسوس الشيطان لنا وصور لنا عن الله ما لا يليق به فالله لا يشبه ذلك لانّ الله خالق الصور لا يشبهها "ليس كمثله شيء ".
تفسيرالعرض : فهو ما يقوم بالجواهر والاجسام كاللون والطعم فالعرض لا يقوم بنفسه انما يقوم بغيره فلا يقال مثلا رأيت لونا يمشي او طعم يسير انما يقال رأيت جسم لونه احمر يسير

الجِرم: هو الشيء الذي له طول وعرض وعمق هذا يقال له جرم

وقال الشيخ حسين بن محمد الجسر الطرابلسي المتوفى سنة 1327 هـ في كتابه "الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية" ما نصه: "إنه تعالى ليس جوهرًا ولا جسمًا، فلا يحتاج إلى مكان يقوم فيه، لأن الاحتياج إلى المكان من خواص الجواهر والأجسام، وثبت هناك أنه تعالى ليس عرضًا فلا يحتاج إلى محل يحل فيه".انتهى

الجوهر الفرد: هو الجزء الذي لا يتجزء لتناهيه في القلة 

و الجسم" هو ما تركب من جوهرين فأكثر

وقال شيخ الجامع الأزهر الشيخ سليم البشري المصري المتوفى سنة 1335 هـ ما نصه: "اعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه، أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منـزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث، ومن ذلك تنـزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية" ا.هـ نقلا عن كتاب : فرقان القرءان.

فكما صح وجود الله تعالى بلا مكان وجهة قبل خلق الأماكن والجهات، فكذلك يصح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان وجهة وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى.

هذا وقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه المتوفى سنة 150 هـ في كتابه "الوصية" :" ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق " اهـ

وقال الإمام مالك رضي الله عنه المتوفى سنة 179 هـ :" الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع" اهـ. رواه البيهقي بإسناد جيد ، ولم يقل " والكيف مجهول".
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه المتوفى سنة 204 هـ : "من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه ومن انتهى إلى العدم الصرف فهو معطل ومن انتهى إلى موجود واعترف بعجزه عن إدراكه فهو موحد" انتهى". رواه البيهقي وغيره

قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه المتوفى سنة 241 هـ "والله تعالى لا يلحقه تغير ولا تبدل ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش".

وكان ينكر- الإمام أحمد – على من يقول" إن الله في كل مكان بذاته لأن الأمكنة كلها محدودة ". رواه الإمام أبو الفضل التميمي الحنبلي في كتاب * اعتقاد الإمام أحمد*

وهذا السلطان العادل العالم المجاهد صلاحُ الدين الأيوبي المتوفى سنة 589هـ رحمه الله أمر أن تذاع أصول العقيدة السنية على المنابر قبل أذان الفجر

وأن تُعلّم المنظومة التي ألّفها لهُ محمد بن هبة البرمكي المتوفى سنة 599 هـ للأطفال في الكتاتيب، ومما جاء فيها:

وصانـع العالم لا يحويـه~~ قطـر تعالى الله عن تشبيه 

قد كان موجودا ولا مكانا~~ وحكمه الآن على ما كانا

سبحـانه جلَّ عن المكان~~ وعزَّ عن تغيـر الزمــان

فقد غـلا وزاد في الغلو~~ من خصـه بجـهة العلـو
وهذه العقيدة تدرس في جامعة الأزهر في مصر وفي جامعة الزيتونة في تونس بل وسائر المغرب العربي

وكذا في أندونسيا وماليزيا وتركيا وسائر بلاد الشام والسودان واليمن والعراق والهند وباكستان وإفريقيا وبخارى والداغستان وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين.

هذا وقد نقل الإمام القرافي المتوفى سنة 684 هـ والإمام السبكي المتوفى سنة 756هـ والحافظ العراقي المتوفى سنة 804هـ والشيخ ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة 947 هـ

وملا علي القاري الحنفي المتوفى سنة 1014هـ ومحمد زاهد الكوثري المتوفى سنة 1371هـ وغيرهم عن الأئمة الأربعة هداة الأمة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك و الإمام الشافعي و الإمام أحمد رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم في حق الله

ونص عبارة الفقيه الحنفي ملاّ علي القاري في كتابه "شرح المشكاة" (ج3 300) :" قال جمع من السلف والخلف إن معتقِد الجهة (أي في حق الله)كافر كما صرح به العراقيّ وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني( المتوفى سنة 403 هـ)" انتهى

ونقل ابن المعلم القرشي المتوفى سنة 725 هـ في "نجم المهتدي"ص 551 عن "كفاية النبيه في شرح التنبيه" قوله: 

"وهذا ينظم من كفره مجمع عليه ومن كفرناه من أهل القبلة كالقائلين بخلق القرءان وبأنّه لا يعلم المعدومات قبل وجودها ومن لا يؤمن بالقَدَر وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي حسين ( المتوفى سنة 462 هـ) هنا عن نص الشافعي رضي الله عنه". انتهى


وقال الإمام محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 1083هـ في كتابه "مختصر الإفادات" ص 489 :* فمن اعتقد أو قال إنَّ الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر*.

وقال في ص 490 :"ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شىء فمن شبهَهُ بشىء من خلقه فقد كفر كمن اعتقده جسمًا أو قال إنه جسم لا كالأجسام" انتهى ومن اعتقد انّ الله ساكن السماء كما تقول النصارى او على العرش كما تقول اليهود عليه العودة للاسلام بالنطق بالشهادتين اشهد ان لا اله الا الله محمّد رسول الله .فالله لا يحتاج لسماء او عرش او اي شيء من خلقه "




[الدلائل على أن الله تعالى منزه عن الجهة]
1- قال النسفي في شرح العمدة استدلالا على ذلك: الصور والجهات مختلفة، واجتماعها عليه تعالى مستحيل لتنافيها في أنفسها، وليس البعض أولى من البعض لاستواء الكل في إفادة المدح والنقص وعدم دلالة المحدثات عليه، فلو اختص بجهة لكان بتخصيص مخصص وهذا من أمارات الحدوث.
2- وقال السبكي: صانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيزاً، ولو كان متحيزاً لكان مفتقراً إلى حيزه ومكانه، فلا يكون واجب الوجود، وثبت أنه واجب الوجود، وهذا خلف.
3- وأيضاً لو كان في جهة فإما في كل الجهات، وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصص المنافي للوجوب. نقل كلام النسفي والسبكي الزبيدي في “ إتحاف السادة المتقين 2/104.
4- ومن الدليل على تنزه الله تعالى عن الجهة والمكان من السنة ما رواه مسلم في صحيحه (4/2804) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه:
((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) قال الإمام الحافظ البيهقي في “ الأسماء الصفات “  ص41: استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله، فإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان.
ونشرح هنا ست كلمات متعلقة بهذه المسألة يكثر دورانها ويقع الاشتباه والزلل فيها، يكون شرحها مساعدا لتحقيق المسألة وفهمها وهي “ لفظ الجهة “  و “ أنه تعالى فوق عرشه “  وأنه “ بائن عن خلقه “  و “ أنه تعالى ليس بداخل العالم ولا خارجه “   و “ أنه استوى على العرش “ . و “ أنه تعالى في السماء “ .
1-        أما لفظ الجهة فلم يقع ذكره في حق الله تعالى في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله تعالى وصفاته سوى إقحام المجسمة، قاله الكوثري في تكملة الرد على نونية ابن القيم (117) وقال في صفحة (54).
2-        وأما لفظ أنه تعالى فوق عرشه فلم يرد مرفوعاً إلا في بعض طرق حديث الأوعال من رواية ابن منده في كتاب التوحيد وأسانيده مثخنة بالجراح، بل خبر الأوعال ملفق من الإسرائيليات كما نص عليه أبو بكر بن العربي في شرح سنن الترمذي.
3-        وأما أنه تعالى بائن عن خلقه فقد نقل البيهقي في “ الأسماء والصفات 411 “  عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: إن الله مستوٍ على عرشه، وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها، ولا يمسها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة تعالى الله عن الحلول والمماثلة علواً كبيراً.
يعني أن البينونة التي أثبتها الإمام أبو الحسن وغيره لله تعالى بمعنى نفي الممازجة والاختلاط وليست بمعنى الاعتزال والتباعد، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها –كما قال- من أوصاف الأجسام، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام.
وقال العلامة المحقق محمد زاهد الكوثري في تكملة الرد على نونية ابن القيم (53-54):
ولفظ “ بائن عن خلقه “  لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما أطلقه من أطلقه من السلف بمعنى نفي الممازجة رداً على جهم، (يعنى في قوله: إن الله في كل مكان) لا بمعنى الابتعاد بالمسافة تعالى الله عن ذلك، ذكره البيهقي في الأسماء والصفات.
4-        أقول: وهذا معنى قول المتكلمين: (إن الله تعالى لا يكون داخل العالم) قصدوا به نفي الممازجة لتعاليه تعالى عن الحلول والاتحاد، وأما قولهم: (ولا خارجاً عنه) فقد قصدوا به نفي الجهة ونفي الابتعاد بالمسافة، أشار إليه البياضي في إشارات المرام (197) وإلا فمن الضروري أن الذي لا يكون داخل العالم يكون بائناً عنه وخارجاً عنه.
5-  وأما أنه تعالى استوى على العرش فقد قال البيهقي في "الأسماء والصفات" (396-397) وليس معنى قول المسلمين: إن الله استوى على العرش هو أنه مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته لكنه بائن من جميع خلقه، وإنما خبر جاء به التوقيف. فقلنا به، ونفينا عنه التكييف، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وسننقل كلام الإمام الأشعري في الاستواء في آخر هذه الرسالة.
6- وأما أن الله تعالى في السماء فقد قال ابن تيمية: ومن توهم أن كون الله تعالى في السماء بمعنى أن السماء تحيط به أو تحويه أو أنه محتاج إلى مخلوقاته، أو أنه محصور فيها، فهو مبطل كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه فإنه لم يقل به أحد من المسلمين، بل لو سئل العوام هل تفهمون من قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل واحد منهم بقوله: هذا شيء لم يخطر ببالنا، بل عند المسلمين أن معنى كون الله تعالى في السماء وكونه على العرش واحد، بمعنى أن الله تعالى في العلو لا في السفل.
نقل هذا الكلام عن ابن تيمية زين الدين مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه “ أقاويل الثقات (94)
أقول: قد شرح العلامة زين الدين الكرمي في كتابه (أقاويل الثقات) قول القائلين بالجهة والعلو بوجه جيد لا يخالف مذهب النافين لهما من أهل السنة، فقال:
القائل بالجهة يقول: إن الجهات تنقطع بانقطاع العالم، وتنتهي بانتهاء آخر جزء من الكون، والإشارة إلى الفوق تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة.
ومما يحقق هذا أن الكون الكلي لا في جهة لأن الجهات عبارة عن المكان.
والمكان الكلي لا في مكان، فلما عدمت الأماكن من جوانبه لم يقل: إنه يمين، ولا يسار، ولا قدام، ولا وراء، ولا فوق ولا تحت.
وقالوا: إن ما عدى الكون الكلي وما خلا الذات القديمة ليس بشيء، ولا يشار إليه، ولا يعرف بخلاء ولا ملاء، وانفرد الكون الكلي بوصف التحت، لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلو وتمدح به.
وقالوا: إن الله أوجد الأكوان لا في محل وحيِّز، وهو في قدمه تعالى منزه عن المحل والحيِّز، فيستحيل شرعاً وعقلاً عند حدوث العالم أن يحل فيه، أو يختلط به، لأن القديم لا يحل في الحادث وليس محلاً للحوادث، فيلزم أن يكون بائناً عنه، فإذا كان بائناً عنه، يستحيل أن يكون العالم من جهة الفوق والرب في جهة التحت، بل هو فوقه بالفوقية اللائقة التي لا تكيف ولا تمثل، بل تعلم من جهة الجملة والثبوت، لا من جهة التمثيل والكيف، فيوصف الرب بالفوقية كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين.
 وقالوا: إن الدليل القاطع دل على وجود الباري وثبوت ذاته بحقيقة الثبوت. وأنه لا يصلح أن يماس المخلوقين أو تماسه المخلوقات، حتى إن الخصم يسلم أنه تعالى لا يماس الخلق. انتهى.
وهذا التوجيه الذي ذكره الكرمي ناسباً له إلى القائلين بالجهة توجيه جيد يجمع بين قول القائلين بالجهة، وقول القائلين بتنزه الله تعالى عنه، ويرتفع به ما وقع بين الفرق الإسلامية من الخلاف والنزاع الذي أدى بها إلى الفرقة والشحناء والبغضاء.
وقد أشار إلى هذا الوجه القاضي عضد الدين الإيجي في كتابه المواقف. قال: ومنهم –أي من القائلين بالجهة- من قال ليس كونه في جهة ككون الأجسام في جهة. قال السيد الشريف الجرجاني في شرحه (8/19). والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى، والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به. انتهى.
وحاصل هذا التوجيه أن الله تعالى ليس داخل العالم مختلطاً به ممازجاً إياه، كما أن العالم ليس بداخل فيه لأن الله تعالى لم يخلق العالم في نفسه وإنما خلق العالم خارجاً عن نفسه، كما أنه تعالى لم يحل فيه بعد أن خلقه، وإلا لزم الممازجة والمخالطة والحلول والاتحاد وقيام الحوادث به تعالى وهذه الأمور منتفية عن الله تعالى بالإجماع.
بل الله تعالى بائن عن العالم ليس داخلاً فيه، وليس في جهة منه.
وذلك لأن الجهات تنقطع بانقطاع العالم، وتنتهي بانتهاء آخر جزء منه، فلا يوصف العالم –وهو الكون الكلي بجملته- بأن له يميناً ولا يساراً، ولا قداماً ولا خلفاً، ولا فوقاً ولا تحتاً، كما لا يوصف الله تعالى بذلك، فلا يكون الله في جهة منه كما لا يكون هو في جهة من الله تعالى.
وقد وصف الله تعالى نفسه بالعلو والفوقية وتمدح بهما، فنثبتهما له تعالى على أنهما وصف مدح له تعالى، وبالمعنى اللائق به تعالى الذي لا يمثل ولا يكيف، ونعتقد العلو والفوقية لله تعالى من جهة الجملة والثبوت، مع نفي التمثيل والتكييف، فنعتقد وصف الرب بالعلو والفوقية كما يليق بجلاله وعظمته، بدون أن نفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(6/136): ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محالاً على الله تعالى أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي ولم يرد ضد ذلك. انتهى.  هذا بحسب التحقيق.
والحاصل أن الذين نفوا الجهة عن الله تعالى نفوها عنه بمعنى أن يكون في جهة معينة من العالم، وأما الذين أثبتوا الفوقية لله تعالى فلم يريدوا أنه تعالى في جهة معينة من العالم، بل أرادوا أنه تعالى بائن عن العالم وليس بداخل فيه، وأنه فوقه بالفوقية اللائقة بعزته وجلاله التي لا تمثل ولا تكيف، وتعلم من جهة الجملة والثبوت لا من جهة التمثيل والكيف، ولا يفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين وفوقيتهم. والفوقية بهذا المعنى لله تعالى وكذلك البينونة مما يثبته الفريق الأول لله تعالى. والذي ينفونه إنما هو الفوقية بمعنى الكون في جهة معينة من العالم التي هي من صفات المخلوقين. وهذه الفوقية لم يثبتها الفريق الثاني بل قد نفوها عن الله تعالى، فلم يتوارد نفي الجهة عن الله تعالى ممن نفاها وإثباتها ممن أثبتها على معنى واحد، فليس بينهما خلاف  في الحقيقة، بناء على هذا التحقيق، بل خلافهم يعود إلى اللفظ، وأما الحقيقة فالفريقان متفقان فيها، فقد أثبت كل من الفريقين ما أثبته الفريق الآخر، ونفى ما نفاه.
2- [ حكم الوهم بالعلو والفوقية لله تعالى ]

وأما الوهم فيحكم بأن ما وراء العالم فوق له، والله تعالى بائن عن خلقه ليس بداخل فيه، فيحكم الوهم بأنه فوقه، فالفوقية بحسب حكم الوهم تؤول إلى البينونة التي أثبتها العلماء لله تعالى، وهذه الفوقية الوهمية هي المركوزة في فطرة كل إنسان.
لا يذكر أحد من بني آدم الله تعالى إلا وهو يشعر بفوقيته تعالى.
وهي فوقية يحكم بها الوهم مخالفاً لحكم العقل كما هو الحال في معظم أحكام الوهم، فإن معظم أحكامه مخالفة لحكم العقل، ومن أجل ذلك عدَّ المناطقة القياس المؤلف من القضايا الوهمية من الأقيسة التي لا تفيد اليقين، وسموا هذا القياس بالمغالطة والسفسطة.
وقالوا: إن النفس أطوع للوهميات منها لليقينيات: مثال ذلك أن العقل يحكم بأن الميت لا يخاف منه لأنه جماد وكل جماد لا يخاف منه، وأما الوهم فيحكم بأن الميت يخاف منه مخالفاً للعقل فالإنسان مع تيقنه بحكم العقل لا يطيعه ولا ينقاد له، وإنما ينقاد لحكم الوهم فيخاف من الميت،
وكثيراً ما تلتبس الوهميات باليقينيات عند الإنسان فيعتقد الوهميات يقينيات ويجزم بها كجزمه باليقينيات حتى يتبين له بالدليل بطلانها، فيحكم ببطلانها ومع ذلك يبقى منقاداً لها. ومن هذا القبيل الفوقية لله تعالى، فإن معظم بني آدم جازمون بها اتباعاً لحكم الوهم وانقيادا له وعندما يتبين لبعض العلماء بالدليل القطعي بطلانها يحكم ببطلانها ومع ذلك يبقى شاعراً بها في قرار نفسه.
ومن أجل صعوبة التخلص من هذا الحكم الوهمي رخَّص النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في اعتقاد الجهة في حديث الجارية حينما سألها أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: صلى الله تعالى عليه وسلم، إنها مؤمنة، ولم ينكر عليها، ولكنه لم يقل: إنها صادقة، أو إنها على الحق، أو نحو هذا الكلام مما يفيد أن ما اعتقدته حق.
ومن أجل ذلك لم يحكم علماء أهل السنة بكفر معتقد الجهة لله تعالى، وقالوا إن هذا الاعتقاد مَعْفُوٌّ للعوام
وأما امتناعه صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيان بطلان هذه العقيدة للجارية وعن بيان الحق في المسألة لها فلأن بيان الحق فيها يحتاج إلى فلسفة لم تكن الجارية أهلاً لأن تفهمها، كما أنها لم تكن مكلفة باعتقاد نفي الجهة عن الله تعالى،  وقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يكلم الناس على قدر عقولهم، فلم يكن هذا الامتناع من تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو ليس بجائز عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن هذا البيان ليس من البيان الواجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يكون تأخيره عن وقت الحاجة ممتنعاً عليه صلى الله تعالى عليه وسلم.
3- [ الفوقية العرفية لله تعالى ]
ثم إننا إذا صرفنا النظر عن التدقيق الفلسفي الذي قررنا به نفي الجهة عن الله تعالى فمما لا ريب فيه ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن ما وراء العالم فوقٌ لبني آدم كلهم بحسب العرف كما أنه فوقٌ لهم بحسب الوهم، لأنه مقابل لرؤوسهم كما أن الأرض تحتٌ لهم لأنها مقابلةٌ لأرجلهم، وإن لم يكن فوقاً لهم بحسب التحقيق الذي نقله الكرمي عن القائلين بالجهة، لانقطاع الجهات بانقطاع العالم، والعرف هو الذي يقع به التخاطب في اللغة بين أهلها دون التدقيقات الفلسفية؛ والله تعالى بائن عن خلقه فهو فوقه بحسب العرف، فالفوقية العرفية كالفوقية الوهمية تؤول إلى البينونة التي أثبتها العلماء لله تعالى،فالمعبر عنه بالبينونة في كلام العلماء هو المعبر عنه بالفوقية والعلو أو بما يفيدهما في كلام الشارع.
وبهذا المعنى قال الإمام أبو الحسن الأشعري: فيما نقله عنه البيهقي: (وإنه فوق الأشياء بائنٌ منها) ومن أجل ذلك لم ينكر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الجارية إشارتها إلى فوق.
وبهذا المعنى جاء إثبات العلو والفوقية لله في نصوص الكتاب والسنة مما يصعب حصره، وهذه النصوص وإن كان حمل بعضها على الفوقية بحسب المكانة والعلو بحسب الرتبة مما لا بأس به لكن حمل بعضها الآخر على ذلك مما يأباه المقام والسياق؛ فنتثبت العلو والفوقية لله تعالى بهذا المعنى، بدون كيف ولا تمثيل ونتوقف عنده، ولا نتجاوزه إلى التفاصيل التي لم يرد بها شيء من الكتاب والسنة ونعترف بالعجز عما وراء ذلك.
ونورد هنا نبذة من نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها إثبات الفوقية والعلو لله تعالى، قال الله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم)، وقال: (إليه يصعد الكلم الطيب).
وقال: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) وقال: ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء) أخرجه الترمذي وقال: حسن.
 وقال: ( من اشتكى منكم شيئا أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا ألذي في السماء تقدس اسمك...) أخرجه أبو داود.
وقال: (الا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من في السماء صباحا ومساء) أخرجه البخاري ومسلم.
وقال: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها  فتأبى عليه إلا  كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) أخرجه الشيخان.
وقال: (إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش). أخرجه الشيخان، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك.
وقد تقدم قول ابن تيمية أن معنى كون الله تعالى في السماء وكونه على العرش واحد. وهو أن الله تعالى في العلو لا في السفل. وتقدم أن قلنا: إن وصف العلو لله تعالى يؤل  إلى البينونة التي أثبتها العلماء لله تعالى.
ونختم بحثنا هذا بإيراد نص للإمام أبي الحسن الأشعري قال رحمه الله تعالى في كتاب “ الإبانة “ صـ (71): وأن الله استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده استواءً منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء، وهو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد.
وهذا النص من الإبانة ليس بموجود في النسخ المطبوعة المتداولة، وهو ثابت في مخطوطة نسخة بلدية الإسكندرية، وقد قامت بتحقيقها الدكتورة فوقية حسين محمود، وطبعت الطبعة الأولى منها بدار الأنصار بالقاهرة، والطبعة الثانية بدار الكتاب للنشر والتوزيع بالقاهرة.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق