الأحد، 23 أبريل 2017

أفعالٌ خضوعيّة يُتَوَهّم أنّها عبادةٌ في كلّ حال




المبحث الأول : السجود


لقد تبيّن بجلاء مما سبق معنى العبادة الاصطلاحية , والتي من أدّاها لغير الله تعالى أشرك وكفر , ومن أدّاها لله تعالى كان عابداً له , وقد اختلط الأمر على الوهابية في بعض الأفعال , فعدّوا أداءها لغير الله تعالى عبادة بغض النظر عن اعتقاد ونية فاعلها , وبما أنّ هذه الأفعال قد صدرت من بعض المسلمين , فقد قام الوهابية بتكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم ونسائهم , بل وتكفير من لم يكفّرهم!! , ومن هذه الأعمال السجود , وقد بدأتٌُ بالسجود لكونه أوضح وأجلى الأفعال الخضوعية , فقد قام بعض الجهلة من المسلمين –على قلّتهم- ببدعة السجود للعلماء أو لقبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أو قبور الأولياء بقصد التحية والتكريم , ودون اعتقاد شيء من خواص الربوبية في غير الله تعالى , ولم يقل أحدٌ من المسلمين بأنّ سجودَهم كفرٌ يخرجهم من دين الإسلام , مع القطع بكون ذلك بدعة في الدين , لكنّ الوهابية يرون أنّ السجود لمخلوق سواءً كان سجودَ عبادة أو سجود تكريم وتحيّةٍ إنما هو شركٌ أكبر , فمن سجد سجودَ تحية لولي أو نبي عند قبره فقد أشرك , قال ابن عثيمين في فتاويه (24/224) : 
(ومن ذهب إلى قبر فسجد لصاحب القبر فهو مشرك سجد لغير الله ، والسجود لا يكون إلا لله عز وجل ) .

ومن المعلوم أنّ السجود هو أجلى ألفعال في كونه تذللًا وخضوعًا , وهو أجلى من الدعاء ذلك , فإن الدعاء يحصل منا يومياً , ولا يمر يوم إلا ويستغيث بعض الناس ببعض في حاجاتهم بخلاف السجود , والدعاء قد يكون من الأعلى لمن هو أدنى منه كدعاء الملك خادمه , أما السجود فلا يكون إلا من الأدنى إلى الأعلى , والدعاء قد يقع دون تذلل وخضوع , أمّا السجود فلا ينفك عن الخضوع والتذلل , فلذلك يعتبر السجود أبرز عمل يصح أن يقع على وجه العبادة , فهل كلّ سجود يعتبر شركاً ؟

إذا ثبت أن السجود لا يكون شركاً إلا بقيد من القيود , فمن باب أولى أن تكون غيره من الأعمال العبادية ليست شركاً دون ذلك القيد , فهو أوضح الأفعال التذلّلية وأجلاها . 

قد بينتُ سابقاً أنّ الخضوع لا يكون شركاً إلا إذا قُصِد به التعبد , أو اعتُقِد في المخلوق أحد خواص الربوبية والألوهية , والسجودُ داخلٌ في هذه الأعمال الخضوعية , فالسجود إذا أُدّي لغير الله تعالى على سبيل التعبّد والتعظيم كتعظيم الله , أو باعتقاد الألوهية أو شيء من خواصّ الربوبية كان شركًا , لأنه داخلٌ في حدّ العبادة بالمعنى الأخص , أمّا إذا أدّي لغير الله تعالى على سبيل التحية والتكريم -لا بقصد التعبد- فلا يعتبر شركاً , وهذا النوع من السجود قد كان مشروعاً في شرع من قبلنا , لكنّه نُسِخ في شريعتنا المباركة , فمن قام بالسجود لغير الله تعالى تكريماً له فقد وقع في محرّم , ولا يقال أنّه أشرك , ولا يُقال عمّن لم يحكم بشركه أنه مشرك أيضاً , بحجّة أنّ من لم يكفّر الكافر فهو كافر!!

* أمّا كون السجود لغير الله تعالى بقصد التعبّد شركاً , فهذا مما يوافقنا فيه الوهابية , فلا أحد ينكر أنّ من قام به أشرك مع الله تعالى في العبادة .

وأمّا كون السجود لغير الله تعالى دون قصد التعبّد ليس شركاً في شرع من قبلنا , فهذا يدلّ عليه السجود لأبينا آدم –عليه السلام- , وسجود إخوة سيدنا يوسف وأبويه له .
قال ابن كثير في تفسيره : 
( وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100] وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ : قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: "لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي، وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء: 78 ] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة لله، عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر: أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض , وهو ضعيف كما قال ) . 

* وأمّا كون السجود قد نُسِخ في شريعتنا , فقد جاءت نصوص كثيرة تدل على حرمته , وعليه فمن قام بالسجود لعالمٍ أو حاكمٍ أو قبرٍ أو زوجٍ فقد ارتكب أمراً محرماً من الكبائر , لكنّ هذه الحرمة ليست ناتجة عن كونه عبادةً , بل لأن النص جاء بتحريم السجود للمخلوق , ومما يدل على ذلك :

ما رواه الإمام أحمد في المسند (19623) , وابن ماجة في السنن (1853) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- , قَالَ: (مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟) , قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- : ( فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ..) .

ومعلوم أنّ سيدنا معاذاً من كبار علماء الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- وهو عالم بحدود العبادة والشرك ومعيار كل منهما , فلا يُتصوّر أنّه كان جاهلاً بحقيقة العبادة وأنّ صَرْفَها لغير الله تعالى شرك , إلا أنّه سجد للنبي – صلى الله عليه وسلم- تكريماً له , فلم يقل له النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يجدّد إسلامه أو أنّ فعله شرك بالله , بل نهاه عن هذا الفعل بما يدلّ على حرمته فقط .

وما رواه الإمام أبو داود في سننه (2140) والإمام أحمد في مسنده (24515) وغيرهما , عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ , فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ , قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ –ص- وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الْحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانٍ لَهُمْ , فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ , قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟) , قَالَ: قُلْتُ لَا , قَالَ: ( فَلَا تَفْعَلُوا لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحَقِّ ) .

* وقد عدّ الأئمة من المذاهب الأربعة سجود التحية من الكبائر وجعلوه كفراً صورياً , لكنّهم لم يقولوا بتكفير الساجد للمخلوق كفراً أكبر يخرجه من الملّة كما فعل الوهابية , وعلماءُ المذاهب الأربعة ذهبوا إلى تكفير الساجد للصنم أو الشمس لكونه أمارة من أمارات الشرك لا لكونه عبادة لذاته , إذ السجود لشيء قد عُبِدَ من دون الله دلالةٌ كافيةٌ على كفر الساجد , ولو كان السجود عبادةً ذاتيةً ما حلّ في شريعة أبداً , فلو سجد شخص للصنم أو للشمس كَفَر لكونه فعل فعلاً يدل على اعتقاد إلهيتها , فإنّ اتخاذَ الصنم والشمس آلهة منتشر بين المشركين , وسجودهم لها ناتج عن اعتقادهم بإلهيتها .

وإليك بعض نصوص الأئمة في ذلك :

- جاء في الفتاوى الهندية : 
(مَنْ سَجَدَ لِلسُّلْطَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ أَوْ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَكْفُرُ , وَلَكِنْ يَأْثَمُ لِارْتِكَابِهِ الْكَبِيرَةَ , هُوَ الْمُخْتَارُ ) .

- وجاء في الخادمي على الدرر :
( تقبيل الأرض والانحناء ليس بجائز بل محرم ) .


- وقال الإمام ابن الشاط المالكي في إدرار الشروق :
( الساجد للشجرة والساجد للوالد إن سجد كل واحد منهما مع اعتقاد أن المسجود له شريك الله تعالى فهو كفر ، وإن سجد لا مع ذلك الاعتقاد بل تعظيما عاريا عن ذلك الاعتقاد فهو معصية لا كفر ، وإن سجد الساجد للشجرة مع اعتقاد أنه شريك لله تعالى وسجد الساجد للوالد لا مع ذلك الاعتقاد بل تعظيما فالأول كفر والثاني معصية غير كفر أو بالعكس إلا أن نقول أن مجرد السجود للشجرة كفر لأنها قد عبدت مدة ، ومجرد السجود للوالد ليس بكفر ؛ لأنه لم يعبد مدة فيفتقر ذلك إلى توقيف ) .

- وقال الإمام محمد بن حسين المكّي المالكي في تهذيب فروق القرافي: 
( إن السّجود للشجرة إنما اقتضى الكفر دون السجود للوالد , لأن فيه من المفسدة التي نعلمها ما يقتضي الكفر دون السجود للوالد , لأنّ الشجرة ليست من المقصود بالتعظيم شرعًا , وقد عبدت مدّة , بخلاف الوالد فإنه من المقصود بالتعظيم شرعًا , ولم يعبد مدّة , وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا ولم يكن قبلة على أحد القولين , بل هو المقصود بذلك التعظيم بذلك السجود , ولم يقل أحد أنّ الله تعالى أمر هنالك بما نهى عنه من الكفر , ولا أنّه أباح الكفر لأجل آدم , ولا أنّ في السجود لآدم مفسدة تقتضي كفرًا لو فعل من أمر غير ربّه , فافهم) .


- وقال الإمام النووي الشافعي في روضة الطالبين :
( قلت: وسواء في هذا الخلاف في تحريم السجدة ما يفعل بعد صلاة وغيره , وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الضالين من السجود بين يدي المشايخ فإن ذلك حرام قطعًا بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها وسواء قصد السجود لله تعالى أو غفل , وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر عافانا الله تعالى والله أعلم ) .

- وفي حواشي الشرواني :
(ومما يحرم ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ ولو إلى القبلة أو قصده لله تعالى , وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر عافانا الله تعالى من ذلك ) .

- وفي فتح المعين :
(وسجود الجهلة بين يدي مشايخهم حرام اتفاقا) .

- وجاء في حاشية البجيرمي على الخطيب :
( قالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَا يَفْعَلُهُ عَوَامُّ الْفُقَرَاءِ وَشَبَهُهُمْ مِنْ سُجُودِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ الْمَشَايِخِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ بِطَهَارَةٍ وَتَوَجُّهٍ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ ذَلِكَ تَوَاضُعٌ وَتَقَرُّبٌ وَكَسْرُ نَفْسٍ وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ ، فَكَيْفَ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِمَا حَرَّمَهُ؟! ....
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : هَذَا السُّجُودُ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ ، وَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ كُفْرًا , وَمِثْلُهُ بُلُوغُ حَدِّ الرُّكُوعِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ . 
وَإِنَّمَا قَالَ وَيُخْشَى إلَخْ , وَلَمْ يَجْعَلْهُ كُفْرًا حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ بَيْنَ يَدِي الْمَشَايِخِ لَا يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الشَّيْخِ كَتَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْبُودًا ، وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ ذَلِكَ كَمَا فِي "ع ش" عَلَى "م ر" ) . 


- وفي مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى في الفقه الحنبلي :
( ( أَوْ سَجَدَ لِصَنَمٍ أَوْ كَوْكَبٍ ) كَشَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ ؛ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
( وَيَتَّجِهُ السُّجُودُ لِلْحُكَّامِ وَالْمَوْتَى بِقَصْدِ الْعِبَادَة كَفْرٌ ) قَوْلًا وَاحِدًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ (وَالتَّحِيَّةُ ) لِمَخْلُوقٍ بِالسُّجُودِ لَهُ (كَبِيرَةٌ ) مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ ، وَالسُّجُودُ لِمَخْلُوقٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ ( مَعَ الْإِطْلَاقِ ) الْعَارِي عَنْ كَوْنِهِ لِخَالِقٍ أَوْ مِخْلَاقٍ (أَكْبَرُ إثْمًا وَأَعْظَمُ جُرْمًا إذْ السُّجُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ ) ) .

وقال أيضاً :
(( وَيَتَّجِهُ ) أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ لِجَامِدٍ أَوْ مُتَحَرِّكٍ وَلَوْ بِنِيَّةِ التَّهَكُّمِ - وَيُسْتَتَابُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ( غَيْرَ نَحْوِ صَنَمٍ وَكَوْكَبٍ ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّيَّارَةِ أَوْ الثَّوَابِتِ ، فَإِنَّ السُّجُودَ لِذَلِكَ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ) .

- وجاء في الإقناع : 
( ومما يحرم ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ ولو إلى القبلة ، أو قصده لله تعالى , وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر ) 


- وقال الإمام الذهبي في كتابه معجم الشيوخ (1/73) :
( ألا ترى الصحابة من فرط حبهم للنبي –صلى الله عليه وسلم- قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: لا، فلو أذن لهم لسجدوا سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة كما سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف، وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلا بل يكون عاصيا. فليعرف أن هذا منهي عنه وكذلك الصلاة إلى القبر ) .

- وقال في سير أعلام النبلاء في ترجمة الحسن ابن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 4 / 483) : 
( فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلا مسلما مصليا على نبيه فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب , وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في صلاته , إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه , والمصلي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط , فمن صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشرا , ولكن من زاره صلوات الله عليه وأساء أدب الزيارة أو سجد للقبر أو فعل ما لايشرع فهذا فعل حسنا وسيئا , فيعلم برفق والله غفور رحيم , فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلا وهو محب لله ولرسوله , فحبه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار , فزيارة قبره من أفضل القرب وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء , لئن سلمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه : ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) فشد الرحال إلى نبينا صلى الله عليه وسلم مستلزم لشد الرحل إلى مسجده , وذلك مشروع بلا نزاع , إذ لا وصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده , فليبدأ بتحية المسجد ثم بتحية صاحب المسجد , رزقنا الله وإياكم ذلك آمين)


- وقال الإمام الشوكاني في السيل الجرار :
( اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار... فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر. وأما قوله : "ومنها السجود لغير الله" فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصداً لربوبية من سجد له، فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عز وجل وأثبت معه إلهاً آخر، وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيراً لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيماً له، فليس هذا من الكفر في شيء، وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه جنى ) .
المبحث الثاني : الطواف


ومما يُلحق بالسجود الطواف , فإن الطواف فعل خضوعي يصح أن يكون مظهرًا للعبادة , ولا يكون عبادة وصرفه للمخلوق شركاً إلا إذا قصد الطائف التعبّد , أو اعتقد في المخلوق شيئاً من خصائص الربوبية والإلهية , فمن طاف بقبر نبي أو ولي بقصد ((التعبّد للنبي أو الولي)) أو ((باعتقاد صفة من صفات الربوبية أو الألوهية)) فقد أشرك وكفر كفراً أكبر , ومن طاف بقبر نبي أو ولي وقصد ((التعبد لله تعالى)) دون أن يقصد التعبد للميت ودون أن يعتقد فيه شيئاً من خصائص الربوبية , بل من باب التحية والتكريم , فقد ابتدع ولا يقال أشرك , لأنّ الطواف لم يثبت إلا حول الكعبة , فمن قاس غير الكعبة عليها فليس له دليل على ذلك , وبالتالي فقد ابتدع أمراً ليس له أصل في الشريعة الغراء , وبهذا حكم الأئمة الفقهاء : 


- قال الملا علي القاري الحنفي : 
(( "لا يطوف" أي لا يدور حول البقعة الشريفة , لأن الطواف من مختصات الكعبة المنيفة , فيحرم حول قبور الأنبياء والأولياء , ولا عبرة بما يفعله الجهال ولو كانوا في صورة المشائخ والعلماء )) .


وجاء في "الفتاوى العزيزية" للإمام عبد العزيز الدهلوي الحنفي ما نصه : 
(( السؤال : هل يُكفر من يطوف بالقبور أم لا ؟
الجواب : إن الطواف بقبور الصلحاء والأولياء بدعة بلا شبهة , لأنه لم يكن في الزمان السابق , إلا أنه اختلف فيه هل هو حرام أم مباح؟ فذكر البعض في كتب الفقه أنه مباح , والحق أنه لا يباح ؛ لأنه يلزم فيه مشابهة الكفّار فإنهم يطوفون بالأصنام , وأيضاً إن الطواف لم يعهد في الشرع إلا للكعبة , فتشبيه قبر صالح بها غير مستحسن , لكن القول بكفر من يعمله وإخراجه من دائرة الإسلام شنيع وقبيح جداً , وكذلك التكفير في حق المكفر قبيح جداً , فقط ).


- وقال القاضي ثناء الله الباني بتي الحنفي "ما لا بدّ منه ص100" عن الطواف بالكعبة :
(( ولا يجوز إلى غير الكعبة)).


- قال ابن الحاج المدخل (1/256) : 
(( فترى من لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة ويتمسح به ويقبله ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم يقصدون به التبرك، وذلك كله من البدع ))

- وجاء في كشاف القناع : 
( ( وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَهُ ) أَيْ الْقَبْرِ ( وَتَجْصِيصُهُ وَتَزْوِيقُهُ ، وَتَخْلِيقُهُ وَتَقْبِيلُهُ وَالطَّوَافُ بِهِ وَتَبْخِيرُهُ وَكِتَابَةُ الرِّقَاعِ إلَيْهِ ، وَدَسِّهَا فِي الْأَنْقَابِ وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالتُّرْبَةِ مِنْ الْأَسْقَامِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ )).


وقال النووي في المجموع (8/258) : 
(( ولا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر. قاله أبو عبد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما كان يبعد منه لو حضره في حياته، هذا هو الصواب الذي قاله العلماء واطبقوا عليه، ولا يغتر بكثرة مخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم ))


- وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر (1/120) : 
(( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ : اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا ، وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا ، وَالطَّوَافُ بِهَا ، وَاسْتِلَامُهَا ، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا )) 


- وقال السيوطي في "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" :
(( ومن البدع أيضاً: أكل العوام التمر الصيحاني في الروضة الشريفة بين المنبر والقبر، وطوافهم بالقبر الشريف ، ولا يحل ذلك , وكذلك إلصاقهم بطونهم وظهورهم بجدار القبر، وتقبيلهم إياه بالصندوق الذي عند رأس النبي –صلى الله عليه وسلم- ومسحه باليد , وكل ذلك منهي عنه)) 

وقال ابن جماعة في المناسك على المذاهب الأربعة (ص/106):
(( وليحذر مما يفعله جهلة العوام من الطواف بقبره صلى الله عليه وسلم..فإن ذلك من المنكرات ))

قال الإمام أبو شامة المقدسي في الباعث في إنكار البدع والحوادث (ص/282، 283) :
(( قال ابن الصلاح: ولا يجوز أن يطاف بالقبر، وحكى الإمام الحليمي عن بعض أهل العلم: أنه نهى عن إلصاق البطن والظهر بجدار القبر ومسحه باليد، وذكر أن ذلك من البدع ))
عثمان محمد النابلسي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق