استباحة الوهابية للحرمين الشريفين
علماء الحجاز يناشدون السلطان العثماني التدخل
في مناشدة عاجلة الى السلطان العثماني، رفع القاضي والأربعة المفاتي بمكة المكرّمة، و قايم مقام شيخ الحرم، وفاتح بيت الله الحرام، إلى جانب عدد من العلماء والخطباء و المدرّسين وجميع طائفة الأغوات المعتمدين وأرباب الشعائر والصلحاء والسادة بمكّة المكرمة والمعاصرين للحركة الوهابيّة، رسالة يشرحون فيها مخطط الحركة الوهابية الناشئة وأخطارها على أرواح الأهالي، والآثار والميراث الإسلامي التاريخي والحضاري.
الموقّعون على العريضة/ المناشدة هم، كما هو واضح من الوثيقة، ممثلون عن المجتمع الديني الحجازي بكل أطيافه، كما تعكس تثبيت المفتين الأربعة توقيعاتهم على المناشدة، وكذلك كبار العلماء من المذاهب السنيّة الأربعة، وجمع كبير من العلماء والوجهاء والشخصيات في المجتمع المكّي. ثانياً، إن الرسالة شدّدت على موضوعات هي مصدر قلق مشترك في زمن إبن عبد الوهاب، حيث تكفير السكّان، والإفراط في القتل وسفك الدماء، واستباحة المناطق ونهب الأموال والممتلكات بعنوان الغنائم، وتهديد الأمن والسلام الأهلي، وهو ما دفع كثيراً من الأهالي إلى الهرب والنزوح إلى أماكن آمنة خشية القتل.
يبدو من الوثيقة أيضاً أن الدولة العثمانية كانت منشغلة في حروب خارجيّة ما سمح للحركة الوهابيّة باستغلال هذا الظرف التاريخي لتنفيذ مآرب خاصة، وهو ما دفع علماء الحجاز إلى تنبيه السلطان العثماني إلى خطورة الوضع وما تحمله الحركة الوهابيّة من تهديدات على الأمن العام، والسلام الأهلي، والتراث الديني، والآثار التاريخية، فاضطر السلطان العثماني إلى إصدار أوامر إلى والي مصر محمد علي باشا بإعداد حملة عسكريّة والتوجّه إلى الحجاز لطرد القوات السعودية الوهابيّة، وهو ما جرى بالفعل وأدّى في نهاية المطاف إلى سقوط الدولة السعودية الثانية.
بدا علماء الحجاز في الرسالة كما لو أنهم يعلنون حالة طوارىء في الديار المقدّسة في ضوء الإرتكابات الإجراميّة للوهابيّة في مناطق مختلفة، والطريقة التي كانت تتعامل فيها مع الأهالي، والممتلكات، الأمر الذي أثار فزع سكّان مكة والمدينة، بل إن توصيف العلماء كان يشيرالى أن حالة ذهول غشت الأهالي، بحيث استحوذت حالة من الهلع الشديد على الأفراد، بفعل ما تردّد من أنباء عن قدوم القوّات الوهابية إلى الحجاز وزرع الموت والدمار في الديار الآمنة.
ونضع هنا نصّ الرسالة ـ الوثيقة، والتي تعكس الواقع التاريخي للوهابية:
مولانا السلطان خليفة رسول الرحمن
اللهم إنا نعوذ بسلطانك الباهر، ونعوذ بساطع برهانك من كل جبار عنيد فاجر، ونتوسل إليك بأفضل أنبيائك وأجمل أصفيائك سيدنا محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والسلام، أن تتقبل بالقبول دعائنا المرفوع في الملتزم والمستجار، وندائنا المسموع في المقام الذي هو مصلى الأخيار، وأن تنصب رايات النصر والتأييد، وترقم على طرازها آيات الدوام والتأييد، وتنشرها على معرف الدولة العثمانية الفاخرة، و أنضولة الخشيروانية القاهرة، وتخلّد ملك سلطان سلاطين الإسلام، ظل الله على جميع الأنام، المضروب رواق ملكه على بساط البسيطة، المنظم غاية الإنتظام، تاج مرقي الملوك وفي (..)، حرز مناقب آل عثمان ملك البسيطة بالطول والعرض مصداق كريمة إني جاعل في الأرض وارث السلطنة من آياته الخلفاء الراشدين وارتضيته لإقامة شريعة سيد الأولين والآخرين، سلطان سلاطين الأقاليم شرقاً وغرباً، دامغ جيشات شياطين الأباطيل سلماً وحربا، خادم الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى مالك الممالك التي لا تحسر ولا تحصى ملك البرين والبحرين سلطان الروم والعراقين مولانا السلطان إبن السلطان الملك المظفر المنصور المؤيد ألحان ثبت الله دعائم ملكه إلى يوم الدين وأدام به عزَّ الإسلام وحرمة المسلمين، وحفظ بعين العناية سلطنته وملكه، وجعل ساير البسيطة خاصّته وملكه وأيّد وزرائه الكرام وسدّد أرباب دولته وأمرائه أولي الإحترام ونصر جنوده وعساكره وجعلها أينما توجّهت منصورة ظافرة آمين وبعد:
فإن الرافعين لهذا المحضر الشاهد بحالهم عندما يتلى في المحضر المتشرفين بخدمة شعائر الإسلام القائمين بها على أكمل وجه وأحسن نظام، كل من قاضي مكة المكرمة، والأربعة المفاتي بمكة المعظّمة، و قايم مقام شيخ الحرم المحترم، وفاتح بيت الله الحرام، والعلماء والخطباء و المدرّسين وجميع طائفة الأغوات المعتمدين وأرباب الشعائر والصلحاء و السادة الأفاخر الواضعين خطوطهم في هذا المنشور المحيط به أمهارهم إحاطة الهالة بالبدور والأكمام بالزهور ينهون إلى الأعتاب العليّة والسدّة الفاخرة السَنيّة، أن الشقي المرتاب، ألمتجري على انتهاك الشريعة المحمدية بغير شك ولا ارتياب الخبيث المدعو بابن عبد الوهاب القاطن بأرض نجد باليمامة مسكن مسيلمة الكذاب، قد تمكّن من أرض نجد بأكملها لأطراف العراق إلى قرب البصرة وتلك الآفاق ومن الطرف الثاني تملّك من قرب المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام إلى عرب يقال لها عنزة قريب من دمشق الشام.
ولم يزل يتملّك بلدة بعد أخرى ويدع العربان بعضهم قتلى وبعضهم أسرى، وعلى الله ورسوله بزوره وفجوره يتحرى ويدعي أن الدين والإسلام ما هو عليه وجماعته الظانين وما عداهما كفار منذ ست مئة من السنين، وكلّما ملك بلدة إدّعى أنه ما ملكها إلا عنوة واستباح أموالهم وقتل علماءهم وصلحاءهم، إلاّ من آمن بدينه منهم وجدّد إسلامه، واعتقد عقيدته كحرق الدلايل وعدم الوسائل منكراً قوله تعالي:”يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة” فمن وافقه على دينه سلم روحه ومهجته ولم بدر عن ندمه، ومن لم يوافقه على كفره أباح قتله وأمر تقرب بسفك دمه.
وقد كان ظهور هذا اللعين من عام ألف و مئة و ثلاثة وأربعين إلى هذا الحين، حتى فجر في البلاد وأقام شوكة أهل العناد والإلحاد، وقد تكرّر إرسال من أشراف مكة المكرمين فيما مضى من السنين لأسلافكم الكرام عروض ينهون إليهم خبره بالتفصيل والتبيين ويطلبون منهم الإعانة قبل اتساع الخرق..
والنجدة النجدة قبل الناس أن تمزق، فلم يرد الله سبحانه وتعالى ذلك، حتى أدى الأمر إلى ما هنالك، فعلّمنا أن التّامات مرهونة بالأوقات، وإلى الله أمور الإجابات، والآن قد زاد فجوره وطغيانه، وظهر للخاصّة والعامّة مسيئاته فالنجدة النجدة قد بلغ السيل الزبا وجرى ما حسبنا منه.
فقد تعلّقت الحمامة بالوصول إلى هذه الديار، وحذا منه آماله بالسلوك إلى هذه الأقطار، وان يضم أم القرى لمملكته ويجعلها في حيازته، وحصل بوصول هذا الخبر لأهل الحرمين غاية الإضطراب ونهاية الوهم والكدر والإتعاب، فلم يدري الشخص أقال شيئا أم لا، ولم يدري المصلي بالمسجد الحرام كم صلى، ولعمري إن لسان الحال فيه أبكم، و نازل إذ هل من التفريق بالكيف والكم، وفادح تعجز عن تحمله الصم الصلاد، ورزئ عم ساير البلاد والعباد بما كاد أن يخلع الناس من رتبة الإنقياد والإذعان، ويفضي لزوال ما تمهّد من الأمان في سالف الأزمان، داع إلى فرار سكّان الأقطار الحرمية منها بسبب تقلّص الأمن بعد ذلك منها، كما علم ذلك بالمشاهدة في إبانه، والكتاب كما تعلمون يقرأ من عنوانه، فكاد هذا الخبر يشغلهم من الزما للدولة العثمانية بسبب شدّة الخوف من هذه القضية.
وقد تفوّه هذا الفاجر الخبيث إن بلغ سؤله وحصل له مأموله، يهدم جميع البناء التي على الأولياء والأصفياء وقبب الصحابة الأتقياء، ويهدم والعياذ بالله قبّة سيد المرسلين وبيت الله الأمين، إلى غير ذلك، مما أذكرنا فتنة القرمطي اللعين، وقد صمّم على الرسول بالخبر المتواتر الذي لا شبهة فيه على ألسنة الواصلين من الفرق التي تليه، وجمع الجموع واستعد لذلك، ما كاد يفوق قصة أبرهة المذكورة قصته في كتب السيرة بالتفصيل المعلوم عند قاريه القائل فيها عبد المطلب بن هاشم أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، راجين من الله تعالى ثم منكم العذاب الأبيل ومصداق كريمة ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل فجعلهم كعصف مأكول) ، متمسكين بدعوة خليل الله إبراهيم وبقوله تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)، وقد أخاف سكّان بيت الله وتفوّه بانتهاك حرم الله، وأظهر ما كان في حشاه كامناً ولم يخشى قوله تعالى عزّ من قائل (ومن دخله كان آمناً)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لم يحل لي إلا ساعة من نهار، ولم يحل لأحد من بعدي)، وعن وهب بن منبه رضي الله عنه يروي إن الله تعالى يقول (من أمن أهل الله استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم أخفرني في ذمتي، ولكل ملك حيازة ما حوليه وبطن مكة حوزي، وأهلها جيران بيتي وعمّارها وزوّارها وفدي و أضيافي وفي كنفي وأماني ضامنون عليه في ذمتي وجواري )، وذكر العلامة المحدث أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي أن النبي صلي الله عليه وسلم لمّا استعمل عتاب إبن أسيد على مكة قال لعتاب: (أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله تعالى فاستوصي بهم خيراً يقولها ثلاثاً.
فالمرجو من مرامكم الكريمة وأنظاركم الشاملة الحميمة النظر في جيران بيت الله الحرام بحزمات ما يجب لجيرانه من الإعزاز والإكرام، والمدد السريع لهؤلاء الضعفاء والمساكين الذين قال في حقهم نبي الله إبراهيم وهو المنيب الأوّاه (ربي إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة)، فإن في عامّة هذا الأمر فتنة عظيمة في الدين وعار يخبر به الأولون الآخرين، ولتسمعن نبئه بعد حين، فما لتأخير دولتكم العلية من دافع، والإنذار من انتهاك الحرم يضع الله جار بلا دافع، وحاشا سلطان بسهولة أن يرضى بذلك لجيران بيت الله الحرام، أو يضام جيران بيته بشئ من هؤلاء الفئة اللئام.
وقد سبق أن المشار إليه قد سبق قبل هذا العام بما عزم عليه الآن، فداركه بعظمته العليّة وسطوته القوية الهاشميّة مولانا فخر السادة الأشراف وجدة القادة من عبد مناف مولانا شريف مكة حالاً، زاد مدّه ودام سعده، وتوجّه بنفسه وبجملة من العساكر والرجال وأنفق الجم العظيم من الأموال، حتى وطئ من حدوده وأختامه مسافة شهر ومكث بقبائل عدة وأذاقهم البليّة والشدّة والقهر واستعرت نار الحرب مدة، فضاق عليه الوقت بأواخر شهر ذي القعدة فلم يمكنه التخلف عن مكّة في زمن الحج فعاد إليها خوفا على الحجّاج الواصلين من جميع الفجاج.
ولم يزل حضرة سيدنا المشار إليه خلّد الله نور علّيه باذلاً جهده بحسب الطاقة والإمكان في حفظ القرى حول الحرمين الشريفين تحصيناً غاية التحصين بإرسال المراجل و الذخائر العظيمة في كل حين، وها نحن قد تلونا بذكر سورة الواقعة نطقاً وضمناً، وما شهدنا إلا بما علمنا. ونرجو أنباء منكم بالفتح والنصر المبين بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة الفئة الملحدين، فحيث كنّا ليس لنا من نرفع إليه أكف الشكية ونبث له ما عهد من قبل ونرجوه رفع الكرب عنا والمهمات ونعتمد عليه في الأمور الحادثات، فما لنا بعد الله ورسوله خير البرية إلا حضرة دولتكم العثمانية، ويجب على سكّان أم القرى والبلدة المطهّرة الغراء، أن يعرضوا إلى جنابة دولتكم ما قد جرى من الحادث المتوالي، والأمر منوط ومفوّض إلى النظر العالي، وإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى وبه المستعان، وصلى الله على سيدنا محمد ولد عدنان وعلى آله وصحبه مصابيح الزمان،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق