صحابي يطلب من النبي –صلى الله عليه وسلم– أن يشفع له يوم القيامة!! :
وقد روى الترمذي وأحمد عن أنس –رضي الله عنه- قال :
(سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ : أَنَا فَاعِلٌ ..) .
وقد صحح هذا الحديث محدث الوهابية الألباني في صحيح الترغيب والترهيب وغيره
فلم يقل له النبي – صلى الله عليه وسلم -: لماذا تطلب منّي ولا تطلب من الله تعالى وقد قال تعالى : ((وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب))؟! .
ولم يقل له : لقد أشركت كما أشرك الجاهليون , حينما طلبوا من أصنامهم الشفاعة , فقد قال الله تعالى عنهم : ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) , وقال أيضاً عنهم : ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) , فكيف أنت تطلب مني الشفاعة والتقريب! , وتجعلني واسطة بينك وبين الله تعالى؟!!
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا أحَدَ يَشْفَعُ لأحَدٍ , إلا مِن بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ الرَّحْمنُ لِمَنْ يَشاءُ ويَرْضى , فاطلب من الله تعالى أن يشفّعني فيك , ولا تطلب منّي ذلك .
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيها المشرك!! , لقد طلبت منّي أمراً لا يقدر عليه إلا الله تعالى , فلا أملك المغفرة والشفاعة , ألم تسمع قول الله تعالى : ((قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا((؟! فكيف تطلبها منّي؟
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما سمعت قول الله تعالى : ((أفأنت تنقذ من في النار))؟! فكيف تطلب منّي أن أكون شفيعاً؟
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما سمعتني أقول : ((يا فاطمة : أنقذي نفسك من النار))؟ فكيف لي أن أنقذك وأشفع لك؟!
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما قرأت قول الله تعالى عن صاحب يس : ((إن يردْن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون))؟ فكيف تريدني أن أدفع عنك الضر بشفاعتي؟!! أما فهمت أنّ الآية نصٌ في أن من أراده الله بضر فلا شفيع له؟!
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد خرجت من الإسلام ودخلت في الشرك , لأن الله تعالى يقول : ((يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً)) , وأنت جعلتني أملك شيئاً بشفاعتي لك!!
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا هذا! أما علمت أنّ الدنيا والآخرة لله تعالى!! فقد قال تعالى : ((وإن لنا للآخرة والأولى)) , فكان الواجب عليك أن تطلب الشفاعة من الله تعالى لا منّي!! .
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما دريت أنك أشركت لأن الله تعالى يقول لي : ((ليس لك من الأمر شيء))!! فكيف تجعل لي الوساطة بينك وبين الله تعالى؟!!
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيها الرجل! يوم القيمة لا يشفع أحد فيه لأحد , فقد قال تعالى : ((أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)) , فكيف توسطني لأشفع لك؟!
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله تعالى نفى الشفاعة لغيره , فاطلبها منه ولا تطلبها منّي فتكون مشركاً , فقد قال تعالى : ((وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ)) .
ولم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألم تسمعني أقول لأهل بيتي : ((لا أغني عنكم من الله شيئاً))؟ فكيف تريديني أن أغني عنك من الله شيئاً؟!
لم يقل له النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من ذلك , ولا يقول ذلك إلا الخوارج أصحاب النحلة الوهابية , لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له : ((أنا فاعل))!! لأن الشفيع ليش شريكاً لله في المغفرة , بل هو شريك للمستشفع في طلب المغفرة من الغفور الرحيم .فإن قال قائل : إن هذا الطلب للشفاعة في حال حياته ، وهو جائز .
قلت : لا ، بل طلب منه ما ليس في حياته ، وهو الشفاعة يوم القيامة ، وما جاز أن يُطلب منه في الحياة ، جاز أن يُطلب بعد الممات ، ومن ينفي فعليه الدليل , ولم يأتوا إلى الآن بدليل مستقيم .
بل قولهم (إن الطلب نفسه عبادة) ، يقتضي أن لا فرق بين الحياة والممات، لأن العبادة ممنوعة في الحالتين !!
وسيأتي تصريح ابن عبد الوهاب أنّ شرك المشركين كان بإرادتهم الشفاعة وطلبها من الأصنام .
ولمّا قال إخوة يوسف لأبيهم : ((يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)) يوسف: 97.
لم يقل لهم سيدنا يعقوب : لقد أشركتم بجعلكم إياي واسطة بينكم وبين ربكم , فاطلبوا من الله مباشرة دون أن توسطونني وتطلبوا شفاعتي لكم عند الله تعالى , فإن الله تعالى أرحم بكم منّي وهو قريب منكم مجيبٌ دعاءَ من دعاه.
لكنّه قال لهم : ((سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ)) يوسف: 98.
إلا أنّ الوهابية يرون أن مجرد تشفيع أحد وتوسيطه بينك وبين الله تعالى يعتبر شركاً , لأن مشركي العرب لم يعتقدوا في أصنامهم شيئاً من صفات الربوبية , لكنّهم اتخذوا أصنامهم وسائط وشفعاء ولذلك أشركوا , فقد قال محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات :
(وأما الجواب المفصل.. فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه ، منها قولهم : نحن لا نشرك بالله ، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ، ولا ينفع ، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن عبد القادر أو غيره.
ولكن أنا مذنب ، والصالحون لهم جاه عند الله ، وأطلب من الله بهم ، فجاوبه بما تقدم وهو: أن الذين قاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقرّون بما ذكرت ، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا ، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة!) .
فهذا النص يبيّن أنّ إرادة الشفاعة هي موجب شرك المشركين عند الوهابية , لكن المشركين عندما اتخذوا أصنامهم شفعاء لهم , لم يكن مجرد اتخاذ الشفيع هو ما أُدخلهم في الشرك , حتى يقال أن من أراد الشفاعة من الأنبياء والأولياء يعتبر مشركاً , إذ لو كان الأمر كذلك لما ثبتت شفاعة للأنبياء والأولياء والملائكة , ولانتفت الشفاعة من أصلها , لكنّ شرك المشركين كان فيما صاحب الشفاعة من أمور أهمها :
أولاً : أنّ المشركين اعتقدوا الشفاعة في أصنامهم لكونها شريكة لله في استحقاق المعبودية , فكانوا يرون أنّ تلك الأصنام حقيقة بالعبادة كالله تعالى .
إلا أن من اتخذ شفيعاً من الأنبياء والأولياء ممن أذن الله له بالشفاعة لا يرون فيهم استحقاقاً للعبادة , فشتان بين الشفاعة المردودة وبين الشفاعة المقبولة الثابتة .
ثانياً : أنّ المشركين قد صرفوا العبادة لهذه الأصنام حتى تتفضّل عليهم بالشفاعة لهم , فقاموا بعبادتها ليرضوها فتشفع لهم وتهبهم شفاعتها , فكان شركهم في عبادة الأصنام -بالسجود لها والإهلال بها والذبح تقرباً منها..الخ- من أجل الفوز بشفاعتها لا في طلب شفاعتها , فقد قال تعالى : ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) , فقد بيّنت الآية الكريمة أنّهم عبدوا الأصنام وأشركوا بالله تعالى من أجل نيل شفاعتها , لا أنّ نفس اتخاذها شفعاء هو العبادة والشرك .
وكذلك قوله تعالى : ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) فيه بيان للعلة الغائية من عبادتهم وشركهم هذه الأصنام وهو الحصول على شفاعتها , فعبدوها لينالوا شفاعتها , لا أن طلبهم شفاعتها هو العبادة لها , فيعبدون هذه الأصنام لتتكرم عليهم بالشفاعة .
أمّا من يطلب الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم-فلا يعبده لينال شفاعته , وليس في طلبه الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم-شيء من العبادة له .
ثالثاً : ثم إنّ المشركين اتخذوا هذه الأصنام شفعاء دون أن يأذن الله لها , فنسبوا الشفاعة لموجودات لم يأذن الله تعالى لها بالشفاعة , فكيف يجعل المشركون الشفاعة لآلهتهم دون إذن من الله تعالى؟ فقد قال تعالى : ((أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) الزمر: 43 – 44.
فالشفاعة لا تكون إلا من الله تعالى , وهو سبحانه لم يعطها لمعبوداتهم , فكيف افتروا وقالوا بأن أصنامهم شافعة دون أن يأذن الله لها؟!
أّما الذين يطلبون الشفاعة من النبي -ص- فبناء على الأدلة التي تثبت شفاعته .
رابعاً : إن المشركين اعتقدوا أن شفاعة الأصنام واجبة على الله تعالى لا يستطيع ردّها , بحكم شراكة تلك الأصنام لله تعالى في التدبير , وقد أثبتت ذلك في الباب الأول .
والمسلمون لا يعتقدون أن للأنبياء شفاعدة نافذة واجبة على الله تعالى , بل يرون أنها بإذن من الله تعالى لهم .
ثم إن قياس المؤمنين على المشركين في إرادتهم الشفاعة قياس باطل , نعم.. المؤمنون يريدون شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمشركون يريدون شفاعة الأصنام , لكنّ استواء الفعلين في السبب الحامل على الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم , ويدل على هذه القاعدة دلالة قطعية , أنه لو كان الحامل يوجب الاستواء في الحكم للزم إبطال الشريعة وتساوي الأعمال في الأحكام , وذلك لأن الشريعة جاءت لإخراج العبد عن دائرة هواه حتى يكون بالاختيار عبداً لله , فالمعنى الذي يراعيه المكلف ويحمله على الفعل بالإقدام إن كان مصلحة , وبالإحجام إن كان مفسدة , وإن راعته الشريعة تفضلاً من الله , إلا أنها لم تسترسله مع أغراضه وأهوائه , فلم تبح له سلوك كل طريق يوصله إليها , بل أخذت بلجامه إلى الطرق التي عينتها له , ليتبين بذلك كونه عبداً لا يقدر على شيء , حتى إذا أخذ حظّه من العمل أخذه من تحت يد الشريعة , فالأكل مثلاً يحمل عليه دفع ألم الجوع وسد الرمق , وهو يحصل بكل ما يؤكل من طاهر ونجس حلال أوحرام , وقد عيّنت الشريعة طريقه بالاختيار الحلال الطيب الطاهر , ومثله الشرب الذي يحمل عليه دفع ألم العطش خصته أيضاً بالحلال الطيب , فالآكل والشارب من الحلال الطيب لدفع ألم الجوع والعطش مساو للآكل والشارب من الحرام النجس لدفع ألم الجوع والعطش , فلو كان الاستواء في الحامل موجباً الاستواء في الحكم لما اختلف الحكم للغرض المذكور , فكان الأول آتياً بواجب أو مباح والثاني آتياً بحرام , ولكان الواجب استواءهما في الحلية والحرمة .
وكذلك المتزوج والزاني ومالك اليمين , يحملهم دفع دغدغة المني على الوطء , فلو كان الاشتراك في الحامل مفضٍ إلى الاشتراك في الحكم لزم استواؤهم في الحل والحرمة .
وكذلك العابد والمبتدع مشتركان في الحامل , وهو قصد التقرب مع اختلافهما في الحكم
فالحكم بالشرك على المؤمنين لمّا أرادوا الجاه والشفاعة , كالحكم بالشرك على المشركين لماّ "أرادوا الجاه والشفاعة" , قياس باطل يفضي إلى تساوي جميع الأعمال المشتركة في الحامل , وبالتالي إلى إبطال الشريعة.
فإن قال وهابي : نحن لا نكفّرهم لمجرد اعتقاد الشفاعة والتوسط في الأنبياء والعلماء , وإنما لأنهم طلبوا منهم الشفاعة , وهذا الطلب هو عبادة لهم فبذلك أشركوا .
قلت : يظهر من كلماتكم تكفير من يتخذ الوسيط والشفيع مطلقاً , وهذا واضح من كلام ابن عبد الوهاب السابق حيث قال : ( ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله ، وأطلب من الله بهم ، فجاوبه بما تقدم وهو: أن الذين قاتلهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقرون بما ذكرت، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة ) .
وهذا لا ينفي أنّكم تكفرون من طلب الشفاعة من الشفيع بحجّة أنّ ذلك عبادة , فقد قال ابن عبد الوهاب في كشف الشبهات :
( فإذا كانت الشفاعة كلها لله , ولا تكون إلا من بعد إذنه ، ولا يشفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد ، تبين لك أن الشفاعة كلها لله فاطلبها منه ، فأقول : اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في ، وأمثال هذا.
فإن قال: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله؟
فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ، ونهاك عن هذا فقال : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ سورة الجن، الآية:18] فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك ، فأطعه في قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ) .
فهرب من حكمه بالشرك على اعتقاد التشفع والتوسط , إلى الحكم بالشرك على طلب الشفاعة , لأنّ الشفاعة من العقائد المتفق عليها بين المسلمين !! فكيف يكون اعتقاد الشفاعة والوساطة شركاً؟!
لكنّه في النص السابق , يرى أنّ مجرد طلب الشفاعة من الشفيع عبادةٌ وشرك , ويستشهد بقوله تعالى : {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}!!
فالوهابية يرون أن الواجب هو طلب الشفاعة من الله تعالى , وأما طلبها من غيره سبحانه فهي الشرك بعينه , فجاء في "التبيان شرح نواقض الإسلام" ص24 :
( والمشركون في قديم الدهر وحديثه , إنما وقعوا في الشرك الأكبر لتعلقهم بأذيال الشفاعة؛ كما ذكر الله ذلك في كتابه , والشفاعة التي يظنها المشركون أنها لهم هي منتفية يوم القيامة , كما نفاها القرآن وأبطلها في عدّة مواضع :
قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) – البقرة254) .
وقال تعالى : ((وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))- الأنعام51).
فهذه الشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله , لأن الله –جل شأنه وعز سلطانه- أثبت الشفاعة في كتابه في عدة مواضع :
كما قال تعالى : ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ))-البقرة255)
وقال تعالى : ((وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))-الأنبياء28)
وقال تعالى : ((قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ))-الزمر44)
وقال تعالى : ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى))-النجم26).
فعلى هذا؛ فالشفاعة شفاعتان :
أ- شفاعة منفية : وهي التي تطلب من غير الله .
ب- شفاعة مثبتة : وهي التي تطلب من الله) .
فهم يرون أن طلب الشفاعة من غير الله تعالى شرك , وهذه الشفاعة منفية , وجاء مثل ذلك في " إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد" لصالح الفوزان فقال (1/ 238) :
( والشفاعة في كتاب الله جاءت على قسمين: قسم منفي. وقسم مثبت.
فالقسم المنفي: هو الشفاعة التي تطلب من غير الله.
هذه الشفاعة منفية، لأن الشفاعة ملك لله، لا تطلب إلاّ منه ...
والشفاعة المثبتة: هي التي توفر فيها الشرطان:
الشرط الأول: أن تُطلب من الله.
الشرط الثاني: أن تكون فيمن تقبل فيه الشفاعة، وهو المؤمن الموحِّد الذي عنده شيء من المعاصي دون الشرك، فهذا تُقبل فيه الشفاعة بإذن الله) .
فهو يقررّ أن الشفاعة التي تطلب من غير الله تعالى منفية , وذلك لأن الشفاعة ملك لله فلا تطلب إلاّ منه!! , لكنّه نقض هذه القاعدة في الصفحة التي تليها حيث قال :
( الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وهي التي تكون من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الموقف، إذا طال الوقوف على أهل الموقف التمسوا من يشفع لهم إلى الله في القضاء بينهم، وإراحتهم من الموقف، فيأتون إلى آدم عليه السلام ثمّ إلى الأنبياء نبيًّا نبيًّا كلهم يعتذرون، حتى ينتهوا إلى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول: "أنا لها، أنا لها"..)
فقد اعترف بأن أهل الموقف يلتمسون من يشفع لهم إلى الله تعالى!! ويطلبون الشفاعة من الأنبياء نبياً نبياً! فهل أصبح أهل الموقف مشركين بذلك؟! حيث طلبوا الشفاعة -وهي: "ملك لله، لا تطلب إلاّ منه" كما قال الفوزان- من غير الله تعالى!
وهل أشرك سيدنا أنس -كما مر- عندما طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع له يوم القيامة؟!
وهل أقرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشرك عندما قال له : (أنا فاعل) .
فقولهم بأن طلب الشفاعة من غير الله تعالى شرك قول باطل , لأن الشفاعة في مقدور الشفيع لا خارجة عن قدرته , فقد بينّا معنى الشفاعة وأنّها طلب الشفيع من المشفوع عنده أن يقضي حاجة المستشفع , وهذا الدعاء هو مقدور للشفيع , ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعاد حي كحاله في الدنيا ، هو وجميع البشر ، فلا مانع في ذلك اليوم أن يتسبّب ويُخرج و ينقذ من الشدة ، لأنه حي حاضر , وحينئذ يكون اعتراض الوهابية على البوصيري في بردته مردودٌ حتى على أصولهم .
فحُكْمُ الوهابية بالشرك على من طلب الشفاعة من الشفيع –وهي أمر مقدور له- يتناقض مع ما قرروه من أنّ الشرك يكون في طلب ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى!! .
وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ المؤمنين يوم القيامة يطلبون من يتوسط لهم عند الله تعالى , فقال :
(يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ , فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا , فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ , لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا..) .
ثم يأتون سيدنا نوحاً فسيدنا إبراهيم فسيدنا موسى فسيدنا عيسى , ثم يأتون سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم-فيشفع لهم , فيقول : (فَإِذَا رَأَيْتُهُ –أي الله تعالى- وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي , ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ , وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ , قَالَ فَأَرْفَعُ رأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ , قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ, فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّة) . متفق عليه .
ففي هذا الحديث أراد المؤمنون أن يستشفعوا إلى ربهم تبارك وتعالى , فيجعلوا أحد الأنبياء وسيطاً وشفيعاً لهم إلى الله تعالى ليرتاحوا من مكانهم , فطلبوا الشفاعة من سيدنا آدم ثم من سيدنا نوح فسيدنا إبراهيم فسيدنا موسى فسيدنا عيسى –عليهم السلام- , ولم يقل لهم أحد الأنبياء لقد أشركتم بطلبكم الشفاعة منّا , بل كل واحد من الأنبياء وجّههم لطلب الشفاعة من غيره ممن هو أقرب عند الله تعالى , ثم طلبوا الشفاعة من سيّد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم-, فلم يقل لهم : أيها المشركون.. إن الله تعالى أعطاني الشفاعة ونهاكم عن هذا فقال : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }!!! , كما قال ابن عبد الوهاب!!
ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد أشركتم بدعائكم إياي أن أشفع لكم , وجعلكم إياي واسطة بينكم وبين ربكم , وطلبُكم هذا مني مستلزم لحركة قلوبكم نحوي بالحب والخوف والرجاء , فقد عبدتموني من دون الله , فكان حالكم كحال المشركين الأولين , الذين قالوا : ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) , والذين قال الله تعالى فيهم : ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) , فدعاؤكم وطلبكم مني أن أشفع لكم , عبادةٌ لي من أجل أن تنالوا شفاعتي , فوقعتم بما وقع فيه أهل الجاهلية الأولى!! .
ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: لماذا تجعلونني كالحاجب الذي يكون بين الملك وبين رعيته , فأرفع إلى الله حوائجكم , فأنتم تسألونني وأنا أسأل الله!! , كما أنّ الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم , معتقدين أن طلب الناس من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك , لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب , فقد أشركتم بجعلكم إياي شفيعاً ووسيطاً , ألم تقرؤوا قول الله تعالى : ((فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) , ألم تقرؤوا قول الله تعالى : ((وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب)) ؟!
ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن دعاءكم إياي أن أشفع لكم شرك وعبادة لي , فإن الله تعالى سميع بصير لكم , وهو أرحم بكم منّي , وهو اللطيف بعباده , فاطلبوا منه مباشرة دون أن تدعوني لأشفع لكم وأسأل لكم الراحة من هول الموقف , وربكم تعالى هو أرحم الراحمين وأجود من سئل وأرحم من أعطى , وهو أقرب إليكم من حبل الوريد , فاطلبوا منه مباشرة ولا تجعلونني واسطة أطلب لكم! .
ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس بمقدوري أن أريحكم من مكانكم ومن هول الموقف أو أن أدخل أحداً الجنّة , بل هو بأمر الله تعالى فاسألوه وحده ولا تسألوني , فاستغاثتكم بي لأكون شفيعاً ووسيطاً لكم شرك , فأنتم قد اعتقدتم في نبيّكم ملكية الوجود والتصرف مع الله تعالى , فلم تجردوا قلوبكم عن الوسائط والشفعاء , ولم تفردوا ربكم بالطلب والدعاء , بل طلبتم من نبيّكم ودعوتموه أن يسأل لكم ربّكم , بدلاً من أن تجردوا قلوبكم لربكم وتفردوه بالطلب والدعاء , فيجب عليكم أن تحققوا التفريد والتجريد وإلا كنتم كعبّاد الأصنام!! .
ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن دعاءكم إياي أن أشفع لكم وأريحكم من مكانكم لن ينفع , ولا ينفع الإنسان إلا ما عمل هو , ومنزلة الأنبياء لهم وليست لكم , ثم إن الدعاء والاستغاثة عبادة , فأنتم قد صرفتم العبادة لي من دون الله!!! .
ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيها المشركون.. لولا ما قام بقلوبكم في نبيّكم من اعتقاد جلب النفع ودفع الضرّ لما انجذبت قلوبكم ومالت إلى ما سوى ربّكم وجعلتموه وسيطاً لكم وشفيعاً , ولولا أنّ قلوبكم تألهني وتميل إليّ لما دعوتموني واستغثتم بي لأشفع لكم , ولولا حبّكم إياي واعتقادكم أنّي أقضي حاجاتكم وخوفكم أن لا تحصلوا عليها ورجائكم إياي , لما تركتم التوجه إلى خالقكم مباشرة وجعلتموني واسطة لكم!! .
لم يقل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من ذلك , بل لبّى طلبهم ودعاءهم إياه أن يشفع لهم , ثم سأل الله تعالى حاجة أولائك المؤمنين وأراحهم من مكانهم .
فإن قال وهابي : إن هؤلاء المؤمنين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة في الآخرة وليس في الدنيا , فطلب الشفاعة في الآخرة ليس شركاً بخلاف طلبها في الدنيا .
قلت : إن كلام ابن عبد الوهاب يدلّ على أنّ طلب الشفاعة من الشفيع شرك مطلقاً , لأن الشفاعة كلها لله , ولا تكون إلا من بعد إذنه ، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يأذن الله فيه , ويرى أنّ الواجب هو أن تطلب الشفاعة من الله تعالى وليس من الشفيع , وما كان شركاً في الدنيا فهو شرك في الآخرة , وما لم يكن شركاً في الدنيا فليس بشرك في الآخرة .
مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم- حي في قبره يصلي , وتعرض عليه أعمال أمته , وقد ثبت أن أحد الصحابة طلب الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم-في الدنيا , فقد روى الترمذي عن أنس –- قال : (سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة , فقال : " أنا فاعل "..) .
فقد طلب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الدنيا لا في الآخرة , وهذه الشفاعة رحمة من الله تعالى وكرامة للشفيع , وليس جهلاً ولا عجزاً منه تبارك وتعالى .
فإن قال الوهابي : إنّ طلب هذا الصحابي من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع له إنما كان في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- , فكيف تطلبون الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد انتقاله إلى الآخرة؟! فإن الشرك هو أن تطلب الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته , فإن المصحح لطلب الشفاعة منهم في الدنيا هو إدراكهم طلب المستشفع , وقدرتهم على التشفع والدعاء له , أما الميت فلا إدراك له ولا قدرة على الطلب , فيكون طلب الشفاعة منهم بعد وفاتهم شركاً بالله تعالى .
قلت: يدل كلام إمامكم النجدي أن مجرد طلب الشفاعة من الشفيع يعتبر شركاً كما سبق , وطلب الشفاعة من الميّت لو كان معناه عبادته ، لكان الطلب من الشفيع الحي عبادة له أيضاً.
ثمّ إنّ انتقال الأنبياء والأولياء إلى الدار الآخرة لا يعني أنّهم لا يدركون ولا يستطيعون الدعاء , وسيتبين فيما يلي إدراك الأموات وسماعهم خطاب الأحياء , وقدرتهم على القيام ببعض الأعمال الصالحة , ليتضح أنّه لا وجه للتفريق بين طلب الشفاعة من الشفيع حال حياته أو بعد وفاته , ولو سلمنا أنهم جمادات لا يسمعون ولا يدركون لما كان الطلب منهم شركاً كما سبق بيانه .
وقد ورد في حديث صحيح أنّ أحد الصحابة طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لهم بالسقيا , فقال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (2/495) :
( وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح مِنْ رِوَايَة أَبِي صَالِح السَّمَّانِ عَنْ مَالِك الدَّارِيّ - وَكَانَ خَازِن عُمَر - قَالَ "أَصَابَ النَّاس قَحْط فِي زَمَن عُمَر فَجَاءَ رَجُل إِلَى قَبْر النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه اِسْتَسْقِ لِأُمَّتِك فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا ، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَام فَقِيلَ لَهُ : اِئْتِ عُمَر " الْحَدِيث . وَقَدْ رَوَى سَيْف فِي الْفُتُوح أَنَّ الَّذِي رَأَى الْمَنَام الْمَذْكُور هُوَ بِلَال بْن الْحَارِث الْمُزَنِيُّ أَحَد الصَّحَابَة ) .
ولا تغتر بما طنطن به بعض الوهابية ودندن حول هذا الحديث , فليس بعد مقال المتقدمين مقال , فقد تعدّى بعض المتعالمين في هذا العصر على أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- , وخالفوا أحكام الأئمة المتقدمين والفحول السالفين , متوهمين أنهم بلغوا رتبة لم يبلغها غيرهم , وأنهم فاقوا الأئمة الحفاظ وأتوا بما لم تستطعه الأوائل , فإلى الله المشتكى .
وقد أورد هذا الحيث مجموعة من الأئمة دون أن ينبهوا على أنّ فعل ذلك الرجل شرك , وكيف لهم أن يوردوا في مصنفاتهم شركاً ثم يسكتوا عليه؟
عثمان محمد النابلسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق