بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
أما خصوص حديث التوسل، فقد رواه عشرات المحدثين والحفاظ
وعلى رأسهم إمام المحدثين البخاري (256هـ.)
في التاريخ الكبيرفي ترجمة الصحابي عثمان بن حنيف رضي الله عنه،
والإمام أحمد (241هـ.) في موضعين من مسنده.
ورواه الإمام الترمذي (279هـ.) الذي هو تلميذ البخاري ومسلم (261هـ.)،
وقال في جامعه بعد أن رواه في كتاب الدّعوات منه: "هذا حديث حسن صحيح"،
ورواه كذلك من أصحاب الكتب الستة ابن ماجه (273هـ.) في سننه
وفيه: "قال الحافظ أبو إسحق إسناده صحيح".
ورواه كذلك الإمام النسائي (303هـ.) في كتابيه السنن الكبرى وعمل اليوم والليلة،
ورواه ابن خزيمة (311هـ.) في صحيحه والحاكم (405هـ.) في المستدرك وصححه
ووافقه الذهبي (المستدرك ج1 ص 313)، ورواه كذلك البيهقي في دلائل النبوة
ورواه كذلك ابن أبي خيثمة (279 هـ.) في تاريخه والحافظ أبو عبد الله المقدسي وصحّحه كما سيأتي.
وقد رواه كذلك الحافظ ابن السّـني (364هـ.) في عمل اليوم والليلة، والحافظ زكي الدين المنذري (656هـ.) في الترغيب والترهيب، والإمام النووي (676هـ.) في كتابه الأذكار والإمام ابن الجزري (833هـ.) في عدة الحصن الحصين.
ولم يقتصرهؤلاء العلماء الأعلام التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم على حال حياته،
ولاسيما أنه صلى الله عليه وسلم حيٌ في قبره يصلي لحديث "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون"
رواه أبو نعيم في تاريخ إصبهان وأبو يعلى الموصلي والبزار والديلمي والبيهقي من حديث أنس مرفوعاً
وصحّحه وأقرّه الحافظ في شرح البخاري،
فهل بطلت بركة النبوة بانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى "وحسن أولئك رفيقاً"؟،
حاشا وكلا، وقد كشف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وقبله قائلاً
"بأبي أنت وأمي، طبت حياً ومـيّـتاً" رواه البخاري في صحيحه والبيهقي في السنن.
3 – هذا ويلاحظ أن ما يستدل به المانعون من التوسل بالنبي بعد موته، من توسل عمر بالعباس، يلزم منه نسخ حديث التوسل وإبطاله بفعل صحابيّ، وهوما لم يقل به أحد من أهل الملة، وهو على أي حال استدلال في غير محله إذ يحتمل فعل عمر بيان جواز التوسل بغير الأنبياء، وجواز التوسل بالمفضول من أهل الصلاح مع وجود من هو أفضل منه كعثمان وعليّ اللذين هما أفضل من العباس إجماعاً، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ومن المعلوم عند الأصوليين أن
الدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال كما قال السيوطي في الاقتراح في أصول النحو.
فائدة: أما قطع عمر رضي الله عنه شجرة بيعة الرضوان، فأين هو من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصدّيق لها؟، ولو كان قطعها واجباً لما تأخر رسول الله عن ذلك، ولا سيما أنه لا يجوز عليه، عليه الصلاة والسلام، تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرّر في علم الأصول، ولا يخفى أن الرسول وأبا بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما، ومن هوالذي يظن أن فعل عمر في قطع الشجرة أصوب من فعل رسول الله وأبي بكر في تركها؟، ولكنه اجتهاده رضي الله عنه وكلٌ مثاب مأجور لكمال أهليته في الاجتهاد الذي صار يدّعيه كل من هبّ ودرج.
4 – هذا وليعلم أنه لا يجوز الهجوم على التصحيح والتضعيف إلا لمن اكتملت لديه أدوات الجرح والتعديل كما في ألفية الحافظ العراقي (806هـ.)، وفي ألفية السيوطي (911هـ.) : وخذه حيث حافظ عليه نص أو من مُصنف بجمعِهِ يُخص
فإذا علمنا ذلك، فماذا بعد تصحيح الترمذي وغيره من كبار الحفاظ وجهابذ يهمل هذا الحديث الذين منهم مَن نصّ على صحته مع الزيادة التي توضح أن عثمان بن حنيف رضي الله عنه لم يفهم أن التوسل برسول الله خاص بحياته صلى الله عليه وسلم دون حال البرزخ التي هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى شأناً وأرفع مقاماً من الحياة الدنيا، "وللآخرة خير لك من الأولى" (الضحى4)، ومَن هو الذي يقول إنه أفهم من راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه؟.
5 – ولتمام الفائدة أوردُ الرواية التي صحّحها الحافظ الطبراني (360هـ.) كاملة في معاجمه الثلاثة، وهو الذي وصفه الذهبي في تذكرة الحفاظ بـ"الحافظ الإمام العلامة الحجة بقية الحفاظ مسند الدنيا"، وأقرّه على تصحيحها الحافظ نور الدين الهيثمي (807هـ.) في مجمع البحرين في زوائد المعجمين الصغير والأوسط (ج2 ص 318)، وكذا في مجمع الزوائد (ج2 ص 279) بتحرير الحافظين الكبيرين زين الدين العراقي وابن حجر (852هـ.)، وصححها الحافظ البيهقي في دلائل النبوة، بل زاد إمام الذين نازعوا في التوسل، أعني ابن تيمية (728هـ.)، تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (569هـ.) لهذه الرواية بعد أن أقرّ بتصحيح الحافظ الطبراني لها كما سيأتي إن شاء الله من كتابه "التوسل والوسيلة".
وهذه الرواية الصحيحة الدالة على جواز التوسل برسول الله حياً وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم هي: "عن عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقيَ عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: اللهمّ إني أسألك وأتوجّه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة، يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح إليّ حتى أروحَ معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثمّ أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له (معتذراً) ما ذكرتُ حاجتك حتى الساعة، وقال ما كان لك من حاجة فأتنا. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقيَ عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظرُ في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو تصبر؟، فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إئت الميضأة فتوضأ ثمّ صلّ ركعتين ثم أدعُ بهذه الكلمات، فقال عثمان بن حنيف فوالله ما تفرّقنا وطالَ بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط". قال الطبراني: "والحديث صحيح".
ومن المعروف عند أهل هذا الفن أن الحديث لا يقتصر على المرفوع، بل هو شامل للمرفوع والموقوف كما في تدريب الراوي للسيوطي (ج1 ص42) وشرح النخبة للحافظ ابن حجر على صغره وغيرهما، ولوكان الصحيح من هذه الرواية هو المرفوع دون الموقوف لنصّ الطبراني على ذلك إذ لم يكن ليخفى على مثله أن الحديث شامل لكليهما.
وهنا تجدر ملاحظة أن العثمانين صحابيان معروفان والشخص المتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم للدخول على عثمان بن عفان رضي الله عنه، لا يعدو أن يكون صحابياً أو تابعياً رضي الله عن الجميع.
6 – ويطعن بعضهم بالرواية التي صحّحها الطبراني لأنها من طريق الإمام الفقيه المجتهدعبد الله بن وهب القرشي (197هـ.) عن شبيب بن سعيد الحبَطي، وهذا عجيب، فأما شبيب فهو من رجال البخاري في الصحيح، وأما الحافظ ابن وهب فهو من طبقة الإمام الشافعي (204هـ.) وهو من أجل أصحاب الإمام مالك (179هـ.) وقد روى له البخاري ومسلم 138حديثاً وروى له بقية الـ289 حديثاً أصحابُ الكتب الستة، وقال الذهبي في ترجمته من تذكرة الحفاظ: "كان ثقة حجة حافظاً مجتهداً لا يقلد أحداً ذا تعبّد وتزهّد"، وفي ترجمته من سير أعلام النبلاء قال الذهبي: "إليه المنتهى في الإتقان"، وقال فيه الإمام أحمد: "صحيح الحديث، ما أصحّ حديثه وأثبته" كما في تهذيب الكمال للحافظ المزي (742هـ.)، فهل لأحد قول مع الإمام أحمد رضي الله عنه؟.
وليعلم أنهم يســتـندون للطعن فيه إلى كلام لابن عدي في الكامل نقضه بعد أن غزله إذ يقول في ترجمة ابن وهب: "لا أعلم له حديثاً منكراً من رواية ثقة عنه"، فإذا نظرنا في من روى هذا الحديث عن ابن وهب وجدناه الإمام الحافظ الفقيه أصبغ بن الفرج (225هـ.) أحد شيوخ البخاري كما ذكر الذهبي في ترجمته من تذكرة الحفاظ، فظهر أن من رجال هذا الإسناد أئمة في أعلى مراتب العلم والإتقان والتقوى فلا يَعجبن أحد بعد ذلك من تصحيح الطبراني وغيره من الحفاظ الأثبات لهذا الحديث بطوله.
ثم إن ابن عدي يجوّد الرواية عن شبيب من طريق ابنه أحمد، وهي إحدى طرق إسناد حديث التوسل بطوله كما سيأتي، فلا وجه للطعن في الحديث ولو استناداً إلى كلام ابن عدي في ابن وهب الذي هوأعلى بدرجات فقهاً وحفظاً وإتقاناً من ابن عدي وأمثاله.
هذا وليعلم أن طعن ابن عدي في كامله بابن وهب ردّه الذهبي في ميزان الاعتدال حيث قال: "عبد الله بن وهب أحد الأثبات والأئمة الأعلام وصاحب التصانيف، تـناقض ابن عدي بإيراده في الكامل".
وليعلم أن تـناقض ابن عدي لم يقتصر على ابن وهب، بل إنه تجشم العسر والعناء في تضعيف أحد الصحابة الذين أوردهم الحافظ ابن حجر وغيره، وضعّـف كذلك عدداً من الحفاظ الأثبات ما ردّه الذهبي في عدد من كتبه، فظهر أنه لا يُـلتفت إلى ما انفرد به ابن عدي عن غيره من أئمة هذا الشأن من الذين بينهم وبينه كما بين السموات والأرض كالإمام المبرّز أحمد (241هـ.) الذي هو أعرف بعبد الله بن وهب (197هـ.)، فلا أدري هل يأخذون بكلام ابن عدي على هناته وتناقضاته، أم بكلام إمام الائمة أحمد بن حنبل رضي الله عنه؟.
وهنا نذكر فائدة تفند كلام ابن عدي تماماً هي أن حديث التوسل بطوله كما رواه الطبراني وصحّحه لم يُـروَ من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد فحسب، بل رواه الحافظ البيهقي بطوله من طريق ولدَي شبيب، أحمد وإسماعيل، كما في دلائل النبوة للبيهقي (ج6 ص167 و168، دار الكتب العلمية 1985)، وأقرّ البيهقيَ على ذلك ابن تيمية في "التوسل والوسيلة"، فهل بقيَ مجال لطاعن في الحديث بطوله، سواء من رواية ابن وهب أو أحمد وإسماعيل ابني شبيب بن سعيد عنه؟.
7 – أما هؤلاء الناس الذين يحرّمون التوسل إلا بالحيّ الحاضر فقد كفانا إمامهم ابن تيمية (728هـ.) مؤنة الردّ عليهم، إذ إنه أثبت صحة الحديث في أكثر من موضع من كتابه الذي أسماه "التوسلوالوسيلة" وذكر رواته ومخرجيه، بل إنه ذكر رواية الطبراني بطولها ولم يستطع الطعن فيها بل زاد على تصحيح الطبراني تصحيح الحافظ أبي عبد الله المقدسي للرواية بطولها، وكذا رواها من طريق البيهقي (458هـ.) في دلائل النبوة وابن السني (364هـ.) في عمل اليوم والليلة وغيرهم ممّن يصعب حصرهم، وأقرّ بأن عثمان بن حنيف رضي الله عنه كان يعتقد استحسان التوسل برسول الله بعد موته عليه الصلاة والسلام عملاً بالحديث، وإن كان في طيّات كلامه تعريض بعثمان رضي الله عنه، ومن العجب أن يطعن ابن تيمية الذي أتى بعد الصحابة بنحو سبعمائة سنة، على صحابي في عمله بحديث يرويه عن رسول الله، وذلك مما لم يسبقه إليه أحد.
ومع هذا فقد روى ابن تيمية جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته عن السلف الصالح حيث قال في كتابه "التوسل والوسيلة" (ص123، دار الكتاب العربي 1985) ما نصه: "ورويَ فى ذلك أثـر عن بعض السـلف مثـل ما رواه ابـن أبـي الدنيا فى كتاب مجابـي الـدعاء، قال: حـدثنا أبو هـاشم، سـمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر فجسّ بطنه فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: الدّبيلة، قال: فتحوّل الرجل فقال: الله، الله، الله ربي لا أشرك به شيئاً، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرّحمة صلى الله عليه وسلم تسليماً، يا محمد، إنـي أتوجـه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بـي. قال: فجسّ بطنه فقال: قد برئت ما بك علة، قلت – أي ابن تيمية – : فهذا الدعاء ونحوه قد رويَ أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل فى منسك المروزي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فى الدعاء. اهـ..
وأما عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر فهو من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي كما قال الذهبي في الكاشف وقال ثقة، وذكره الحافظ في تهذيب التهذيب ونقل توثيقه عن كثيرين بل قال فيه سفيان إنه من الأبرار، وهو من رجال حلية الاولياء للحافظ أبي نعيم (430هـ.).
ولينظر المنصف إلى رواية ابن تيمية توسل أحمد برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وهو ما تطفح به كتب الحنابلة في باب الاستسقاء من أن الإمام أحمد استحب التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء، كما في الإنصاف للمرداوي (885هـ.) وغيره
______________________________ __________
8 – هل هناك أحد من السلف خصّ التوسل أو التبرك بالحيّ الحاضر دون غيره؟، ومن شاء فلينظر في ما رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد في "باب ما يقول الرّجل إذا خدرت رجله" عن عبد الرحمن بن سعد المدني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه كذلك الحافظ ابن السني (364هـ.) في عمل اليوم والليلة بأسانيد مختلفة. وكذا ذكره إمام الذين نازعوا في التوسل، ابن تيمية، في كتابه "الكلم الطيب" في باب "الرّجل إذا خدرت" ونصه: "عن الهيثم بن حنش قال كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل أذكر أحبّ الناس إليك، فقال يا محمد، فكأنما نشط من عقال"، انتهى بنصه وحروفه.
ومع ذلك فلم يسلم ابن تيمية من أن يقول الألباني فيه إنه "يروي الأحاديث التي تنافي التوحيد" كما في طبعة الشاويش الخامسة 1985 للكلم الطيب، والعجب أنه لم يخفَ على الألباني إطلاق "الحديث" على حديث "يا محمد" الموقوف على ابن عمر، وإن كان تلاميذه يقصرون تصحيح الطبراني على المرفوع من حديث التوسل دون موقوفه كما تقدم، وها هو شيخهم يناقضهم.
والأعجب أن في طيّات كلام الألباني المتقدّم تكفير ابن عمر ومعه ابن تيمية لروايته استغاثة ابن عمر برسول الله، إذ ليس هناك ما "ينافي التوحيد" إلا الكفر والشرك، ومع ذلك فالألباني يعتبر قول ابن تيمية بفناء جهنم اجتهاداً مأجوراً وإن ناقض قول الله تعالى في الكفار "خالدين فيها أبداً" (الأحزاب 65 والجن 23)، كما في مقدمته على كتاب "رفع الأستار في الرد على القائلين بفناء النار" للصنعاني (1182هـ.) (ص 32 طبعة الشاويش الأولى 1984، بيروت). وكلامهما – أي الألباني وابن تيمية – باطل لأن بقاء الجنة والنار ودوامهما مما أجمع عليه المسلمون كما ذكر الحافظ تقي الدين السبكي (756هـ.) في "الاعتبار ببقاء الجنة والنار"، وقبله ذكر ابن حزم (456هـ.) الإجماع على بقائهما في كتابه مراتب الإجماع تحت عنوان "باب في الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع"، والحق أحق أن يتبع.
أما طعنهم بالتابعي أبي إسحق عمرو بن عبد الله السبيعي (127هـ.) راوي حديث "يا محمد" عند البخاري في الأدب المفرد، فقد ذكره كثيرون منهم الذهبي في الكاشف حيث قال: "أحد الأعلام، حدث عن جرير وابن عباس وأمم، وعنه السفيانان وغيرهم، هو كالزهري في الكثرة، غزا مرات وكان صوّاماً قوّاماً". وقال في سير أعلام النبلاء (ج5 ص 394) : "هو ثقة حجة بلا خلاف"، فظهر أن لا مطعن في توسل ابن عمر رضي الله عنهما برسول الله صلى الله عليه وسلم عند خدر رجله.
9 – هذه كتب العلماء والفقهاء من المذاهب الأربعة بل وسواهم طافحة بالتوسل والتبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخصّ الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه بالذكر، ففي كتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد وهي نسخة مقابلة على أصل نسخة عبد الله بن أحمد بن حنبل، ما نصه: "عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسّه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرّب إلى الله عز وجل فقال: لا بأس بذلك"؛ انتهى (ج2 ص35 طبع المكتبة الإسلامية - تركيا)، وفي كتاب مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله كذلك ما نصه: "رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني قد رأيته يضعها على رأسه أوعينه فغمسها في الماء ثم شربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها إليه أبو يعقوب بن سليمان بن جعفر فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها"، (ص447 طبع الشاويش – بيروت)، ومثل ذلك نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (597هـ.) في مناقب أحمد (ص187، دار الآفاق الجديدة).
وقال الذهبي عقب إيراده ما ذكرناه من كتابي العلل ومسائل أحمد إنه "صحيح وثابت" ثم قال: "قلتُ أين المتنطعُ المنكرُ على أحمد؟، أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع" (سير أعلام النبلاء ج11 ص212). وقال: "وكان رضي الله عنه يحمل معه في ثوبه وهو في الحبس أيام محنته ثلاث شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوصى أن تجعل عند موته واحدة في فمه على لسانه وعلى كل عين شعرة"، (سيرأعلام النبلاء ج11 ص337).
ولا أدري هل ترك أحمد رضي الله عنه مجالاً لمتكلم بعد كل ما قدّمنا عنه؟، ولو أردنا ذكر كل ما رويَ مما يشابه هذه الأخبار عن غيره من السلف رضي الله عنهم لضاق المقام، والله الهادي إلى سواء السبيل، ولله الحمد أولاً وآخراً
أما خصوص حديث التوسل، فقد رواه عشرات المحدثين والحفاظ
وعلى رأسهم إمام المحدثين البخاري (256هـ.)
في التاريخ الكبيرفي ترجمة الصحابي عثمان بن حنيف رضي الله عنه،
والإمام أحمد (241هـ.) في موضعين من مسنده.
ورواه الإمام الترمذي (279هـ.) الذي هو تلميذ البخاري ومسلم (261هـ.)،
وقال في جامعه بعد أن رواه في كتاب الدّعوات منه: "هذا حديث حسن صحيح"،
ورواه كذلك من أصحاب الكتب الستة ابن ماجه (273هـ.) في سننه
وفيه: "قال الحافظ أبو إسحق إسناده صحيح".
ورواه كذلك الإمام النسائي (303هـ.) في كتابيه السنن الكبرى وعمل اليوم والليلة،
ورواه ابن خزيمة (311هـ.) في صحيحه والحاكم (405هـ.) في المستدرك وصححه
ووافقه الذهبي (المستدرك ج1 ص 313)، ورواه كذلك البيهقي في دلائل النبوة
ورواه كذلك ابن أبي خيثمة (279 هـ.) في تاريخه والحافظ أبو عبد الله المقدسي وصحّحه كما سيأتي.
وقد رواه كذلك الحافظ ابن السّـني (364هـ.) في عمل اليوم والليلة، والحافظ زكي الدين المنذري (656هـ.) في الترغيب والترهيب، والإمام النووي (676هـ.) في كتابه الأذكار والإمام ابن الجزري (833هـ.) في عدة الحصن الحصين.
ولم يقتصرهؤلاء العلماء الأعلام التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم على حال حياته،
ولاسيما أنه صلى الله عليه وسلم حيٌ في قبره يصلي لحديث "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون"
رواه أبو نعيم في تاريخ إصبهان وأبو يعلى الموصلي والبزار والديلمي والبيهقي من حديث أنس مرفوعاً
وصحّحه وأقرّه الحافظ في شرح البخاري،
فهل بطلت بركة النبوة بانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى "وحسن أولئك رفيقاً"؟،
حاشا وكلا، وقد كشف سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وقبله قائلاً
"بأبي أنت وأمي، طبت حياً ومـيّـتاً" رواه البخاري في صحيحه والبيهقي في السنن.
3 – هذا ويلاحظ أن ما يستدل به المانعون من التوسل بالنبي بعد موته، من توسل عمر بالعباس، يلزم منه نسخ حديث التوسل وإبطاله بفعل صحابيّ، وهوما لم يقل به أحد من أهل الملة، وهو على أي حال استدلال في غير محله إذ يحتمل فعل عمر بيان جواز التوسل بغير الأنبياء، وجواز التوسل بالمفضول من أهل الصلاح مع وجود من هو أفضل منه كعثمان وعليّ اللذين هما أفضل من العباس إجماعاً، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ومن المعلوم عند الأصوليين أن
الدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال كما قال السيوطي في الاقتراح في أصول النحو.
فائدة: أما قطع عمر رضي الله عنه شجرة بيعة الرضوان، فأين هو من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصدّيق لها؟، ولو كان قطعها واجباً لما تأخر رسول الله عن ذلك، ولا سيما أنه لا يجوز عليه، عليه الصلاة والسلام، تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرّر في علم الأصول، ولا يخفى أن الرسول وأبا بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما، ومن هوالذي يظن أن فعل عمر في قطع الشجرة أصوب من فعل رسول الله وأبي بكر في تركها؟، ولكنه اجتهاده رضي الله عنه وكلٌ مثاب مأجور لكمال أهليته في الاجتهاد الذي صار يدّعيه كل من هبّ ودرج.
4 – هذا وليعلم أنه لا يجوز الهجوم على التصحيح والتضعيف إلا لمن اكتملت لديه أدوات الجرح والتعديل كما في ألفية الحافظ العراقي (806هـ.)، وفي ألفية السيوطي (911هـ.) : وخذه حيث حافظ عليه نص أو من مُصنف بجمعِهِ يُخص
فإذا علمنا ذلك، فماذا بعد تصحيح الترمذي وغيره من كبار الحفاظ وجهابذ يهمل هذا الحديث الذين منهم مَن نصّ على صحته مع الزيادة التي توضح أن عثمان بن حنيف رضي الله عنه لم يفهم أن التوسل برسول الله خاص بحياته صلى الله عليه وسلم دون حال البرزخ التي هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى شأناً وأرفع مقاماً من الحياة الدنيا، "وللآخرة خير لك من الأولى" (الضحى4)، ومَن هو الذي يقول إنه أفهم من راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه؟.
5 – ولتمام الفائدة أوردُ الرواية التي صحّحها الحافظ الطبراني (360هـ.) كاملة في معاجمه الثلاثة، وهو الذي وصفه الذهبي في تذكرة الحفاظ بـ"الحافظ الإمام العلامة الحجة بقية الحفاظ مسند الدنيا"، وأقرّه على تصحيحها الحافظ نور الدين الهيثمي (807هـ.) في مجمع البحرين في زوائد المعجمين الصغير والأوسط (ج2 ص 318)، وكذا في مجمع الزوائد (ج2 ص 279) بتحرير الحافظين الكبيرين زين الدين العراقي وابن حجر (852هـ.)، وصححها الحافظ البيهقي في دلائل النبوة، بل زاد إمام الذين نازعوا في التوسل، أعني ابن تيمية (728هـ.)، تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (569هـ.) لهذه الرواية بعد أن أقرّ بتصحيح الحافظ الطبراني لها كما سيأتي إن شاء الله من كتابه "التوسل والوسيلة".
وهذه الرواية الصحيحة الدالة على جواز التوسل برسول الله حياً وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم هي: "عن عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقيَ عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: اللهمّ إني أسألك وأتوجّه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة، يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح إليّ حتى أروحَ معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثمّ أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له (معتذراً) ما ذكرتُ حاجتك حتى الساعة، وقال ما كان لك من حاجة فأتنا. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقيَ عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظرُ في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو تصبر؟، فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إئت الميضأة فتوضأ ثمّ صلّ ركعتين ثم أدعُ بهذه الكلمات، فقال عثمان بن حنيف فوالله ما تفرّقنا وطالَ بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط". قال الطبراني: "والحديث صحيح".
ومن المعروف عند أهل هذا الفن أن الحديث لا يقتصر على المرفوع، بل هو شامل للمرفوع والموقوف كما في تدريب الراوي للسيوطي (ج1 ص42) وشرح النخبة للحافظ ابن حجر على صغره وغيرهما، ولوكان الصحيح من هذه الرواية هو المرفوع دون الموقوف لنصّ الطبراني على ذلك إذ لم يكن ليخفى على مثله أن الحديث شامل لكليهما.
وهنا تجدر ملاحظة أن العثمانين صحابيان معروفان والشخص المتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم للدخول على عثمان بن عفان رضي الله عنه، لا يعدو أن يكون صحابياً أو تابعياً رضي الله عن الجميع.
6 – ويطعن بعضهم بالرواية التي صحّحها الطبراني لأنها من طريق الإمام الفقيه المجتهدعبد الله بن وهب القرشي (197هـ.) عن شبيب بن سعيد الحبَطي، وهذا عجيب، فأما شبيب فهو من رجال البخاري في الصحيح، وأما الحافظ ابن وهب فهو من طبقة الإمام الشافعي (204هـ.) وهو من أجل أصحاب الإمام مالك (179هـ.) وقد روى له البخاري ومسلم 138حديثاً وروى له بقية الـ289 حديثاً أصحابُ الكتب الستة، وقال الذهبي في ترجمته من تذكرة الحفاظ: "كان ثقة حجة حافظاً مجتهداً لا يقلد أحداً ذا تعبّد وتزهّد"، وفي ترجمته من سير أعلام النبلاء قال الذهبي: "إليه المنتهى في الإتقان"، وقال فيه الإمام أحمد: "صحيح الحديث، ما أصحّ حديثه وأثبته" كما في تهذيب الكمال للحافظ المزي (742هـ.)، فهل لأحد قول مع الإمام أحمد رضي الله عنه؟.
وليعلم أنهم يســتـندون للطعن فيه إلى كلام لابن عدي في الكامل نقضه بعد أن غزله إذ يقول في ترجمة ابن وهب: "لا أعلم له حديثاً منكراً من رواية ثقة عنه"، فإذا نظرنا في من روى هذا الحديث عن ابن وهب وجدناه الإمام الحافظ الفقيه أصبغ بن الفرج (225هـ.) أحد شيوخ البخاري كما ذكر الذهبي في ترجمته من تذكرة الحفاظ، فظهر أن من رجال هذا الإسناد أئمة في أعلى مراتب العلم والإتقان والتقوى فلا يَعجبن أحد بعد ذلك من تصحيح الطبراني وغيره من الحفاظ الأثبات لهذا الحديث بطوله.
ثم إن ابن عدي يجوّد الرواية عن شبيب من طريق ابنه أحمد، وهي إحدى طرق إسناد حديث التوسل بطوله كما سيأتي، فلا وجه للطعن في الحديث ولو استناداً إلى كلام ابن عدي في ابن وهب الذي هوأعلى بدرجات فقهاً وحفظاً وإتقاناً من ابن عدي وأمثاله.
هذا وليعلم أن طعن ابن عدي في كامله بابن وهب ردّه الذهبي في ميزان الاعتدال حيث قال: "عبد الله بن وهب أحد الأثبات والأئمة الأعلام وصاحب التصانيف، تـناقض ابن عدي بإيراده في الكامل".
وليعلم أن تـناقض ابن عدي لم يقتصر على ابن وهب، بل إنه تجشم العسر والعناء في تضعيف أحد الصحابة الذين أوردهم الحافظ ابن حجر وغيره، وضعّـف كذلك عدداً من الحفاظ الأثبات ما ردّه الذهبي في عدد من كتبه، فظهر أنه لا يُـلتفت إلى ما انفرد به ابن عدي عن غيره من أئمة هذا الشأن من الذين بينهم وبينه كما بين السموات والأرض كالإمام المبرّز أحمد (241هـ.) الذي هو أعرف بعبد الله بن وهب (197هـ.)، فلا أدري هل يأخذون بكلام ابن عدي على هناته وتناقضاته، أم بكلام إمام الائمة أحمد بن حنبل رضي الله عنه؟.
وهنا نذكر فائدة تفند كلام ابن عدي تماماً هي أن حديث التوسل بطوله كما رواه الطبراني وصحّحه لم يُـروَ من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد فحسب، بل رواه الحافظ البيهقي بطوله من طريق ولدَي شبيب، أحمد وإسماعيل، كما في دلائل النبوة للبيهقي (ج6 ص167 و168، دار الكتب العلمية 1985)، وأقرّ البيهقيَ على ذلك ابن تيمية في "التوسل والوسيلة"، فهل بقيَ مجال لطاعن في الحديث بطوله، سواء من رواية ابن وهب أو أحمد وإسماعيل ابني شبيب بن سعيد عنه؟.
7 – أما هؤلاء الناس الذين يحرّمون التوسل إلا بالحيّ الحاضر فقد كفانا إمامهم ابن تيمية (728هـ.) مؤنة الردّ عليهم، إذ إنه أثبت صحة الحديث في أكثر من موضع من كتابه الذي أسماه "التوسلوالوسيلة" وذكر رواته ومخرجيه، بل إنه ذكر رواية الطبراني بطولها ولم يستطع الطعن فيها بل زاد على تصحيح الطبراني تصحيح الحافظ أبي عبد الله المقدسي للرواية بطولها، وكذا رواها من طريق البيهقي (458هـ.) في دلائل النبوة وابن السني (364هـ.) في عمل اليوم والليلة وغيرهم ممّن يصعب حصرهم، وأقرّ بأن عثمان بن حنيف رضي الله عنه كان يعتقد استحسان التوسل برسول الله بعد موته عليه الصلاة والسلام عملاً بالحديث، وإن كان في طيّات كلامه تعريض بعثمان رضي الله عنه، ومن العجب أن يطعن ابن تيمية الذي أتى بعد الصحابة بنحو سبعمائة سنة، على صحابي في عمله بحديث يرويه عن رسول الله، وذلك مما لم يسبقه إليه أحد.
ومع هذا فقد روى ابن تيمية جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته عن السلف الصالح حيث قال في كتابه "التوسل والوسيلة" (ص123، دار الكتاب العربي 1985) ما نصه: "ورويَ فى ذلك أثـر عن بعض السـلف مثـل ما رواه ابـن أبـي الدنيا فى كتاب مجابـي الـدعاء، قال: حـدثنا أبو هـاشم، سـمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر فجسّ بطنه فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: الدّبيلة، قال: فتحوّل الرجل فقال: الله، الله، الله ربي لا أشرك به شيئاً، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرّحمة صلى الله عليه وسلم تسليماً، يا محمد، إنـي أتوجـه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بـي. قال: فجسّ بطنه فقال: قد برئت ما بك علة، قلت – أي ابن تيمية – : فهذا الدعاء ونحوه قد رويَ أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل فى منسك المروزي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فى الدعاء. اهـ..
وأما عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر فهو من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي كما قال الذهبي في الكاشف وقال ثقة، وذكره الحافظ في تهذيب التهذيب ونقل توثيقه عن كثيرين بل قال فيه سفيان إنه من الأبرار، وهو من رجال حلية الاولياء للحافظ أبي نعيم (430هـ.).
ولينظر المنصف إلى رواية ابن تيمية توسل أحمد برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وهو ما تطفح به كتب الحنابلة في باب الاستسقاء من أن الإمام أحمد استحب التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء، كما في الإنصاف للمرداوي (885هـ.) وغيره
______________________________
8 – هل هناك أحد من السلف خصّ التوسل أو التبرك بالحيّ الحاضر دون غيره؟، ومن شاء فلينظر في ما رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد في "باب ما يقول الرّجل إذا خدرت رجله" عن عبد الرحمن بن سعد المدني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه كذلك الحافظ ابن السني (364هـ.) في عمل اليوم والليلة بأسانيد مختلفة. وكذا ذكره إمام الذين نازعوا في التوسل، ابن تيمية، في كتابه "الكلم الطيب" في باب "الرّجل إذا خدرت" ونصه: "عن الهيثم بن حنش قال كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل أذكر أحبّ الناس إليك، فقال يا محمد، فكأنما نشط من عقال"، انتهى بنصه وحروفه.
ومع ذلك فلم يسلم ابن تيمية من أن يقول الألباني فيه إنه "يروي الأحاديث التي تنافي التوحيد" كما في طبعة الشاويش الخامسة 1985 للكلم الطيب، والعجب أنه لم يخفَ على الألباني إطلاق "الحديث" على حديث "يا محمد" الموقوف على ابن عمر، وإن كان تلاميذه يقصرون تصحيح الطبراني على المرفوع من حديث التوسل دون موقوفه كما تقدم، وها هو شيخهم يناقضهم.
والأعجب أن في طيّات كلام الألباني المتقدّم تكفير ابن عمر ومعه ابن تيمية لروايته استغاثة ابن عمر برسول الله، إذ ليس هناك ما "ينافي التوحيد" إلا الكفر والشرك، ومع ذلك فالألباني يعتبر قول ابن تيمية بفناء جهنم اجتهاداً مأجوراً وإن ناقض قول الله تعالى في الكفار "خالدين فيها أبداً" (الأحزاب 65 والجن 23)، كما في مقدمته على كتاب "رفع الأستار في الرد على القائلين بفناء النار" للصنعاني (1182هـ.) (ص 32 طبعة الشاويش الأولى 1984، بيروت). وكلامهما – أي الألباني وابن تيمية – باطل لأن بقاء الجنة والنار ودوامهما مما أجمع عليه المسلمون كما ذكر الحافظ تقي الدين السبكي (756هـ.) في "الاعتبار ببقاء الجنة والنار"، وقبله ذكر ابن حزم (456هـ.) الإجماع على بقائهما في كتابه مراتب الإجماع تحت عنوان "باب في الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع"، والحق أحق أن يتبع.
أما طعنهم بالتابعي أبي إسحق عمرو بن عبد الله السبيعي (127هـ.) راوي حديث "يا محمد" عند البخاري في الأدب المفرد، فقد ذكره كثيرون منهم الذهبي في الكاشف حيث قال: "أحد الأعلام، حدث عن جرير وابن عباس وأمم، وعنه السفيانان وغيرهم، هو كالزهري في الكثرة، غزا مرات وكان صوّاماً قوّاماً". وقال في سير أعلام النبلاء (ج5 ص 394) : "هو ثقة حجة بلا خلاف"، فظهر أن لا مطعن في توسل ابن عمر رضي الله عنهما برسول الله صلى الله عليه وسلم عند خدر رجله.
9 – هذه كتب العلماء والفقهاء من المذاهب الأربعة بل وسواهم طافحة بالتوسل والتبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخصّ الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه بالذكر، ففي كتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد وهي نسخة مقابلة على أصل نسخة عبد الله بن أحمد بن حنبل، ما نصه: "عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسّه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرّب إلى الله عز وجل فقال: لا بأس بذلك"؛ انتهى (ج2 ص35 طبع المكتبة الإسلامية - تركيا)، وفي كتاب مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله كذلك ما نصه: "رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني قد رأيته يضعها على رأسه أوعينه فغمسها في الماء ثم شربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها إليه أبو يعقوب بن سليمان بن جعفر فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها"، (ص447 طبع الشاويش – بيروت)، ومثل ذلك نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (597هـ.) في مناقب أحمد (ص187، دار الآفاق الجديدة).
وقال الذهبي عقب إيراده ما ذكرناه من كتابي العلل ومسائل أحمد إنه "صحيح وثابت" ثم قال: "قلتُ أين المتنطعُ المنكرُ على أحمد؟، أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع" (سير أعلام النبلاء ج11 ص212). وقال: "وكان رضي الله عنه يحمل معه في ثوبه وهو في الحبس أيام محنته ثلاث شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوصى أن تجعل عند موته واحدة في فمه على لسانه وعلى كل عين شعرة"، (سيرأعلام النبلاء ج11 ص337).
ولا أدري هل ترك أحمد رضي الله عنه مجالاً لمتكلم بعد كل ما قدّمنا عنه؟، ولو أردنا ذكر كل ما رويَ مما يشابه هذه الأخبار عن غيره من السلف رضي الله عنهم لضاق المقام، والله الهادي إلى سواء السبيل، ولله الحمد أولاً وآخراً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق