بطلان علاقة التلازم والتضمن بين دعاء المسألة ودعاء العبادة :
لكنّ الوهابية يقولون بأن دعاء العبادة يستلزم دعاء المسألة , ودعاء المسألة يتضمن دعاء العبادة , فمن عبد الله تعالى فلا بد وأن يسأله , ومن سأل الله تعالى فلا بد وأن يعبده , ولذلك فإن من يستغيث بالأنبياء والأولياء فإن استغاثته متضمنة لعبادتهم .
وهذا كلام باطل لا يصدر إلا من جاهل عاطل , فمن قال لهم أن العبادة تستلزم الطلب , فقد يذكر المرء ربّه ويحمده ولا يسأله شيئاً , فلا يلزم من حصول دعاء العبادة حصول دعاء المسألة , وخصوصاً أن ابن عبد الوهاب يرى أن المشركين يعبدون الله كثيراً , فقد قال في كشف الشبهات :
( أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا!!) .
فها هم يقومون بدعاء العبادة كثيراً في حياتهم كما يرى ابن عبد الوهاب , لكنّ ذلك لم يستلزم أن يسألوه حاجاتهم , فقد كانوا يسألون أصنامهم ويستغيثون بها في عامّة حياتهم , ولا يسألون الله تعالى إلا عند الوقوع في شدّة ومصيبة كونية كتهيّج البحار , لأنهم كانوا يعتقدون أن أمور الكون العظام من طلوع الشمس وتسيير البحار لم تفوّض إلى أصنامهم , فعبادتهم الكثيرة في عامة حياتهم ورخائهم لم تستلزم دعاءهم الله تعالى في عامّة حياتهم ورخائهم , فلا يلزم من دعاء العبادة دعاء المسألة , بل يلزم من اعتقاد استحقاق العبادة في موجودٍ الاعتقادُ بأنه أهل للطلب والسؤال .
أمّا القول بأنّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة فليس بسديد ولا رشيد , فإنك عندما تبرهن للوهابية أنّ الآيات التي يتوهمونها إنما جاءت في دعاء العبادة لا في دعاء المسألة , بادروك بالقول بأن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة , ليتم لهم الحكم بالشرك على من استغاث بالأنبياء والأولياء , إلا أنّ ما يقوم به الناس في حياتهم من دعاء بعضهم بعضاً في حوائجهم يبطل ما زعموه , فلو كان دعاء المسألة -دون قصد التعبّد واعتقاد شيء من الربوبية والألوهية في المدعو- متضمناً لدعاء العبادة لكان جميع من سأل غيرَ الله تعالى مشركاً , ويكون سؤاله ذلك متضمناً لعبادة غير الله تعالى!! , ولَمَا وجدت شخصاً يسأل آخر إلا وقد عَبَدَه من دون الله!! لأنه دعاه دعاء مسألة , كما في قوله تعالى : ((فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه)) .
ولو كان مجرد دعاء المسألة متضمناً لدعاء العبادة , لكان الملهوف المستغيث برجال الإطفاء عابداً لهم , ولكان المريض المستغيث بالطبيب عابداً له , ولكان القائد المستغيث بجيشه عابداً له , ولكان الغريق المستغيث بالمنقذ عابداً له , فإنّ جميع ذلك من دعاء المسألة , فعلى قولهم لا بدّ أن يتضمّن هذا الدعاءُ دعاءَ العبادة , فيكون جميع ما سَبَق شركٌ وعبادة لغير الله تعالى!!
واحتج الوهابية بقوله تعالى : ((وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (*) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ )
على أنّ دعاء المسألة عبادة!! مع أنّه حجة عليهم لا لهم!! فقد قال الطبري في تفسيره :
( وقوله :(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات الذي له الملك الكامل، الذي لا يشبهه ملك، صفته (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) يقول: ما يملكون قشر نواة فما فوقها..... .
يقول تعالى ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان: فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته ، وهو لا نفع لكم عنده ، ولا قدرة له على ضركم ، وتَدَعون عبادة الذي بيده نفعكم وضركم ، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم ) .
فحَمَل الدعاء في قوله :(( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ)) على دعاء العبادة , فيكون دعاء المشركين أصنامهم من دون الله تعالى شركاً , وستكفر الأصنام بهذا الشرك يوم القيامة كما قال تعالى : ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)) .
وقال :
(يقول تعالى ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان: فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته، وهو لا نفع لكم عنده، ولا قدرة له على ضركم، وتدعون عبادة الذي بيده نفعكم وضركم، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم ) .
ثم إنّ المشركين عندما يدعون أصنامهم ويسألونها كانوا يقصدون بذلك التعبّد والتقرّب لأصنامهم , ويعتقدون فيها النفع والضر والعزة والذلة , وأنها مستحقة للعبادة , فيكون دعاؤهم أصنامَهم وطلبهم منها عبادة لها .
وسؤال المؤمنين غير الله تعالى ليس بقصد التعبّد والتقرب لغير الله ولا باعتقاد النفع والضر والعزة والذلة فيه , فلا يكون عبادة في حال , أمّا دعاؤهم اللهَ تعالى دعاء مسألة فهو عبادة لله , لأنهم يقومون به بقصد التعبد ويعتقدون أن الله تعالى متفرد بالنفع والضر والعزة والذلة والانفراد في استحقاق المعبودية , فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-عن دعاء المؤمنين ربهم تبارك وتعالى : (الدعاء هو العبادة) , وبيانه : أن (أل) فيه للعهد الخارجي عند المخاطبين ، وهم المؤمنون ، والمعهود عندهم إنما هو دعاؤهم ربهم عز وجل ، وليست للإستغراق! كما وهم أولئك المخدوعون ..
وهذا الحديث تفسير لقوله تعالى : (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
فقد روى الترمذي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ : (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
فهذا الحديث يدلّ على أنّ المقصود بالدعاء في الآية دعاء العبادة , ويدل على ذلك أيضاً تتمة الآية وهي : ((إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين)) .
ويؤيّد هذا أيضاً ما رواه الحاكم عن عبد الله بن جرير –ر- أنّه فسّر الدعاء في هذه الآية بالعبادة , فقال الحاكم :
(عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، في قول الله عز وجل : ( ادعوني أستجب لكم) قال : « اعبدوني أستجب لكم » « هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه » ) ووافقه الذهبي .
ولذلك قال الطبري في تفسيره لهذه الآية :
( وقوله: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم (ادعوني) يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك ( أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.
.... عن ابن عباس ، قوله: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول: وحَّدوني أغفر لكم .
.... عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ" وقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ). ) .
عثمان محمد النابلسي منتدى الأصلين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق