المشركون لم يثبتوا لله تعالى الربوبية:
إن الأدلة المتكاثرة تبيّن أن المشركين لم يكونوا مؤمنين بربوبية الله تعالى كما أنهم غير موحدين في العبادة , ومن الجهل أو التجاهل حصر الربوبية في وجود الله تعالى أو في إثباته خالقاً , بل لو أثبت أحد جميع الأفعال وصفات الكمال لله تعالى ونفى عنه النقائص كلها لكنّه نسب لغيره –جل جلاله- تحريك نسمة هواء أو إزاحة ذرة تراب دون الله لكان مشركاً في الربوبية , ولهذا لمّا نسب المشركون كثيراً من صفات الربوبية وأفعالها لأصنامهم وأوثانهم لم يوكنوا موحّدين في الربوبية , ومما يدل على ذلك :
۞ قوله تعالى حكاية لقول المشركين: ((أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) ص: ٥
قال الطبري في تفسيرها:
( وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا محمد ساحر كذاب : أجعل محمد المعبودات كلها , واحداً يسمع دعاءنا جميعنا!! ويعلم عبادة كل عابد عبده منا!! (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ): أي إن هذا لشيء عجيب!)
وقال الرازي في تفسير هذه الآية :
( فقال –صلى الله عليه وسلم- : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم؟ قالوا نعم ، قال تقولوا لا إله إلا الله ، فقاموا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا وَأَنَّ هذا لَشَيْء عُجَابٌ } أي: بليغ في التعجب , وأقول منشأ التعجب من وجهين : الأول : هو أن القوم ما كانوا من أصحاب النظر والاستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات , فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلق العظيم قاسوا الغائب على الشاهد ، فقالوا : لا بد في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفل كل واحد منهم بحفظ نوع آخر .
الوجه الثاني : أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا جاهلين مبطلين! ، وهذا الإنسان الواحد يكون محقاً صادقاً!!).
فهؤلاء المشركون قد كفروا بصفات ربوبيته تعالى من العلم والسمع والبصر , وهذا الكفر في الربوبية أدّاهم لأن يقصدوا غيره , فجعلوا سمعَه إياهم وإبصاره عبادتهم جميعاً من المستحيلات , فلجؤوا إلى غيره من المعبودات , وذلك لاعتقادهم بحاجة الله تعالى إلى معونة هذه الأصنام لقصور سمعه واطلاعه على أحوال عباده , كحاجة الملوك إلى الأمراء والولاة ليحكموا الولايات المتعددة الداخلة في ملكه , فاعتقدوا في أصنامهم السمع والتدبير الاستقلالي , فتأمّل كيف جرّهم شركهم في الربوبية إلى الإشراك في العبادة !
وكان المشركون يعتقدون بأنّ الله تعالى قد فوّض تدبير العالم إلى الأصنام , لعجزه عن تدبير هذا لعالم الفسيح وعدم إحاطته العلمية والسمعية والبصرة لما فيه , كالملك الذي فوّض إلى كلّ أمير حُكمَ ولاية من ولايات مملكته , فيتصرف هذا الأمير في تلك الولاية تصرفاً مستقلاً عن تصرف الملك ودون علمه وسمعه , إلا أن هذه الولاية داخلة تحت حكم الملك أيضاً , ولذلك كان المشركون يقولون في تلبيتهم : (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ ) , فكما أن الملك الأكبر يملك جميع الولايات ويحكم وُلاتَها , فالله تعالى يملك الأصنام وما تملكه هذه الأصنام , وكما أن الملك الأكبر لا تفي قدرته وعلمه وتدبيره بالإحاطة بجميع ما في مملكته , فاحتاج إلى من يساعده في تدبير مملكته , ممن يقدر على إدارتها والتصرف فيها من الأمراء , فالله تعالى لا تفي قدرته وعلمه وتدبيره بالإحاطة بجميع ما في مملكته , فاحتاج في تدبير مملكته إلى من يقدر على التصرف والتدبير من الأصنام والأنداد .
ولذلك تجد بعض الآيات التي تتحدث عن عبادة المشركين إلها غير الله تعالى , تصف تلك العبادة بعبارة (مع الله) , وذلك لأنهم عبدوا الله وعبدوا معه غيره :
- قال تعالى : ((الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) .الحجر: ٩٦
- قال تعالى : ((لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)) . الإسراء: ٢٢
- قال تعالى : ((وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)) الإسراء: ٣٩
- قال تعالى : ((الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ)) ق: ٢٦
لكنك تجد بعض الآيات التي تتكلّم عن اعتقاد المشركين خصائص الربوبية في أصنامهم , تصف ذلك بعبارة (من دون الله) , وذلك لأنهم اعتقدوا أنّ لهذه الأصنام تصرفاً استقلالياً ذاتياً :
- قال تعالى : ((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)). مريم: ٨١
- قال تعالى : ((وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ)) الجاثية: ١٠
- قال تعالى : ((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)) يس: ٧٤
- قال تعالى : ((فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا)) نوح: ٢٥
فهذه الآيات تبيّن أن سبب شرك المشركين هو أنّهم اعتقدوا في معبوداتهم من الأوثان أنها تدبّر تدبيراً استقلالياً , ولا يصح أن يقال بأن اعتقادهم في تلك المعبودات النفع والضر بإذن الله وبالوساطة هو ما أدخلهم في الشرك , لأن الاعتقاد بنفع مخلوق وضره وتدبيره بإذن الله تعالى وعلمه وإرادته لا يعتبر شركاً , فقد قال الله تعالى عن ملائكته الكرام :
((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا )) . النازعات: ١– ٥ .
فقد وصف الله تعالى الملائكة بالتدبير , فاعتقاد تدبيرهم ما بين السماء والأرض بإذن الله ليس شركاً , وكذلك وَصَفَ سيدنا عيسى –عليه السلام- نفسَه بأنه يخلق ويبرئ ويحيي بإذن الله تعالى , مع أنّ ذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى , فقد أخبر القرآن الكريم عن ذلك :
قال تعالى : ((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ)). آل عمران: ٤٩
فمجرّد الاعتقاد بضر مخلوق ونفعه بإذن الله تعالى في أمر غير مقدور عادة له ليس شركاً , وإنما الشرك هو الاعتقاد بأنّ ينفع ويضر باستقلال عن الله تعالى , وهذا ما وقع فيه عبّاد الأصنام .
۞ قال تعالى : ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)). المائدة: ٣٦
قال الإمام الطبري في تفسيره (10/292) :
( يقول عز ذكره: إن الذين جحدوا ربوبية ربهم , وعبدوا غيره، من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام، وهلكوا على ذلك قبل التوبة , لو أن لهم ملك ما في الأرض كلها وضعفه معه، ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره، وعبادتهم غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله، ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذبهم في حميم يوم القيامة عذابا موجعا لهم ) .
۞ قال تعالى : (( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) آل عمران: ٢٦
قال الطبري في تفسيرها :
( يعني جل ثناؤه: "وتعز من تشاء" ، بإعطائه الملك والسلطان ، وَبسط القدرة له , "وتذلّ من تشاء" بسلبك ملكه ، وتسليط عدوه عليه , "بيدك الخير" ، أي: كل ذلك بيدك وإليك ، لا يقدر على ذلك أحد ، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك ،ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك ، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّاً ) .
۞ قال تعالى : (( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)) فصلت: ١٥
قال ابن كثير في تفسيرها :
(قال الله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبرَوُا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقٍّ} أي: بغوا وعتوا وعصوا، { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أي: آمنوا بشدة تركيبهم وقواهم، واعتقدوا أنهم يمتنعون به من بأس الله! ) .
فقد اعتقدوا بأن قدرتهم تمنعهم من قدرة الله تعالى! وهذا كفر بصفات الربوبية.
۞ قال تعالى : (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ) .
روى الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي , عن أبي بن كعب رضي الله عنه : ( أن المشركين قالوا : يا محمد! انسب لنا ربك!! , فأنزل الله عز و جل { قل هو الله أحد * الله الصمد } ) .
فهل هؤلاء الجهلة بالله كانوا يشهدون لله تعالى بالربوبية الكاملة!
۞ قال تعالى : (( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) فصلت: ٢٢ - ٢٣
قال ابن الجوزي في تفسيرها :
( قوله تعالى : { وما كنتم تَستترون أن يَشهد عليكم سمْعُكم ولا أبصارُكم }
روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال : كنتُ مستتراً بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفرٍ ، قرشيٌّ وخَتْناه ثقفيَّان ، أو ثقفيٌّ وختَنْاه قرشيّان ، كثيرٌ شّحْمُ بُطونهم ، قليلٌ فِقْهُ قُلوبهم ، فتكلَّموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أتُرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ كلامَنا هذا؟ فقال الآخران : إنّا إذا رفعنا أصواتنا سَمِعَه ، وإن لم نَرفع لم يَسمع ، وقال الآخر : إن سمع منه شيئاً سمعه كُلَّه ، فذكرتُ ذلك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تَستترون أن يشهد عليكم سمعكم . . . } إلى قوله : { من الخاسرين }
ومعنى « تستترون» : تَسْتَخْفون « أن يَشهد» أي : من أن يشهد «عليكم سَمْعُكم» لأنكم لا تَقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ، ولا تظُنُّون أنها تَشهد {ولكن ظَنَنْتم أنَّ الله لا يَعلم كثيراً مما تَعملون}
قال ابن عباس : كان الكفار يقولون : إن الله لا يَعلم ما في أنفُسنا ، ولكنه يعلم ما يَظهر ، {وذلكم ظنُّكم} أي : أن الله لا يَعلم ما تعملون ، {أرداكم} أهلككم ) .
فقوم وصل بهم الجهل بربهم إلى هذا الحد , كيف يقال بأنهم موحدون في الربوبية؟!
ولا بد لمن أقر بالربوبية أن ينفي أي فعل أو صفة من صفات الرب عن غيره تعالى , وأن يثبت لله تعالى القدرة على جميع الأفعال دون شك في شيء منها , إلا أن المشركين نسبوا كثيراً من الأفعال إلى أصنامهم , وكذلك لم يثبتوا لله تعالى القدرة على جميع الأفعال , فقد جحدوا كثيراً من أفعاله :
۞ منها البعث والنشور , فيقول قائلهم وهو العاص بن وائل- فيما أخرجه الطبري والبيهقي والحاكم وصححه : أيحيي الله هذا بعدما أرى؟ قال : "نعم , يبعث الله هذا ، ثم يميتك ، ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم". فنزلت الآيات من آخر يس.
۞ قال تعالى : (( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) التغابن: ٧
فأين التوحيد في الأفعال ؟
!فكونهم اعترفوا ببعض الأفعال لا يعني ذلك توحيدهم في بقية الأفعال , بل لو أقروا بجميع أفعال الباري تعالى وقالوا بعجزه عن فعل واحد لأشركوا في ربوبيته .
قال ابن القيم في الداء والدواء (ص174) :
( وقال تعالى: ((فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين)) , أي هلا تردون الروح إلى مكانها إن كنتم غير مربوبين ولا مقهورين ولا مجزيين؟!
وهذه الآية تحتاج الى تفسير , فإنها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب , ولا بد أن يكون الدليل مستلزماً لمدلوله بحيث ينتقل الذهن منه الى المدلول لما بينهما من التلازم , فيكون الملزوم دليلاً على لازمه ولا يجب العكس .
ووجه الاستدلال :
أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربهم , وأنكروا قدرته , وربوبيته , وحكمته , فإما أن يقروا بأن لهم ربا قاهرا متصرفا فيهم يميتهم إذا شاء ويحييهم إذا شاء ويأمرهم وينهاهم ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم , وإما أن لا يقروا برب هذا شأنه , فإن أقروا آمنوا بالبعث والنشور والدين الأمري والجزائي , وإن أنكروا وكفروا به فقد زعموا أنهم غير مربوبين ولا محكوم عليهم ولا لهم رب يتصرف فيهم كما أراد , فهلا يقدرون على دفع الموت عنهم اذا جاءهم وعلى رد الروح الى مستقرها إذا بلغت الحلقوم , وهذا خطاب للحاضرين وهم عند المحتضر وهم يعاينون موته , أي فهلا يردون الروح الى مكانها إن كان لهم قدرة وتصرف وليسوا بمربوبين ولا مقهورين لقاهر قادر , يمضي عليهم أحكامه وينفذ فيهم أوامره , وهذه غاية التعجيز لهم , إذا تبين عجزهم عن رد نفس واحدة إلى مكانها ولو اجتمع على ذلك الثقلان , فيالها من آية دالة على وحدانيته وربوبيته سبحانه وتصرفه في عباده ونفوذ أحكامه فيهم وجريانها عليهم ) .
فيصرح ابن القيّم أنّ من أنكر البعث فقد أنكر ربوبية الله تعالى , وسيأتي مثل هذا في كلام الإمام الطبري .
۞ قال تعالى : ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)) الأنعام: ١٠٠ .
قال الطبري في تفسيرها :
(واختلفوا في قراءة قوله:"وخلقهم" فقرأته قراء الأمصار:(وَخَلَقَهُمْ)، على معنى أن الله خلقهم، منفردًا بخلقه إياهم , وذكر عن يحيى بن يعمر ما: حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر: أنه قال:" شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ".بجزم"اللام" بمعنى أنهم قالوا: إنّ الجنّ شركاء لله في خلقه إيّانا .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك:(وَخَلَقَهُمْ)، لإجماع الحجة من القرأة عليها .وأما قوله:(وخرقوا له بنين وبنات بغير علم)، فإنه يعني بقوله:(خرقوا) اختلقوا. يقال:"اختلق فلان على فلان كذبًا" و"اخترقه"، إذا افتعله وافتراه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم "وخرقوا له بنين وبنات"، يعني أنهم تخرَّصوا . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وخرقوا له بنين وبنات بغير علم"، قال: جعلوا له بنين وبنات بغير علم ) .
فهل هؤلاء الذين افتروا على الله , وتخرصوا عليه , ونسبوا إليه ما يستحيل في حقه من البنين والبنات , قد وحّدوه في ربوبيته؟!
۞ قال تعالى : ((فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)) النحل: ٢٩
قال الطبري في تفسيرها :
( يقول لهؤلاء الظلمة أنفسهم حين يقولون لربهم : ما كنا نعمل من سوء , ادخلوا أبواب جهنم ، يعني: طبقات جهنم ((خَالِدِينَ فِيهَا)) يعني : ماكثين فيها , ((فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)) يقول: فلبئس منزل من تكبر على الله ولم يقر بربوبيته ، ويصدق بوحدانيته , جهنمُ ) .
۞ قال تعالى : ((فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) ص: ٧٣ - ٧٤
قال الطبري في تفسيرها :
((إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ)) يقول: غير إبليس , فإنه لم يسجد.. استكبر عن السجود له تعظما وتكبرا .
( وكان من الكافرين ) يقول : وكان بتعظمه ذلك ، وتكبره على ربه ومعصيته أمره، ممن كفر في علم الله السابق، فجحد ربوبيته , وأنكر ما عليه الإقرار له به من الإذعان بالطاعة ) .
فالتكبر على الله تعالى والتعاظم عليه مناف للتوحيد في الربوبية , فإن التوحيد في الربوبية ليس مجرّد المعرفة بل لا بد من إذعان النفس وقبولها .
۞ قال تعالى : ((وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)). آل عمران: ٨٠
فإن الجاهليين قالوا الملائكة بنات الله , والنصارى قالوا المسيح ابن الله , واليهود قالوا العزير ابن الله , ثم عبدوهم بناءً على هذا المعتقد الفاسد , وهذا شرك في الربوبية أدّى إلى شرك في الألوهية .
۞ قال تعالى : ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)). آل عمران: ٦٤
قال الطبري في تفسيرها :
( وقوله: "ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا" ، يقول: ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه ) .
فإن اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو اعتقادهم في بعض العظمة التي لا تصح إلا للرب , ومن ثم أداء العبادة والسجود لهم , فإن الربوبية هنا تشمل أيضاً العبادة , فنسبة العظمة لبعضهم شرك في الربوبية , والسجود لهم معتقدين فيهم العظمة التي لا تنبغي إلا لله شرك في الألوهية .
۞ قال تعالى : ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)). التوبة: ٣١ .
فقد اتخذوا المسيح والأحبار والرهبان أرباباً من دون الله , فأمّا اتخاذهم المسيح رباً فدعواهم أنه ابن الله ثم عبادتهم إياه من أجل ذلك , وأمّا اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً فهو أنهم كانوا يحلّون الحرام ويحرمون الحلال كما في حديث عدي بن حاتم , وكانوا يتابعونهم على ذلك , وهذا تلبس بصفة الحكم والتشريع وهي من صفات الرب تعالى اعتقدوا أحقية أحبارهم ورهبانهم فيها .
وعَدي بن حاتم –رضي الله عنه- لم يلاحظ المعنى اللغوي لكلمة الرب , بل لاحظ المعنى الاصطلاحي الشامل للرب والإله , فبيّن له النبي –صلى الله عليه وسلم- أن اتخاذهم علمائهم أرباباً هو إقرارهم تلبّس علمائهم بصفة من صفات الربوبية وإطاعتهم في ذلك .
وأختم هذا المبحث بقول النبي – صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري :
( قَالَ اللَّهُ : كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي , وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ , وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا , وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ , لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ , وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ) .
قال الإمام المناوي في شرح الجامع الصغير (4/620) :
( إنما سماه شتما لما فيه من التنقيص , لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح والناكح يستدعي باعثا له على ذلك والله منزه عن كل ذلك قال الطيبي : ومما في التكذيب والشتم من الفظاعة والهول أن المكذب منكر للحشر يجعل الله كاذبا والقرآن المجيد الذي هو مشحون بإثباته مفترى ويجعل حكمة الله في خلقه السماء والأرض عبثا والشاتم يحاول إزالة المخلوقات بأسرها ويزاول تخريب السماوات من أصلها ) .
فهل المعتقد بربوبية الله تعالى ربوبية كاملة لا شائبة فيها يقوم بتكذيب ربّه؟!!
عثمان محمد النابلسي منتدى الأصلين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق