ذكر الأدلة التي فيها إثبات السماع : عن أنس بن مالك رضي الله عنه :« أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ : يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا . فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا ، وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا (1) ؟ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا . ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ ».(2) المبحث الثالث : مذاهب العلماء في المسألة : ظاهرُ الآياتِ الكريمةِ أنَّ الموتى لا يسمعون كلامَ الأحياء ، وأمَّا الحديث ففيهِ إِثبات السماع لهم، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على مذهبين : الأول : مذهب إثبات السماع مطلقاً للأموات ،
وتأويل الآيات التي فيها نفي السماع . وهذا مذهب الجمهور من العلماء (3) ،
حيث ذهبوا إلى إجراء الأحاديث التي فيها إثبات السماع على ظاهرها وعمومها ، وقالوا : إن الميت بعد موته يسمع كلام الأحياءويشعر بهم . وهو اختيار جمع من المحققين ، كابن حزم (4) ، والقاضي عياض (5) ، والنووي (6 ) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (7 ) ، وابن القيم (8 ) ، والحافظ ابن كثير (9 ) . واختلف أصحاب هذا المذهب
في الجواب عن الآيات التي فيها نفي السماع على أقوال : القول الأول : أن الموتى في الآيات المراد بهم الأحياء من الكفار ، والمعنى: إنك لا تُسْمِع الكفار الذين أمات الله قلوبهم إسماع هدىً وانتفاع ، « وشُبِّهُوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ؛ لأنهم إذا سمعوا ما يُتلى عليهم من آيات الله ، فكانوا أقماع القول ، لا تعيه آذانهم ، وكان سماعهم كلا سماع ، كانت حالهم - لانتفاء جدوى السماع - كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع ».(10 ) وهذا القول فيه حمل للآيات على المجاز ، وذلك بتشبيه الكفار الأحياء بالموتى . وقد قال بهذا القول : ابن قتيبة ( 11)، والخطابي ( 12)، والبغوي ( 13)، والزمخشري ( 14)، والسهيلي ( 15)، وأبو العباس القرطبي (16 )، والسمعاني ( 17)، والقاري (18 )، والسيوطي ( 19)، والشنقيطي ، وابن عثيمين ( 20) . قال الشنقيطي :« اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أن معنى قولـه:{ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، أي لا تسمع الكفار - الذين أمات الله قلوبهم ، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه - إسماع هدىً وانتفاع ؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء ، فختم على قلوبهم وعلى سمعهم ، وجعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، وعلى أبصارهم الغشاوة ، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع ».أهـ (21 ) واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها (22 ): الدليل الأول : أنَّ الله تعالى بعد أن نفى السماع عنهم قال: { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } ، فمقابلته جلَّ وعلا الإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها - لمن يؤمن بآياته - دليلٌ واضح على أنَّ المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله:{ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } مفارقة الروح للبدن لما قابل ذلك بقولـه: { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ } ، بل لقابله بما يناسبه، كأن يُقال: إن تسمع إلاّ من لم يمت . الدليل الثاني : أنَّ استقراء القرآن الكريم يدل على أن الغالب استعمال الموتى بمعنى الكفار ، كقولـه تعالى :{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ الأنعام:36] ، وقد أجمع(23 ) من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في الآية هم الكفار . وكقولـه تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَل [ الأنعام:122] ، فقولـه :{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا } ، أي : كافراً ؛ فأحييناه ، أي : بالإيمان والهدى ، وهذا لا نزاع فيه بين المفسرين ، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر . وكقولـه : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } [فاطر:22] ، أي: لا يستوي المؤمنون والكافرون . الدليل الثالث : أنَّ قولـه تعالى : { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، وما في معناها من الآيات ، كلها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه يحزنه عدم إيمانهم ، كما بينه تعالى في آيات كثيرة ، كقولـه تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } [الأنعام:33] ، وقولـه تعالى :{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون َل [الحجر:97] ، وقولـه : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [النحل:127] ، وقولـه : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء:3] إلى غير ذلك من الآيات ، ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم أنزل الله آيات كثيرة تسلية له صلى الله عليه وسلم ، بَيَّنَ له فيها أنه لا قدرة له على هدي من أضله الله ، ومن الآيات النازلة تسلية له صلى الله عليه وسلم ، قولـه هنا : { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، أي لا تُسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول ، ولو كان معنى الآية وما شابهها: إنك لا تسمع الموتى ، أي: الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم. واعتُرِضَ : بأن ما ذُكِرَ من معنى آيتي النمل والروم مسلم فيه ، لكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على نفي سماع الموتى ؛ لأنَّ الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة ، وكان ذلك معروفاً عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع ، فدل هذا التشبيه على أن المشبه بهم – وهم الموتى في قبورهم – لا يسمعون ، كما يدل مثلاً تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع ، بل هو في ذلك أقوى من زيد ، ولذلك شُبِّهَ به ، وإن كان الكلام لم يُسقْ للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه ، وإنما عن زيد ، وكذلك آيتا النمل والروم ، وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشُبّهوا بموتى القبور ، فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون ، بل إنَّ كل عربي سليم السليقة ، لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم ، وإذ الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون .(24 ) واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ الله تعالى قال في آية أخرى :{ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } [فاطر:22] وهذه الآية صريحة بنفي سماع الأموات، ولا يتأتى حملها على المعنى الذي ذكِرَ . وأجيب : بأن هذه الآية هي كآيتي النمل و الروم المتقدمتين ، لأن المراد بقولـه: { مَّن فِي الْقُبُورِ } الموتى ، فلا فرق بين قولـه:{ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وبين قولـه: { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } ؛ لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد ، كقولـه تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ } [الحج:7] ، أي يبعث جميع الموتى ، من قُبر منهم ومن لم يُقْبَر ، وقد دلت قرائن قرآنية على أن معنى آية فاطر هذه كمعنى آية الروم ، منها قولـه تعالى قبلها:{ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [فاطر:] ؛ لأن معناها لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه ، فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة ، وما أنت بمسمع من في القبور ، أي الموتى ، أي الكفار الذين سبق لهم الشقاء ، ومنها قولـه تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } [فاطر:19] ، أي المؤمن والكافر وقولـه تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } [فاطر:22] أي المؤمنون والكفار ، ومنها قولـه تعالى بعدها : { إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } [فاطر:23] أي ليس الإضلال والهدى بيدك ، ما أنت إلا نذير وقد بلغت .(25 ) القول الثاني : أنَّ الموتى في الآيات المراد بهم الذين ماتوا حقيقة ، لكن المراد بالسماع المنفي هو خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع به صاحبه ، وأن هذا مثلٌ ضربه الله للكفار ؛ إذ الكفار يسمعون الحق ، ولكن لا ينتفعون به . قالوا : وقد يُنفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته ، كما في قولـه تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف:179] . (26 ) وهذا رأي : شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ( 27) ، وابن رجب ( 28) ، والأبي ( 29) ، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية . قال الطبري :« معنى الآية : إنك لا تسمع الموتى إسماعاً ينتفعون به؛ لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال ، وخرجوا من دار الأعمال إلى دار الجزاء ، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله والعمل بطاعته ، فكذلك هؤلاء الذين كتب ربك عليهم أنهم لا يؤمنون لا يُسْمِعُهم دعاؤك إلى الحق إسماعاً ينتفعون به ؛لأن الله تعالى ذكره قد ختم عليهم أن لا يؤمنوا ، كما ختم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد خروجهم من دار الدنيا إلى مساكنهم من القبور إيمان ولا عمل ؛ لأن الآخرة ليست بدار امتحان ، وإنما هي دار مجازاة ، وكذلك تأويل قولـه تعالى: âإِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } [فاطر:22] ».أهـ (30 ) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :« قولـه :{ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه ؛ فإن هذا مثل ضُرب للكفار ، والكفار تسمع الصوت ، لكن لا تسمع سماع قبولٍ بفقهٍ واتباع ، كما قال تعالى :{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [البقرة:171] ، فهكذاالموتى الذين ضُرب لهم المثل لا يجب أن يُنفى عنهم جميع السماع المعتاد ، أنواعَ السماع ، كما لم يُنْفَ ذلك عن الكفار ; بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به ، وأما سماعٌ آخر فلا يُنفى عنهم ».أهـ (31 ) وهذا القول : دلت عليه آيات من كتاب الله ، جاء فيها التصريح بالبكم والصَّمَم والعمى مُسنداً إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون ، والمراد بصممهم : صممهم عن سماعما ينفعهم دون غيره ، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام ، وذلك كقولـه تعالى في المنافقين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة:18] فقد قال فيهم : ( صم بكم ) مع شدة فصاحتهم ، وحلاوة ألسنتهم ، كما صرح به في قولـه تعالى فيهم : { وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [ المنافقون:4] أي لفصاحتهم ، وقولـه تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب:19] ، فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم ، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسِنةٍ حِداد ، هم الذين قال الله فيهم : صم بكم عمي ، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص ، وهو ما يُنتفع به من الحق ، فهذا وحده هو الذي صَمُّوا عنه فلم يسمعوه ، وبكموا عنه فلم ينطقوا به ، وعموا عنه فلم يروه ، مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه وينطقون به ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } [ الأحقاف:26] .(32 ) واعتُرِضَ هذا القول: بأن فيه قلب للتشبيه المذكور في الآيات ، حيث جُعل المشبه به مشبهاً ؛ لأن القيد المذكور في هذا القول يصدق على موتى الأحياء من الكفار ، فإنهم يسمعون حقيقة ، ولكن لا ينتفعون من سماعهم ، كما هو مشاهد ، فكيف يجوز جعل المشبه بهم - من موتى القبور - مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم ، مع أن المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقاً ، ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيات ، فبطل القيد الذي ذكره أصحاب هذا القول .(33 ) القول الثالث : أن معنى الآيات : إنك لا تُسمع الموتى بطاقتك وقدرتك ، ولكن الله تعالى هو الذي يسمعهم إذا شاء ؛ إذ هو القادر على ذلك دون من سواه . وهذا رأي : ابن التين (34 ) ، والإسماعيلي (35 ) ، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية (36 ) . واستدلوا على ذلك بأدلة منها : الدليل الأول : أن الله تعالى بعد أن نفى السماع قال :{ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ } [ النمل: 81 ] ، فبين أن الهداية من الكفر إلى الإيمان بيده دون من سواه ، فنفيه سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون قادراً أن يُسمع الموتى إلا بمشيئته ، هو كنفيه أن يكون قادراً على هداية الكفار إلا بمشيئته . الدليل الثاني : أن الله تعالى أثبت لنفسه القدرة على إسماع من شاء من خلقة بقولـه :{ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء } ، ثم نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم القدرة على ما أثبته وأوجبه لنفسه من ذلك ، فقال له :
{ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } ولكن الله هو الذي يسمعهم دونك وبيده الإفهام والإرشاد والتوفيق ، وإنما أنت نذير فبلغ ما أرسلت به .(37 ) أدلة القائلين بإثبات السماع مطلقاً للأموات : استدل القائلون بإثبات السماع مطلقاً للأموات بأدلة منها : الدليل الأول : مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر من المشركين (38 ) ، وهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقوله صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصاً .(39 ) واعتُرِضَ : بأن عائشة رضي الله عنها روت الحديث بلفظ :« إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ » ، وهذا يدل على أن الرواية التي فيها التصريح بالسماع غير محفوظة. وأجيب : بأن تأول عائشة رضي الله عنها بعض آيات القرآن ، لا تُرد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم ،
ويتأكد ذلك بثلاثة أمور : الأول : أن رواية العدل لا ترد بالتأويل . الثاني :أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :« إنهم ليسمعون الآن ما أقول » قالت: إن الذي قاله صلى الله عليه وسلم :« إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق » فأنكرت السماع ونَفَتْهُ عنهم ، وأثبتت لهم العلم ، ومعلومٌ أنَّ من ثبت له العلم صح منه السماع . الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها إلى الروايات الصحيحة ، قال الحافظ ابن حجر : « ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه :« ما أنتم بأسمع لما أقول منهم » وأخرجه أحمد (40 ) بإسناد حسن ؛ فإن كان محفوظاً فكأنها رجعت عن الإنكار ، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة ، لكونها لم تشهد القصة ».أهـ (41 ) وقال الإسماعيلي:« كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه ، لكن لا سبيل إلى رَدِّ رواية الثقة إلا بنصٍ مثله ، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته ».أهـ (42 ) (43 ) الدليل الثاني : عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ....»(44 ) ، وهذا الحديث فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الميت في قبره يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، وظاهره العموم في كل من دُفِنَ ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصاً .(45 ) واعتُرِضَ : بأن ما ورد في هذا الحديث مخصوص بأول الدفن ، عند سؤال الملكين ، وهو غير دائم ، فلا يفيد عموم سماع الأموات في كل الأحوال والأوقات .(46 ) وأيضاً : فإن الروح تعاد للبدن عند المساءلة - كما ثبت بذلك الحديث (47 ) – لذا فإنسماع الميت قرع النعال، إنما هو بسبب اتصال الروح بالبدن ، وهذا الاتصال غير دائم ، بل هو مخصوص بوقت السؤال (48 )، وعليه فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث ، على عموم سماع الأموات في كل وقت وحين . الدليل الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه :« أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ».(49 ) ، وهذا الحديث فيه مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقولـه :« السلام عليكم » ، وقولـه :« وإنا إن شاء الله بكم لاحقون » ، وهذا يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه ؛ لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء ، فمن البعيد جداً صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم .(50 ) واعتُرِضَ : بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة بقولهم :« السلام عليك أيها النبي ... » (51 ) وهم خلفه ، وقريباً منه ، وبعيداً عنه ، في مسجده ، وفي غير مسجده ، وكذا جمهور المسلمين اليوم ، وقبل اليوم ، الذين يخاطبونه بذلك ، أفيقال : إنه يسمعهم ، أو أنه من المحال السلام عليه ، وهو لا يشعر بهم ولا يعلم؟ (52 ) واعتُرِضَ أيضاً : بأن السلام على القبور إنما هو عبادة ، والقصد منه تذكير النفس بحالة الموت ، وبحالة الموتى في حياتهم ، وليس القصد من السلام مخاطبتهم ، أو أنهم يسمعون ويجيبون .(53 ) الدليل الرابع : ما جرى عليه عمل الناس - قديماً وإلى الآن - من تلقين الميت في قبره ، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة ، وكان عبثاً ، فعن أبى أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره ، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان بن فلانة ، فإنه يسمعه ولا يجيب ، ثم يقول: يا فلان بن فلانة ، فإنه يستوي قاعداً ، ثم يقول: يا فلان بن فلانة ، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله ، ولكن لا تشعرون ، فليقل: أذكر ما خرجت عليه من الدنيا ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنك رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً ، فإن منكراً ونكيراً ، يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ، ما نقعد عند من قد لُقِّنَ حُجَّته ، فيكون اللهُ حجيجَه دونهما ، فقال رجل : يا رسول الله ، فإن لم يعرف أمه؟ قال: فينسبه إلى حواء ، يا فلان بن حواء ».(54 ) قالوا : فهذا الحديث وإن لم يثبت إلا أن اتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار ، من غير إنكار، كافٍ في العمل به ، ولولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم ، وهذا وإن استحسنه واحد ، فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه ، قالوا : وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال :« اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ »(55 ) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُسأل حينئذ ، وإذا كان يُسأل فإنه يسمع التلقين.(56 ) واعتُرِضَ : بأن حديث تلقين الميت لا يصح ، بل هو حديث متفق على ضعفه .(57 ) الدليل الخامس : أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال - في وصيته عند موته -:« فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا (58 ) عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا ، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي »(59 ) ، وهذا يدل على أن الميت ترد عليه روحه ويسمع حس من هو على قبره وكلامهم ، وهذا الحديث إنما قاله عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن مثله لا يدرك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم .(60 ) الدليل السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« ما من رجل يمر على قبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ». (61 ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه :« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحدٍ مَرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له ، ثم قرأ هذه الآية : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب:23] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فأتوهم وزروهم ، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ».(62 ) وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ».(63 ) وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ، ورد عليه ، حتى يقوم ».(64 ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو رزين : يا رسول الله ، إن طريقي على الموتى، فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم ؟ قال: قل: السلام عليكم أهل القبور من المسلمين والمؤمنين ، أنتم لنا سلف ، ونحن لكم تبع ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . قال أبو رزين: يا رسول الله ، يسمعون؟ قال: يسمعون، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا . قال: يا رزين، ألا ترضى أن يرد عليك بعددهم من الملائكة ».(65 ) قالوا : فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً ، وهي تدل صراحة على أن الميت يشعر بزيارة الحي، ويرد عليه السلام .(66 ) واعتُرِضَ : بأن هذه الأحاديث كلها ضعيفة ، ولا يصح الاستدلال بها .(67 ) الدليل السابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي ، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ».(68 ) واعتُرِضَ : بأن الحديث ليس صريحاً في سماعه صلى الله عليه وسلم سلام من سلم عليه عند قبره .(69 ) الدليل الثامن : كثرة المرائي التي تقتضي سماع الموتى ومعرفتهم لمن يزورهم ، وهذه المرائي وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك ، فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ »(70 ) يعني ليلة القدر ، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطىء روايتهم له .(71 )
|
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق