أذكر أنني صليت صلاة العصر في أحد المساجد , فوقف شاب بعد الصلاة وأخذ يتكلّم عن الشرك وعقوبته , وأنّ الله تعالى لا يغفر أن يشرك به , وساق مجموعة من النصوص تدل على ذلك كقوله تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء/48) , وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)) (الزمر/65)
ثم قال بأنه سيتحدّث عن أحد مظاهر الشرك القولية التي وقع فيها بعض المسلمين , وهو الحلف بغير الله تعالى , وذكر قول النبي –ص- : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) , ليثبت أنّ الحلف بغير الله تعالى شرك , فكان المفهوم من كلامه أنّ المقصود هو الشرك الأكبر ..
فقال إمام المسجد –وكان حينها يعد رسالة الدكتوراه في العقيدة الإسلامية- أن هذا شرك أصغر لا كما يتوهم الشاب , فما كان من هذا الشاب إلا أن قاطع الإمامَ قائلاً : أنّ النبي –ص- لم يقل ((فقد أشرك شركاً أصغر)) , ولو كان المقصود هنا الشرك الأصغر لبيّن ذلك النبي–ص- كما في حديث الرياء ولما كتمه , والحلف عبادة , فمن حلف بغير الله تعالى فقد عبده غيره , فأخذ الإمام مكبّر الصوت وأمر المصلين بعدم الاستماع لهذا الشاب , وامتلأ المسجد باللغط والكلام .
مثل هذه الحادثة تتكرر كثيرًاً في المساجد والمجالس العامة , فترى غوغاء الوهابية يحملون الشرك والكفر هنا على الشرك الأكبر المخرج من الملّة! لا يبالون بفهم الأئمة والعلماء للنصوص الشرعية , فيحكمون على من فعل بعض المكروهات والمحرمات بالشرك والخروج من ربقة الإسلام!
فأقول : للحلف بغير الله تعالى أربع حالات :
الحالة الأولى : الحلف بغير الله تعالى تعظيماً له وتاليهًا
وقد أجمع العلماء على أن هذا الحلف كفر وشرك مخرج من الملة , وعليه تتنزل الأحاديث الدالة على كفر وشرك من حلف بغير الله تعالى , قال الإمام ابن حجر العسقلاني في الفتح (11/540):
( فَإِنْ اِعْتَقَدَ فِي الْمَحْلُوف فِيهِ مِنْ التَّعْظِيم مَا يَعْتَقِدهُ فِي اللَّه حَرُمَ الْحَلِف بِهِ وَكَانَ بِذَلِكَ الِاعْتِقَاد كَافِرًا ، وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُور). أي حديث الترمذي : (من حلف بغير الله فقد كفر) .
وجاء في طرح التثريب :
( وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ بِالْمَخْلُوقِ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى كَفَرَ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ }) .
وجاء في نيل الأوطار:
( فإن اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافراً ) .
الحالة الثانية : الحلف بالأوثان وبغير ملة الإسلام..
وكذلك اتفقوا على حرمة الحلف بالأوثان وبغير ملة الإسلام , لأنها قرينة على تعظيم ما أبطله الإسلام ونسخه..
فقد روى النسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه حلف باللات والعزى فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وانفث عن يسارك ثلاثاً وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد))
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)) .
والأمر بالتشهد في هذين الحديثين لا لكون الحلف الوارد مُخرجاً من الملة كما يتوهم بعض الجهلة , لكن لمّا كان القوم حديثي عهد بجاهلية بعدما غرس الإسلام شجرة التوحيد في قلوبهم , لم تزل تلك الألفاظ جارية على ألسنتهم دون قصدٍ لتعظيم الأوثان وتأليهها , فكان النطق بكلمة الشهادة يردّ قلبه منْ السَّهْو إِلَى الذِّكْر , وَلِسَانه إِلَى الْحَقّ , وَيَنْفِي عَنْهُ مَا جَرَى بِهِ مِنْ اللَّغْو , كما قال ابن العربي . الفتح .
وروى البخاري عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ) .
الحالة الثالثة : الحلف بغير الله دون تعظيمه واعتقاد ألوهيته
ففيه خلاف كما يلي:
أ- الجواز :
فذهب بعضهم إلى جواز الحلف بغير الله تعالى , وحملوا النهي الوارد في الأحاديث على أيمان الجاهلية التي يعظمون بها غير الله تعالى من اللات والعزى والآباء , وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْد وَطَائِفَة , واستدلوا على الجواز بما يلي :
أولاً : مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآن الكريم مِنْ الْقَسَم بالمخلوقات , كقوله تعالى : ((وَالفَجْرِ * ولَيال عَشْر * والشَّفْعِ وَالوَتْرِ * وَالليلِ إذَا يَسْرِ )) .
وأجيب عن ذلك بما يلي (1) :
1- أن الإقسام هنا على حذف المضاف , فيكون المعنى : ورب الفجر ..الخ .
ورُد ذلك بأنه لو كانت الغاية من هذه الأقسام بالمخلوقات المتنوعة هو تعظيم الرب سبحانه وتعالى , لما كان للقسم بهذه المخلوقات فائدة , إذ إن العظمة لله تعالى , وعظمة هذه الأشياء من عظمته سبحانه .
2- أنّ العرب كانت تعظم هذه الاَشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون .
ورُدّ ذلك أيضاً بأن لو كان الحلف منهياً عنه في الشرع , لما جارى القرآن العرب في عاداتهم التي أبطلها الشرع , فقد نزل القرآن ليهديهم لا ليجاريهم .
3- أن َالْخَالِق يُقْسِم بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَالْمَخْلُوق لَا يُقْسِم إِلَّا بِالْخَالِقِ , قاله الشعبي كما في الفتح .
ورُد بأن الله تعالى لا يشرك مع نفسه غيره , فما كان شركاً من المخلوق فإن القاعدة لا تقبل التخصيص .
وأجيب عن ذلك بأن أقسام القرآن ليست لتعظيم غير الله تعالى كتعظيمه , فلا يَرِدُ هذا الاحتمال.
4- أن هذه الأقسام القرآنية جاءت لِيُعْجِب بِهَا الْمَخْلُوقِينَ وَيُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ لِعِظَمِ شَأْنهَا عِنْدهمْ وَلِدَلَالَتِهَا عَلَى خَالِقهَا , قاله مُطَرِّف عَنْ عَبْد اللَّه كما في الفتح عن الطبري .
ثانياً : مَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَة مِنْ إِيجَابهمْ عَلَى الْحَالِف بِالْعِتْقِ وَالْهَدْي وَالصَّدَقَة مَا أَوْجَبُوهُ مَعَ كَوْنهمْ رَأَوْا النَّهْي الْمَذْكُور ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ لَيْسَ عَلَى عُمُومه ؛ إِذْ لَوْ كَانَ عَامًّا لَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا , نقله ابن المنذر عن أَبُي عُبَيْد وَطَائِفَة مِمَّنْ لَقِيهم .وَتَعَقَّبَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ بِأَنَّ ذِكْر هَذِهِ الْأَشْيَاء ، وَإِنْ كَانَتْ بِصُورَةِ الْحَلِف فَلَيْسَتْ يَمِينًا فِي الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا خَرَجَ عَنْ الِاتِّسَاع ، وَلَا يَمِين فِي الْحَقِيقَة إِلَّا بِاَللَّه .(فتح الباري) .
ثالثاً : ما رواه مسلم وغيره في قصة الرجل الذي جاء يسأل عن الإسلام وفيه :
( فأدبر الرجل وهو يقول : لا أزيد على هذا ولا أنقص منه , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" أَوْ "دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" ) .
وأجيب (2) :
1- قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : هَذِهِ اللَّفْظَة غَيْر مَحْفُوظَة وَقَدْ جَاءَتْ عَنْ رَاوِيهَا وَهُوَ إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر بِلَفْظِ " أَفْلَحَ وَاَللَّهِ إِنْ صَدَقَ " قَالَ : وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَة مَنْ رَوَى عَنْهُ بِلَفْظِ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ تَرُدُّهَا الْآثَارُ الصِّحَاح . وَلَمْ تَقَع فِي رِوَايَة مَالِك أَصْلًا . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ بَعْض الرُّوَاة عَنْهُ صَحَّفَ قَوْله " وَأَبِيهِ " مِنْ قَوْله " وَاَللَّهِ " وَهُوَ مُحْتَمَل . الفتح .
ورد بأنّ مِثْل ذَلِكَ لَا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ ، وَقَدْ ثَبَتَ مِثْل ذَلِكَ مِنْ لَفْظ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فِي قِصَّة السَّارِق الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ اِبْنَتِهِ فَقَالَ فِي حَقِّهِ " وَأَبِيك مَا لَيْلُك بِلَيْلِ سَارِقٍ " أَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره قَالَ السُّهَيْلِيُّ : وَقَدْ وَرَدَ نَحْوه فِي حَدِيث آخَر مَرْفُوع قَالَ لِلَّذِي سَأَلَ أَيُّ الصَّدَقَة أَفْضَل فَقَالَ " وَأَبِيك لَتُنَبَّأَنَّ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم . الفتح .
2- أَنَّ الحلف كَانَ يَقَع فِي كَلَامهمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا لِلتَّعْظِيمِ وَالْآخَر لِلتَّأْكِيدِ ، وَالنَّهْي إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ الْأَوَّل فَمَنْ أَمْثِلَة مَا وَقَعَ فِي كَلَامهمْ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلتَّعْظِيمِ قَوْل الشَّاعِر " لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ إِنِّي أُحِبُّهَا " وَقَوْل الْآخَر . فَإِنْ تَكُ لَيْلَى اِسْتَوْدَعَتْنِي أَمَانَةً فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أُذِيعُهَا فَلَا يُظَنُّ أَنَّ قَائِل ذَلِكَ قَصَدَ تَعْظِيمَ وَالِد أَعْدَائِهَا كَمَا لَمْ يَقْصِد الْآخَر تَعْظِيم وَالِد مَنْ وَشَى بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْد بِذَلِكَ تَأْكِيد الْكَلَام لَا التَّعْظِيم . وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ : هَذَا اللَّفْظ مِنْ جُمْلَة مَا يُزَاد فِي الْكَلَام لِمُجَرَّدِ التَّقْرِير وَالتَّأْكِيد وَلَا يُرَاد بِهِ الْقَسَم ، كَمَا تُزَاد صِيغَة النِّدَاء لِمُجَرَّدِ الِاخْتِصَاص دُون الْقَصْد إِلَى النِّدَاء .
وَقَدْ تُعُقِّبَ الْجَوَاب بِأَنَّ ظَاهِر سِيَاق حَدِيث عُمَر يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفهُ لِأَنَّ فِي بَعْض طُرُقه أَنَّهُ كَانَ يَقُول لَا وَأَبِي لَا وَأَبِي فَقِيلَ لَهُ لَا تَحْلِفُوا ، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَتَى بِصِيغَةِ الْحَلِف مَا صَادَفَ النَّهْي مَحَلًّا .
3- إِنَّ هَذَا كَانَ جَائِزًا ثُمَّ نُسِخَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ : أَكْثَر الشُّرَّاح عَلَيْهِ ، حَتَّى قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْلِف بِأَبِيهِ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ . قَالَ : وَتَرْجَمَة أَبِي دَاوُدَ تَدُلّ عَلَى ذَلِكَ ، يَعْنِي قَوْله " بَاب الْحَلِف بِالْآبَاءِ " ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيث الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ "
وفي الجواب عن هذا قَالَ السُّهَيْلِيُّ : وَلَا يَصِحّ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَحْلِف بِغَيْرِ اللَّهِ , وَلَا يُقْسِمُ بِكَافِرٍ ، تَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَبَعِيدٌ مِنْ شِيمَتِهِ .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : دَعْوَى النَّسْخ ضَعِيفَة لِإِمْكَانِ الْجَمْع , وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّارِيخ .
4- أَنَّ فِي الْجَوَاب حَذْفًا تَقْدِيره أَفْلَحَ وَرَبِّ أَبِيهِ , قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وأجيب بأنه خلاف للظاهر .
5- أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِالشَّارِعِ دُون غَيْره مِنْ أُمَّته .
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخَصَائِص لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ .
6- ما َحَكَى السُّهَيْلِيّ عَنْ بَعْض مَشَايِخه أَنَّهُ قَالَ : هُوَ تَصْحِيف ، وَإِنَّمَا كَانَ وَاَللَّه ، فَقُصِّرَتْ اللَّامَانِ .
وَاسْتَنْكَرَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا وَقَالَ : إِنَّهُ يَجْزِم الثِّقَة بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَة .
7- ادَّعَى الْقَرَافِيّ أَنَّ الرِّوَايَة بِلَفْظِ : وَأَبِيهِ لَمْ تَصِحّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّأ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِ الْجَوَاب فَعَدَلَ إِلَى رَدّ الْخَبَر.
وردّه ابن حجر بقوله : وَهُوَ صَحِيح لَا مِرْيَة فِيهِ .
8- أَنَّ هَذَا اللَّفْظ كَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَقْصِدُوا بِهِ الْقَسَم ، وَالنَّهْي إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقّ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَة الْحَلِف ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبَيْهَقِيُّ ، وَقَالَ النَّوَوِيّ : إِنَّهُ الْجَوَاب الْمَرَضِيّ .
وأجيب بأن هذا لو سُلّم فهو ذريعة للحلف بغير الله , والشرع قد سدّ ذرائع المحرمات , فلا ينهى الشرع عن شيء ويفتح ذرائعه .
وأيضاً لو سلم أنّه كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا القسم , فلا دلالة على حرمة الحلف بغير الآباء المشركين , لأن آباءهم كانوا مشركين والمشرك لا كرامة له حتى يحلف به , فيكون التحريم مقتصراً على الحلف بآبائهم المشركين , ومما يدل على ذلك أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل آباءَهم قرناء مع الطواغيت مرّة فقال : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت » رواه النسائي ، وبالأنداد ـ أي الأصنام ـ ثانية مرة أخرى فقال: « لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد » رواه أبو داود والنسائي .
رابعاً : ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ: أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ , أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) .
خامساً : قال ابن حجر في الفتح : ( حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى نَجْدَة : وَكَتَبَتْ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْم الْيَتِيمِ ؟ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُت لِحْيَته وَإِنَّهُ لَضَعِيف الْأَخْذ لِنَفْسِهِ ضَعِيف الْعَطَاء ، فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا أَخَذَ النَّاس فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْم " وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَقَدْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُهُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ )
سادساً : ما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ التَّمِيمِيِّ: عَنْ عَمِّه : ( أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ أَهْلُهُ: إِنَّهُ قَدْ حُدِّثنا أَنَّ مَلِكَكُمْ هَذَا قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ فَهَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تَرْقِيهِ؟ فَرَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فبرأ فأعطوني مئة شَاةٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "خُذْهَا فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرْقُيَةِ بَاطِلٍ فقد أكلت بِرُقْيَةِ حَقٍّ" ) .
سابعاً : ما رواه أحمد في مسنده وغيره عن لَيْلَى امْرَأَةَ بَشِيرٍ تَقُولُ :
( إِنَّ بَشِيرًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا أُكَلِّمُ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَحَدًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا فِي أَيَّامٍ هُوَ أَحَدُهَا أَوْ فِي شَهْرٍ وَأَمَّا أَنْ لَا تُكَلِّمَ أَحَدًا فَلَعَمْرِي لَأَنْ تَكَلَّمَ بِمَعْرُوفٍ وَتَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَسْكُتَ ) .
ثامناً : ما في موطأ مالك وغيره عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ :
( أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ قَدْ ظَلَمَهُ , فَكَانَ يُصَلِّ مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : وَأَبِيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ ) .
تاسعاً : ما رواه ابن حبان وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
( خرجتُ يَوْمَ الخندق أقفُوا أَثَرَ النَّاسِ فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ مِنْ وَرَائِي فالتفتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ فمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ قَدْ خرجتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ قالت: فمر وهو يرتجز ويقول:
لبِّثْ قَلِيلًا يُدرك الْهَيْجَا حَمَلْ **** مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ
قَالَتْ: فقمتُ فاقتحمتُ حَدِيقَةً فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ: وَيْحَكِ! مَا جَاءَ بِكِ؟! لَعَمْرِي وَاللَّهِ إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ مَا يُؤمنك أَنْ يَكُونَ تحوُّزٌ أَوْ بلاءٌ؟!.. ).
عاشراً : ما رواه مسلم عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ :
( كُنْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدَيْنِ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا بِالسِّوَاكِ تَسْتَنُّ قَالَ فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ قَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ أَيْ أُمَّتَاهُ أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ وَمَا يَقُولُ قُلْتُ يَقُولُ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَعَمْرِي مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَمَا اعْتَمَرَ مِنْ عُمْرَةٍ إِلَّا وَإِنَّهُ لَمَعَهُ قَالَ وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ فَمَا قَالَ لَا وَلَا نَعَمْ سَكَتَ ) .
الحادي عشر : ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ , وفي الحديث :
(وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا قَالَ يَعْنِي حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا قَالَتْ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ ) .
ب- الحرمة:
المعتمد من أحد قولي الحنفية أنه مكروه تحريماً , وهناك قَوْلَانِ عِنْد الْمَالِكِيَّة ، كَذَا قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد ، وَالْمَشْهُور عِنْدهمْ الْكَرَاهَة ، وَالْخِلَاف أَيْضًا عِنْد الْحَنَابِلَة لَكِنْ الْمَشْهُور عِنْدهمْ التَّحْرِيم(3) .
واستدلوا على الحرمة بما يلي :
أولاً : أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أنّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّه فَقَدْ كَفَرَ ، أَوْ أَشْرَكَ ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم .
وَالتَّعْبِير بِقَوْلِهِ "فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ" لِلْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْر وَالتَّغْلِيظ فِي ذَلِكَ .
وأجيب بأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته , فيكون من حلف بغير الله تعالى مشركاً , وهذا لا يحمل إلا على من اعْتَقَدَ فِي الْمَحْلُوف فِيهِ مِنْ التَّعْظِيم مَا يَعْتَقِدهُ فِي اللَّه , كما قال ابن حجر والشوكاني .
ثانياً : روى الشيخان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ) .
ثالثاً : وما رواه أبو داود عن بريدة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالأمانة فليس منا ) .
رابعاً : أخرج أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) .
خامساً : روى النسائي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ ) .
وأجاب المجيزون للحلف بغير الله تعالى عن جميع أدلة المحرّمين , بأنّ النهي فيها لا يخرج عن أمرين:
الأول : أنّ المنهي عنه هو أيمان الجاهلية التي يعظمون بها غير الله تعالى من اللات والعزى , أو الحلف بالآباء المشركين كما سبق بيانه .
الثاني : أن نهي النبي –صلى الله عليه وسلم- في بعض هذه الأدلة إنما هو عن اليمين الذي يُفصل به في القضاء والخصومات والدعاوي ، والذي يترتب عليه الكفارة في حالة الحنث ، فإن هذا النوع من القسم لا ينعقد إلا بالله .
وأجاب القائلون بالكراهة بأن النهي للكراهة لا للتحريم , وذلك لورود أدلة أخرى تدل على عدم الحرمة , فنهى الشرع عن الحلف بغير الله تعالى لكونهم حديثي عهد بالجاهلية , فكان ذلك الحلف مكروهاً .
سادساً : الإجماع , فقد نقل ابن عبد البر الإجماع على المنع من الحلف بغير الله تعالى , قال ابن حجر :
(وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : لَا يَجُوز الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه بِالْإِجْمَاعِ )
وأجيب:
- أولاً بعدم تسليم هذا الإجماع , فقد نقل ابن قدامة في المغني عن البعض الجواز , ونقل ابن المنذر عن البعض جواز الحلف بغير الله فيمَا كَانَ يَؤُولُ إِلَى تَعْظِيم اللَّه وَالْقُرْبَة إِلَيْهِ , وأنه ليس دَاخِلًا فِي النَّهْي , قال ابن حجر :
(وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي مَعْنَى النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه ، فَقَالَتْ طَائِفَة هُوَ خَاصّ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَحْلِفُونَ بِهِ تَعْظِيمًا لِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَالْآبَاء فَهَذِهِ يَأْثَم الْحَالِف بِهَا وَلَا كَفَّارَة فِيهَا ، وَأَمَّا مَا كَانَ يَؤُولُ إِلَى تَعْظِيم اللَّه كَقَوْلِهِ وَحَقّ النَّبِيّ وَالْإِسْلَام وَالْحَجّ وَالْعُمْرَة وَالْهَدْي وَالصَّدَقَة وَالْعِتْق وَنَحْوهَا مِمَّا يُرَاد بِهِ تَعْظِيم اللَّه وَالْقُرْبَة إِلَيْهِ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْي ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْد وَطَائِفَة مِمَّنْ لَقِينَاهُ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَة مِنْ إِيجَابهمْ عَلَى الْحَالِف بِالْعِتْقِ وَالْهَدْي وَالصَّدَقَة مَا أَوْجَبُوهُ مَعَ كَوْنهمْ رَأَوْا النَّهْي الْمَذْكُور ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ لَيْسَ عَلَى عُمُومه ؛ إِذْ لَوْ كَانَ عَامًّا لَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا ) .(فتح الباري) .
- وثانياً : بأن مذهب كثير من الأئمة هو الكراهة لا الحرمة , فيكون معنى الإجماع الذي نقله ابن عبد البر هو أعم من الحرمة , قال ابن حجر في الفتح :
( وَمُرَاده بِنَفْيِ الْجَوَاز الْكَرَاهَة أَعَمّ مِنْ التَّحْرِيم وَالتَّنْزِيه ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لَا يَجُوز لِأَحَدٍ الْحَلِفُ بِهَا ، وَالْخِلَاف مَوْجُود عِنْد الشَّافِعِيَّة مِنْ أَجْل قَوْل الشَّافِعِيّ : أَخْشَى أَنْ يَكُون الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه مَعْصِيَة ، فَأَشْعَرَ بِالتَّرَدُّدِ ، وَجُمْهُور أَصْحَابه عَلَى أَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ ) .
ج- الكراهة :
وهو أحد قولي الحنفية لكنه غير المعتمد عندهم , والمشهور عند المالكية , والمشهور عند الشافعية , وغير المشهور من مذهب الحنابلة .
واستدلوا على ذلك بالتوفيق بين أدلة المجيزين وأدلة المحرمين , فإن المجيزين قاموا بتأويل النصوص الناهية عن الحلف بغير الله تعالى , وكذلك قام المانعون بتأويل حلف الرسول –صلى الله عليه وسلم- والصحابة –رضي الله عنهم- , فكان الأصوب هو التوفيق بين أحاديث النهي عن الحلف بغير الله وبين ما ورد من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعل بعض الصحابة , فقالوا أن النهي هو للكراهة لا للحرمة .
وبعد هذا العرض السريع لأقوال العلماء في الحلف بغير الله تعالى , يتبيّن بطلان المشهور عند جهلة الوهابيين من كون الحلف بغير الله تعالى شركاً يخرج من الملة , وأن النصوص التي يظهر منها شركية الحلف بغير الله أشرك ليست كما يفهمون , لكنّ هذا الخلل عند هؤلاء الدهماء سببه إطلاق مشايخهم لفظة الشرك على كثير من الأفعال التي لا تُخرج من الملة , دون التنبيه على كونها شركاً أصغر أو أكبر , فإذا قرأ أو سمع بعض أتباعهم فتوى يحكمون فيها بالشرك على مثل هذه الأفعال دون تقييده بكونه أصغر , تبادر إلى أذهانهم أنه شرك أكبر , فيقومون -بناء على هذا الفهم السقيم الناتج عن التقرير السقيم- بتكفير من يرونه يقوم بهذه الأفعال وإخراجه من الملة .
وإليك بعض النماذج من هذه الفتاوى :
فقد جاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/81) :
( وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ إلَّا اللَّهَوَحْدَهُ فَلَا يُصَلِّي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَصُومُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَحُجُّ إلَّا بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَنْذِرُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} . وَفِي السُّنَنِ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ , وَالْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَوْحِيدٌ , وَتَوْحِيدٌ مَعَهُ كَذِبٌ خَيْرٌ مِنْ شِرْكٍ مَعَهُ صِدْقٌ...الخ ) .
فتأمّل قوله : ((ولا يحلف إلا بالله)) في سياق النهي عن صرف العبادة لغير الله تعالى , فكأن من حلف بغير الله تعالى فقد عبد غيره!!
وجاء في مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/217) :
( وسئل أيضًا: عن حكم الحلف بغير الله ؟ والحلف بالقرآن الكريم ؟
فأجاب بقوله : الحلف بغير الله أو بغير صفة من صفاته محرم وهو نوع من الشرك؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت » . وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم . وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " « من » « قال واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله » . وهذا إشارة إلى أن الحلف بغير الله شرك يطهر بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
وعلى هذا فيحرم على المسلم أن يحلف بغير الله سبحانه وتعالى , لا بالكعبة ولا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بجبريل ولا بولي من أولياء الله، ولا بخليفة من خلفاء المسلمين، ولا بالشرف، ولا بالقومية، ولا بالوطنية كل حلف بغير الله فهو محرم وهو نوع من الشرك والكفر...الخ ) .
فانظر كيف أطلقوا الشرك والكفر على الحلف بغير الله تعالى دون تقييد , ممّا جعل كثيراً من أتباعهم يتوهمون أن المقصود هو الشرك الأكبر والكفر المخرج من الملة , وخصوصاً أنهم يطلقون مثل هذه الأحكام في سياق كلامهم على نواقض التوحيد ووجوب إفراد الله تعالى بالعبادة وخطر الكفر والشرك , أضف إلى ذلك تقريرهم لأتباعهم أن الشرك إذا أطلق دون تقييد فالمراد به الشرك الأكبر ، وممّا يؤدي إلى تأكيد معنى الشرك الأكبر عند أتباعهم أنهم يسوقون الآيات الدالة على عاقبة الشرك الأكبر كقوله تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)) ..
فإذا قرأ أتباعهم مثل هذه الفتاوى الغير منضبطة –وما أكثرها- , دون أن يطلعوا على فتاويهم القليلة المقيدة للشرك بكونه أصغر , جزموا بأن المراد هو الشرك الأكبر , وليس هذا مختصاً بمسألة الحلف بغير الله تعالى , بل معظم المسائل التي تعتبر عندهم شركاً أصغر هي هكذا .
ولو سلمنا للوهابية صحة إطلاق الشرك الأصغر على الحلف بغير الله تعالى , فلا نسلّم لهم إطلاق ذلك على ما يصدر من العوام , لأن مثل تلك الألفاظ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَة العوام غالباً مِنْ غَيْر أَنْ يَقْصِدُوا بِهِا الْقَسَم ، وَالنَّهْي إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقّ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَة الْحَلف , فنسمع العوام أحياناً يقولون : (وحياتك) ولا يريدون به حقيقة الحلف وإنما يريدون به التأكيد أو لفت الانتباه , فلا يصح تبديع العوام والحكم بالشرك عليهم في كلّ ما يصدر منهم .
الحلف بالنبي –صلى الله عليه وسلم-
لم يفرّق الجمهورمن الحنفية والمالكية والشافعية بين الحلف بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وغيره , فجرى فيه الخلاف السابق , إلا أنّه ورد عن الإمام أحمد في رواية جواز الحلف بالنبي –صلى الله عليه وسلم-, وأنّ اليمين بالنبي –ص- منعقد , لأنه لا يتم الإيمان إلا به , أو لأنه أحد ركني الشهادة .
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 27 / 349) :
(وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ خُصُوصًا , وَيَجِبُ ذِكْرُهُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالْأَذَانِ . فَلِلْإِيمَانِ بِهِ اخْتِصَاصٌ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : بَلْ هَذَا لِكَوْنِهِ نَبِيًّا ) .
وقال البجيرمي في حاشيته :
( قَوْلُهُ : ( عَدَمُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِمَخْلُوقٍ ) أَيْ فَلَا كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِيهِ , خِلَافًا لِأَحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً , لِأَنَّهُ قَالَ : تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ أَحَدُ رُكْنَيْ الشَّهَادَةِ كَاسْمِ اللَّهِ ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق