الدعاء عند قبور الصالحين
ذهب الوهابية إلى أنّ الدعاء عند قبور الصالحين بدعة لم ترد عن سلف الأمة ولا أحد من الأئمة المشهود لهم , وأنّه وسيلة إلى الشرك بالله تعالى , وأنّها محرمّة من باب سد الذرائع .
مع أنّ مَن يدعو عند القبر النبوي مثلاً لا يدعو إلا الله تعالى , ومعلوم أنّ من خالط التوحيدُ قلبَه لا يُخشى عليه من الشرك والكفر , ولو سرنا على سدّ الذرائع بالمفهوم الوهابي لمنعنا الناس من الطواف حول الكعبة ومن السعي بين الصفا والمروة , ومن تقبيل الحجر الأسود , فهي أحجار وتراب!!, ولو كان الدعاء عند قبر النبي –ص- وفي البقيع وسيلة للشرك , لكان الطواف بالكعبة التي هي أحجار, والسعي بين جبلي الصفا والمروة , أقرب إلى الشرك منه , إلا أنّ دين التوحيد الخالص جعل الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة فرضاً على المسلمين , لأنّ شجرة التوحيد إذا غرست في القلوب فلا خوف حينئذٍ من وقوع الموحدين في الشرك .
ثم ما هو الدليل من الكتاب أو السنّة أو من أقوال السلف الصالح على تحريم ذلك! , فإن الشرع حثّنا على الدعاء بإطلاق ولم يلزمنا بمكان مخصوص , والدعاء عند قبور الصالحين أحد أفراد وجزئيات ذلك المطلق , ومعلوم أن جزئيات المطلق متساوية في اندرجها تحته وصدقه عليها , وقد قال البيانيون : إن استعمال الكلي في بعض جزئياته من حيث تحققه فيه ليست مجازاً بل حقيقة , فاستحباب الدعاء مطلقٌ غير مقيّد بمكان دون مكان ولا زمان دون زمان , فورود الدعاء دون تخصيصٍ بمكان يدل على جواز فعله أيّ مكان , وتقييد مكان أو زمان بالحرمة دون ما سواه يحتاج إلى دليل لتقييد هذا الإطلاق , إذ إن تحريم أحد أفراد المطلق -التي هي فيه على السواء- مفتقر إلى دليل خاص , فالدعاء عند قبور الصالحين استعمال للمطلق في أحد جزئياته , وهذه الجزئيات كلّها فيه على السواء إلا ما استثناه دليل خاص , وليس هناك آية أو حديث في تحريم الدّعاء عند القبور .
بل صرّح الأئمة من السلف والخلف بجواز الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين , وأورد ذلك كثير من الأئمة عمّن فَعله دون أن يُنكروا شيئاً منه , بل أقرّوا ذلك وأيّدوه وفعلوه , ولو كان وسيلة للإشراك بالله تعالى لَمَا سَكَتوا عليه دون تنبيه , وهم أهل الورع والعلم , ولكانوا ممّن يكتم الحق وينشر ذرائع الشرك! حاشاهم ذلك .
وإليك بعض الأمثلة :
ابن حبّان البستي صاحب الصحيح يدعو اللهَ تعالى عند القبور مرارًا
1. قال الإمام ابن حبان –وهو من أئمة السلف- في كتابه الثقات في الجزء الثامن برقم (14411 ) :( على بن موسى الرضا وهو على بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب أبو الحسن , من سادات أهل البيت وعقلائهم وجلة الهاشميين ونبلائهم , .... وقبره بسنا باذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد , قد زرته مرارا كثيرة , وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر على بن موسى الرضا -صلوات الله على جده وعليه- ودعوت الله إزالتها عني , إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة , وهذا شيء جربته مرارا فوجدته كذلك , أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وسلم الله عليه وعليهم أجمعين) .فها هو الإمام ابن حبّان البستي –صاحب الصحيح- يدعو اللهَ تعالى عند القبور , ولو كان ذلك بدعة في الدّين لما فعله وهو من هو في التقوى والعلم .
2. وقال أيضاً في "مشاهير علماء الأمصار" ص63 :( زيد بن علي بن الحسين بن على بن أبى طالب ... قتل بالكوفة سنة ثنتين وعشرين ومائة وصلب على خشبة , فكان العباد يأوون إلى خشبته بالليل يتعبدون عندها , وبقى ذلك الرسم عندهم بعد أن حدر عنها , حتى قل من قصدها لحاجة فدعا الله عند موضع الخشبة الا استجيب له ) .
الحاكم النيسابوري والدعاء عند قبور الصالحين
3. روى الإمام الحاكم في مستدركه (ج3/ص518) عن محمد بن عمر ، قال : ( آخى رسول الله –ص- بين أبي أيوب ، وبين مصعب بن عمير ، وشهد أبو أيوب بدرا ، وأحدا ، والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله –ص- ، وتوفي عام غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في خلافة أبيه معاوية سنة اثنتين وخمسين ، وقبره بأصل حصن القسطنطينية بأرض الروم فيما ذكر, يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا ) .
وقد ذكر الحاكم عدّة روايات في الدعاء عند قبور الصالحين دون أن ينكر شيئاً من ذلك , بل نقل عن شيخه ابن خزيمة الدعاء عند قبر علي بن موسى الرضا :
ابن خزيمة والدعاء عند قبور الصالحين
4. قال الإمام ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (7/339) :( وقال الحاكم في تاريخ نيسابور .... وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول : خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا , وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس قال : فرأيت من تعظيمه يعنى ابن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا ) .
قال الأخ محمد اليافعي في "موسوعته" : ( وشيخ الحاكم الذي في السند في حكاية ابن خزيمة هو محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى الماسرجسي وهو كما قال عنه الذهبي في السير ( 16 : 23 ) : (الإمام ، رئيس نيسابور أحد البلغاء الفصحاء( .... .
وفي كتاب رجال المستدرك للشيخ مقبل (2/202) : ( وفيه محمد بن المؤمل وكنيته أبو بكر أبو بكر الماسرجسي لَمْ نعلم فِيهِ جرحاً والمشهور أنه من أهل الفضل قد روى عنه ثلاثة وهو شيخ الحاكم وقد حج برفقته ( .
وقال الحافظ الذهبي في السير ( 16 / 23 ) في ترجمته : ( الماسرجسي الإمام رئيس نيسابور أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن ابنعيسى بن ماسرجس النيسابوري أحد البلغاء والفصحاء سمع الفضل بن محمد الشعراني والحسين بن الفضل وعدة وبنى دارا للمحدثين وأدر عليهم الأرزاق كان أبو علي الحافظ يقرأ عليه تاريخ احمد بن حنبل قلت روى عنه السلمي والحاكم وسعيد بن محمد بن محمد بنعبدان) .
قلت : فهذا رد على من حاول تضعف هذه الرواية بمحمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى الماسرجسي شيخ الحاكم الذي في السند في حكاية ابن خزيمة ...
وأثبتنا ولله الحمد أنه ثقة ، وان الرواية التي بين أيدينا صحيحة كالشمس ولا غبار عليها ..) .
أبو نعيم الأصبهاني والدعاء عند قبور الصالحين
5. قال أبو نعيم في معرفة الصحابة في ترجمة طلحة بن عبيد الله –رضي الله عنه- :( حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِأَمْرٍ , قَصَدَ إِلَى قَبْرِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِحَضْرَتِهِ فَيَكَادُ يَعْرِفُ الْإِجَابَةَ، وَأَخْبَرَنَا مَشَايِخُنَا بِهِ قَدِيمًا أَنَّهُمْ رَأَوْا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ يَفْعَلُهُ ) .
الخطيب البغدادي والدعاء عند قبور الصالحين
6. وقال الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ( 1 / 133 ) : ( أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن رامين الإستراباذي قال: أنبأنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال : سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول : ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به الا سهل الله تعالى لي ما أحب ) .
وقد ساق الخطيبُ جملةً من مثل هذا الدعاء عند قبور الصالحين دون أن ينكر ذلك , ومنها :
7. قال في تاريخ بغداد ( 1 / 134 – 135 ) :( أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحيري قال أنبأنا محمد بن الحسين السلمي قال سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت أبا علي الصفار يقول سمعت إبراهيم الحربي يقول : قبر معروف الترياق المجرب .
أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي قال نبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قال سمعت أبي يقول : قبر معروف الكرخي مجرب لقضاء الحوائج , ويقال : إنه من قرأ عنده مائة مرة قل هو الله أحد وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته .
حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري قال سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن جميع يقول سمعت أبا عبد الله بن المحاملي يقول : اعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم الا فرج الله همه ) .
8. وقال في تاريخ بغداد ( 1 / 135 – 136 ): ( أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري قال أنبأنا عمر بن إبراهيم قال نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم يعني زائراً فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده , فما تبعد عني حتى تقضى .
ومقبرة عبد الله بن مالك دفن بها خلق كثير من الفقهاء والمحدثين والزهاد والصالحين وتعرف بالمالكية , ومقبرة باب البردان فيها أيضاً جماعة من أهل الفضل , وعند المصلى المرسوم بصلاة العيد كان قبره يعرف بقبر النذور , ويقال إن المدفون فيه رجل من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه , يتبرك الناس بزيارته ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته ) .
ابن أبي يعلى الفرّاء الحنبلي والدعاء عند قبور الصالحين
9. قال في طبقات الحنابلة في ترجمة أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى , عند ذكره الطبقة السادسة :( ولزم الناس قبره ليلاً ونهاراً مدة طويلة , ويقرأون ختمات ويكثرون الدعاء , ولقد بلغني أنه ختم على قبره في مدة شهور ألوف ختمات , وكثرت المنامات من الصالحين بالرؤى الصالحة له ) .
ابن بشكوال القرطبي والدعاء عند قبور الصالحين
10. قال ابن بشكوال في الصلة في ترجمة نصر بن محمد بن عبد الملك : ( أخبرنا القاضي الشهيد أبو عبد الله محمد بن أحمد رحمه الله قراءةعليه وأنا أسمع قال: قرأت على أبي على حسين بن محمد الغساني قال: أخبرني أبوالحسن طاهر بن مفوز والمعافري قال: أنا أبو الفتح وأبو الليث نصر بن الحسن التنكتي المقيم بسمرقند قدم عليهم بلنسية عام أربعة وستين وأربع مائة.
قال: قحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام قال: فاستسقى الناس مراراً فلم يسقوا , قال: فأتى رجل من الصالحين معروف بالصلاح مشهور به إلى قاضي سمرقند فقال له: إني قد رأيت رأياً أعرضه عليك , قال: وما هو قال: أرى أن تخرج ويخرج الناس معك إلى قبر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- وقبره بخرتنك وتستسقوا عنده , فعسى الله أن يسقينا قال: فقال القاضي نعم ما رأيت.
فخرج القاضي وخرج الناس معه واستسقى القاضي بالناس وبكى الناس عند القبر وتشفعوا بصاحبه , فأرسل الله السماء بماءٍ عظيم غزير أقام الناس من أجله بخرتنك سبعة أيام أو نحوها لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر وغزارته وبين خرتنك وسمرقند ثلاثة أميال أو نحوها ) .
ابن الجوزي الحنبلي والدعاء عند قبور الصالحين
11. قال الحافظ ابن الجوزي في صفة الصفوة في ترجمة أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- : ) قال الواقدي : توفي أبو أيوب عام غزا يزيد بن معاوية القسطنطنية في خلافة أبيه معاوية سنة اثنتين وخمسين، وصلى عليه يزيد وقبره بأصل حصن القسطنطنية بأرض الروم، فلقد بلغنا أن الروم يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا ) .
12. وقال في صفة الصفوة في ترجمة بشر بن الحارث:( وقال أحمد بن الفتح : رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان وبين يديه مائدة وهو يأكل منها , فقلت له: يا أبا نصر ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي ورحمني وأباحني الجنة بأسرها وقال لي كل من جميع ثمارها واشرب من أنهارها وتمتع بجميع ما فيها , كما كنت تحرم نفسك الشهوات في دار الدنيا , فقلت له: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ قال : هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقول القرآن كلام الله غير مخلوق , فقلت له : فما فعل معروف الكرخي؟ فحرك رأسه ثم قال لي: هيهات , حالت بيننا وبينه الحجب , إن معروفا لم يعبد الله شوقا إلى جنته ولا خوفا من ناره , وإنما عبده شوقا إليه فرفعه الله إلى الرفيق الأعلى ورفع الحجب بينه وبينه , ذاك الترياق المقدسي المجرب , فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع , فإنه يستجاب له إن شاء الله تعالى ) .
ابن العديم والدعاء عند قبور الصالحين
13. قال كمال الدِّين بن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب ( 1 / 133 ) : ( باب في ذكر ما بحلب وأعمالها من المزارات وقبور الأنبياء والأولياء والمواطن الشريفة التي بها مظان إجابة الدعاء )
وذكر من هذه المواطن مقبرة فيها جماعة من العلماء الصالحين الأخيار , منهم أحمد الأصولي صاحب برهان الدين البلخي , وقبر أبي الحسين الزاهد المقدسي , وذكر أنّ الدعاء عند قبره مستجاب .
القرطبي المفسر والدعاء عند قبور الصالحين
14. قال القرطبي في "الإعلام بما في دين النصارى وإظهار محاسن دين الإسلام" ص384 :
( وقد دوّن من هذا كثير يقضى منه العجب في كتب كرامات الأولياء , ولو لم يكن من هذا إلا قبر معروف الكرخي الكائن ببغداد , لكان فيه كفاية وأعظم آية , وذلك أنّ قبره يستشفى به , ويدعى الله عنده , فيشفى المريض وتقضى الحاجة ) .
ابن دقيق العيد والدعاء عند قبور الصالحين
15. قال ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة في ترجمة الإمام ابن دقيق العيد :( وقرأت بخط محمد بن عبد الرحمن العثماني قاضي صفد , أخبرني الأمير سيف الدين بلبان الحسامي قال: خرجت يوماً إلى الصحراء فوجدت ابن دقيق العيد في الجبانة واقفاً يقرأ ويدعو ويبكي , فسألته فقال : صاحب هذا القبر كان من أصحابي وكان يقرأ علي , فمات فرأيته البارحة فسألته عن حاله فقال: لما وضعتموني في القبر جاءني كلب أنفط كالسبع وجعل يروعني فارتعبت , فجاء شخص لطيف في هيئة حسنة فطرده وجلس عندي يؤنسني , فقلت: من أنت؟ فقال: أنا ثواب قراءتك سورة الكهف يوم الجمعة ) .
عثمان محمد النابلسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق