الأربعاء، 24 أبريل 2013

اختلاف العلماء رحمة واسعة


قد فسر الشاطبي رحمة الخلاف بقوله: ;إن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف اختلاف العلماء رحمة واسعة وإجماعهم حجة قاطعة
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة: ما رُوي عن القاسم بن محمد قال: ;لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله في العمل، لا يعمل العامل بعلم رجل منهم إلا رأى أنه في سَعة;([1]).

وعن ضمرة عن رجاء قال: ;اجتمع عمر بن عبدالعزيز والقاسم بن محمد، فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيءُ بالشيء يخالف فيه القاسم، قال: وجعل القاسم يشق ذلك عليه، حتى تبين فيه، فقال له عمر: لا تفعل، فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم[2]).

وروى ابن وهب عن القاسم أيضًا، قال: ;لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب محمد صل الله عليه وسلم لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة;([3]).

ومعنى هذا: أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق؛ لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة -كما تقدم- فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم، وهو نوع من تكليف مالا يطاق، وذلك من أعظم الضيق. فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ }[هود:119]، فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله([4]).

قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب ;الدّر المختاروعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفروهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس، وهو: اختلاف أمتي رحمة قال في المقاصد الحسنة: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس ب، بلفظ: قال رسول الله ^: مهما أوتيتم من كتاب الله؛ فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإنْ لم يكن في كتاب الله فسنة مني، فإنْ لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. وأورده ابن الحاجب فيالمختصر بلفظ: اختلاف أمتي رحمة للناس
وقال ملا علي القاري: إن السيوطي قال: أخرجه نصر المقدسيّ فيالحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.

ونقل السيوطي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول:ما سرني أن أصحاب محمد صل الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة

وأخرج الخطيب أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله! نكتب هذه الكتب -يعني: مؤلفات الإمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة. قال: يا أمير المؤمنين! إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكل يريد الله تعالى وتمامه في كشف الخفاء ومزيل الإلباس([5]).
وللاختلاف أسبابه المشروعة في الفقه، ولهذا اعتبر العلماء معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح فقهه.

فقد قال قتادة /من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه([6]).
وعن هشام بن عبيد الله الرازي /من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه[7]).

وعن عطاء /;لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس، حتى يكون عالمًا باختلاف الناس[8]).


وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليّ[9]).

إلى غير ذلك من الأقوال، ويراجع الشاطبي في;الموافقات، فقد عدَّ معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها([10]).

إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق، فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سببًا للتيسير والتسهيل، والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة، كما مر عن الشاطبي وغيره.

وبناءً عليه: يوجد في المذاهب كلها العدول عن القول الراجح إلى قول مرجوح، لجلب مصلحة ترجحت، أو درء مفسدة، أو دفع مشقة عرضت.

ولهذا تقرر عند المالكية تقديم القول الضعيف الذي جرى به العمل على القول الراجح في زمن من الأزمنة أو مكان من الأمكنة لتبدل عرف أو عروض جلب مصلحة أو درء مفسدة، فيرتبط العمل بالموجب وجودًا أو عدمًا، كما يقول شارح التحفة. وبنوا على ذلك مئات المسائل.

وقال ابن عابدين كذلك بجواز الإفتاء بالضعيف للضرورة، وذكر أبياتًا في ذلك:

ولا يجوز بالضعيف العمل ولا به يجاب من جـا يسـأل
إلا لعامــــــل له ضــروره أو من له معرفة مشهــوره


ومعنى ذلك: أن مقصد التيسير يرجح القول الضعيف فيتعين العمل به لعروض المشقة، فمعادلة المقصد الكلي بالنص الجزئي مؤثرة في الفتوى على مدار الأزمنة.

يقول ابن القيم / في تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال:;هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله صل الله عليه وسلم ([11]).

ومحل الشاهد منه أن الإبقاء على أحكام الجزئيات التي تخالف مقاصد الشريعة وتؤدي إلى مشقة وإعنات، مخالف لروح الشريعة وغلط.

وأي مشقة أعظم من ذهاب الأنفس في الزحام والإثخان بالجروح والآلام، ألا يستحق الأمر اجتهادًا؟.

قال ابن عابدين في نفس المعنى: فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام، ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه([12]).
وقال أيضًا:ثم اعلم أن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه، قد تغيرت بتغير الأزمان؛ بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه.

------------------------------------------
([1]) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1689

([2]) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1689

([3]) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1689).

([4]) الاعتصام (2/170).

([5]) رد المحتار (1/46-47)، وينظر: المقاصد الحسنة (69-70)، وكشف الخفاء (1/68).

([6]) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1520، 1522).

([7]) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1523).

([8]) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1524).

([9]) ذكره ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1534).

([10]) الموافقات (4/161).

([11]) إعلام الموقعين (3/11).

([12]) مجموع رسائل ابن عابدين (2/123).

(*) جزء من مقدمة معالي الشيخ عبدالله بن بيه لكتاب: افعل ولا حرج؛ للشيخ د/ سلمان العودة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق