8- ذكر الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ، و ابن الجوزي في " مثير الغرام الساكن " ، والإمام هبة الله في " توثيق عرى الإيمان " عن العُتبي التابعي الجليل : أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، [ وفي رواية ذكرها الطبري أنه قال : ويا خير الرسل سمعتُ الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما } وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً [أي متوسلا] بك إلى ربي .
ثم أنشد :
يا خير من دُفنت في القاع أعظمه ***** فطاب من طيبهن القاع و الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ****** فيه العفاف وفيه الجود و الكرم
قال العُتبي : فحملتني عيناي ، فرأيت النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في النوم وقال : " يا عُتبيّ ، إلْحق الأعرابي فبشّرْه بأن الله غفر له " .اهـ
وقد تلقى علماء الأمة كلها هذا الأثر بالقبول مع أنه ضعيف السند , فليس مما يرد بجرة قلم ، وذكره أئمة المذاهب الأربعة في المناسك مستحسنين له . وفيه نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم و طلب الشفاعة منه في الدنيا .
وسيأتي نقل نصوص العلماء سيما من الحنابلة لهذا الأثر.
وقال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم "(2/272) :
{ .. ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي و أحمد ، مثلَ ذلك ، واحتجوا بهذه الحكاية [حكاية العتبي] التي لا يثبت بها حكمٌ شرعي ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم ، بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بُسطت في غير هذا الموضع .
[...].. وقد يفعل الرجل العملَ الذي يعتقده صالحًا ، ولا يكون عالمًا أنه منهيّ عنه ، فيُثاب على حسن قصده ، ويُعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع .
[...].. ثم الفاعل قد يكون متأوّلا , أو مخطئا مجتهدا , أو مقلّدا ، فيُغفر له خطؤه ويُثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع ، كالمجتهد المخطئ... }.
وذكره ابن عبد الهادي- تلميذُه- عنه في "الصارم المنكي".
فلو فرضنا أن أحداً لم يتّبع تلك الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة في طلبه منه -- في الدنيا والآخرة ، وقلنا بقول ابن تيمية أنه منهيّ عنه أَوْ ليس مستحباً كما قال في "اقتضاء الصراط"، لكن أليس ابن تيمية أعذر المتأوّل والمخطئ والمجتهد والمقلّد , وقال إنه يُغفر له ويثاب على فعله ؟! فمالكم تكفّرون مخالفيكم معاشر الوهابية؟!!
فلْنجعل ما يفعله المستغيثون بالنبي -- من هذا القبيل [أي متأولين أو مجتهدين مخطئين] فلا نكفّرهم ، فكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكفّر المسلمين لذلك! فقبّح الله تعالى الجهل و الجرأة أين تصل بصاحبها !!.
9- ذكر الإمام القسطلاني في " المواهب اللدنية " ، و السمهودي في " الوفا" قالا :{ روى أبو سعد السمعاني عن علي كرم الله وجهه أن أعرابياً قدم علينا بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره ، وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلتَ فسمعنا قولك ، و وعيت عن الله فوعينا عنك . وكان فيما أنزل إليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر : " غُفر لك " }.اهـ
أقول : و يعضد هذا الأثرَ ، الأثرُ المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول.
10- ذكر القاضي عياض في " الشفا " بسند حسن أن الإمام مالك بن أنس تناظر مع أبي جعفر المنصور ، فقال الإمام مالك : يا أمير المؤمنين ، إن الله أدّب أقواماً فقال : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي .. } ، ومدح قوماً فقال : { إن الذين يغضون أبصارهم عند رسول الله …} .وإن حُرمته ميتاً كحرمته حياً . فاستكان لها أبو جعفر و قال : يا أبا عبد الله ، أستقبلُ القبلة فأدعو ، أم أستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ ، فقال مالك رحمه الله تعالى : و لِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ؟! بل استقْبِلْه وتشفّعْ به فيشفّعْه الله ، قال الله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } الآية .}.اهـ
قال الإمام الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية) عن هذه القصة:
«الحكاية المذكورة رواها أبو الحسن على بن فهر في كتابه فضائل مالك بإسناد لا بأس به بل قيل إنه صحيح » اهـ من (نصرة الإمام السبكي) ص 61 .
وقال الإمام ابن حجر في (الجوهر المنظم) عن هذه القصة أيضاً:
«وقد جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه »ا.هـ انظر (نصرة الإمام السبكي) ص 195.
وذكر شيخ الإسلام تقي الدين السبكي هذه القصة في (شفاء السقام) نقلا عن القاضي عياض ثم قال:
«وقد ذكر القاضي عياض إسنادها وهو إسناد جيد » اهـ ص 129 .
ويقول الإمام المحدث محمد زاهد الكوثري عن هذه القصة في رسالته (مَحْق التقوّل في مسألة التوسل):
«وأما قول مالك لأبي جعفر المذكور فهو ما أخرجه القاضي عياض في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بسند جيد » اهـ (انظر مقالات الكوثري ص 392 ).
وذهب الحافظ السيد عبد الله الغماري إلى أن في إسناد هذه القصة ضعفا لكنه لا يسقطها عن درجة الاحتجاج فقال في كتابه (الرد المحكم المتين):
«فهذه الحكاية عن الإمام مالك صريحة في جواز التوسل بل استحبابه، وهي وإن كانت ضعيفة الإسناد- وادعاء ابن تيمية كذبها مردود عليه ولا كرامة– فقد تلقاها أهل المذهب بالقبول و عملوا بمقتضاها، وناهيك بالقاضي عياض حيث استدل بها ولم يعقبها بما يخالفها. ولهذا لا يُحفظ عن أحد من المالكية قولٌ بمنع التوسل بالنبي r أو كراهته بل كلهم متفقون على جوازه واستحبابه » ا.هـ ص 95.
11- ذكر ابن الجوزي في كتابه " الوفا في فضائل المصطفى" -صلى الله عليه وسلم-، بسنده إلى أبي بكر المقرئ والطبراني وأبي الشيخ قالوا :
" كنا في حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكنا في حالة قد أثّر فينا الجوع ، فواصلنا ذلك اليوم .
فلما كان وقت العشاء ، حضرتُ قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقلت : يا رسول الله الجوع الجوع ، وانصرفت . قال أبو بكر : فنمت وأبو الشيخ ، والطبراني جالس ينظر في شيء ، فحضر بالباب علويّ فدقّ الباب ، ففتحنا له ، فإذا معه غلامان مع كل غلام زنبيل فيه شيء كثير ، فجلسنا فأكلنا ، فولى وترك الباقي عندنا . فلما فرغنا من الطعام ، قال العلوي : يا قوم ، شكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ فإني رأيته في المنام فأمرني بحمل شيءٍ إليكم .}. انتهى .
وذكر هذا الأثر جماعةٌ من المحدّثين ، وذكر مثله ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " فقال : { وكذلك حُكي لنا أن بعض المجاورين بالمدينة ، جاء إلى عند قبر النبي -- فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة ، فجاء بعض الهاشميين إليه ، فقال : إن النبي -- بعث لك ذلك وقال لك : اخرجْ من عندنا ، فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا . وآخرون قُضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا ، لاجتهادهم أو تقليدهم ، أو قصورهم في العلم ، فإنه يُغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ..}. انتهى .
12- ذكر ابن الجوزي في كتابه " صفة الصفوة " بسنده إلى أبى الخير التيناتي قال : {دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا بفاقة [ أي بفقر] فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً ، فتقدّمت إلى القبر الشريف وسلّمت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله . وتنحّيت فنمت خلف المنبر ، فرأيت في المنام النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله ، وعلي بن أبي طالب بين يديه . فحرّكني علي رضي الله تعالى عنه وقال : قُم ، لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فقمت فقبّلت بين عينيه ، فدفع إليّ رغيفاً فأكلت بعضه ، فانتبهت فإذا النصف الآخر بيدي. } . انتهى
13- ذكر ابن تيمية في " الكلم الطيب " والحافظ ابن أبي جمرة في " شرح مختصر البخاري " وغيرهما أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه خدرت رجله ، فقيل له : اذْكُر أحب الناس إليك. فقال : يا محمد ، فذهب الخَدَر عن رجله.
وقال الإمام النووي في "الأذكار" (ص305) :
{ (باب ما يقوله إذا خدرت رجله)- روينا في كتاب ابن السني عن الهيثم بن حنش قال : " كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فقال : يا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فكأنما نشط من عقال ".
وروينا فيه عن مجاهد قال : " خدرت رِجْل رَجُل عند ابن عباس ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : اذكر أحب الناس إليك ، فقال : محمد (صلى الله عليه وسلم) فذهب خدره .}.اهـ
فلو كان نداء الغائب و الميت ممنوعاً ، لكان هذا الصحابي الجليل أحق بالمنع من ذلك ! ولهذا ذكر مثل هذا الأثر ابنُ تيمية وابنُ القيم و غيرهما في الأذكار التي يُسن استعمالها , حيث قال ابن تيمية في كتابه "الكلم الطيب" ص 173 :
{ فصل: ( في الرٍّجْل إذا خدرت ): عن الهيثم بن حنش قال : كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك فقال : يا محمد؛ فكأنما نشط من عقال.}.اهـ
وقال الإمام البخاري في "الأدب المفرد": { باب ( ما يقول الرجل إذا خدرت رجله ) ؛ حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن سعد قال : خدرت رِجْل ابن عمر ، فقال له رجل : اذْكُر أحب الناس إليك ، فقال : يا محمد }.اهـ
و على افتراض أن الأثر ضعيف، فقد نقله الإمام البخاري –و هو من أئمة السلف- في كتابه هذا –و هو كتاب أذكار و دعوات- داعيا الناس إلى العمل به، و لم يقُل أن هذا شرك و لا بدعة؛ فهل كان يجهل الشرك ؟!! أم كان يدعو إلى الشرك ؟!! .. نعوذ بالله من الخذلان!!
وذكر ابن الأثير في " تاريخه "الكامل في التاريخ-الذي ذكر أنه اختصره من تاريخ ابن جرير السني الطبري- : أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم كان شعارهم في الحرب : " يا محمد " .
وذكر مثله الواقدي في كتابه " فتوح الشام ".
وذكر السيوطي في " شرح الصدور " عن ابن الجوزي بسنده إلى بعض التابعين : أنهم لما أمرهم الكفار وراودهم على الكفر وامتنعوا ، غلوا لهم زيتاً في قِدْر فألقوهم فيه ، فنادوْا : " يا محمداه " .
ولا شك أن هذا النداء في هذه المواضع المهلكة ، ما هو إلا توسل به -- ، وطلب لشفاعته -- ، و إلا فلا معنى لندائه .
وفي ترجمة سعيد بن عامر بن حذيم الصحابي رضي الله تعالى عنه قال :{ شهدت مصرع خبيب وقد بضعت قريش لحمه ، ثم حملوه على جذعه ، ثم نادى : " يا محمد " . فما ذكرت ذلك و تركي نصرتَه وأنا مشرك إلا ظننت أن الله لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً ، فتصيبني تلك الغنطة..} إلى آخر الأثر .
فهذا يدل على أن نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الشدائد أمر معهود ، لأن خبيباً رضي الله تعالى عنه فعل ذلك في مكة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة حينئذ ، والله تعالى أعلم .
ثم أنشد :
يا خير من دُفنت في القاع أعظمه ***** فطاب من طيبهن القاع و الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ****** فيه العفاف وفيه الجود و الكرم
قال العُتبي : فحملتني عيناي ، فرأيت النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في النوم وقال : " يا عُتبيّ ، إلْحق الأعرابي فبشّرْه بأن الله غفر له " .اهـ
وقد تلقى علماء الأمة كلها هذا الأثر بالقبول مع أنه ضعيف السند , فليس مما يرد بجرة قلم ، وذكره أئمة المذاهب الأربعة في المناسك مستحسنين له . وفيه نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم و طلب الشفاعة منه في الدنيا .
وسيأتي نقل نصوص العلماء سيما من الحنابلة لهذا الأثر.
وقال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم "(2/272) :
{ .. ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي و أحمد ، مثلَ ذلك ، واحتجوا بهذه الحكاية [حكاية العتبي] التي لا يثبت بها حكمٌ شرعي ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم ، بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بُسطت في غير هذا الموضع .
[...].. وقد يفعل الرجل العملَ الذي يعتقده صالحًا ، ولا يكون عالمًا أنه منهيّ عنه ، فيُثاب على حسن قصده ، ويُعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع .
[...].. ثم الفاعل قد يكون متأوّلا , أو مخطئا مجتهدا , أو مقلّدا ، فيُغفر له خطؤه ويُثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع ، كالمجتهد المخطئ... }.
وذكره ابن عبد الهادي- تلميذُه- عنه في "الصارم المنكي".
فلو فرضنا أن أحداً لم يتّبع تلك الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة في طلبه منه -- في الدنيا والآخرة ، وقلنا بقول ابن تيمية أنه منهيّ عنه أَوْ ليس مستحباً كما قال في "اقتضاء الصراط"، لكن أليس ابن تيمية أعذر المتأوّل والمخطئ والمجتهد والمقلّد , وقال إنه يُغفر له ويثاب على فعله ؟! فمالكم تكفّرون مخالفيكم معاشر الوهابية؟!!
فلْنجعل ما يفعله المستغيثون بالنبي -- من هذا القبيل [أي متأولين أو مجتهدين مخطئين] فلا نكفّرهم ، فكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكفّر المسلمين لذلك! فقبّح الله تعالى الجهل و الجرأة أين تصل بصاحبها !!.
9- ذكر الإمام القسطلاني في " المواهب اللدنية " ، و السمهودي في " الوفا" قالا :{ روى أبو سعد السمعاني عن علي كرم الله وجهه أن أعرابياً قدم علينا بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره ، وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلتَ فسمعنا قولك ، و وعيت عن الله فوعينا عنك . وكان فيما أنزل إليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر : " غُفر لك " }.اهـ
أقول : و يعضد هذا الأثرَ ، الأثرُ المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول.
10- ذكر القاضي عياض في " الشفا " بسند حسن أن الإمام مالك بن أنس تناظر مع أبي جعفر المنصور ، فقال الإمام مالك : يا أمير المؤمنين ، إن الله أدّب أقواماً فقال : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي .. } ، ومدح قوماً فقال : { إن الذين يغضون أبصارهم عند رسول الله …} .وإن حُرمته ميتاً كحرمته حياً . فاستكان لها أبو جعفر و قال : يا أبا عبد الله ، أستقبلُ القبلة فأدعو ، أم أستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ ، فقال مالك رحمه الله تعالى : و لِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ؟! بل استقْبِلْه وتشفّعْ به فيشفّعْه الله ، قال الله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } الآية .}.اهـ
قال الإمام الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية) عن هذه القصة:
«الحكاية المذكورة رواها أبو الحسن على بن فهر في كتابه فضائل مالك بإسناد لا بأس به بل قيل إنه صحيح » اهـ من (نصرة الإمام السبكي) ص 61 .
وقال الإمام ابن حجر في (الجوهر المنظم) عن هذه القصة أيضاً:
«وقد جاءت بالسند الصحيح الذي لا مطعن فيه »ا.هـ انظر (نصرة الإمام السبكي) ص 195.
وذكر شيخ الإسلام تقي الدين السبكي هذه القصة في (شفاء السقام) نقلا عن القاضي عياض ثم قال:
«وقد ذكر القاضي عياض إسنادها وهو إسناد جيد » اهـ ص 129 .
ويقول الإمام المحدث محمد زاهد الكوثري عن هذه القصة في رسالته (مَحْق التقوّل في مسألة التوسل):
«وأما قول مالك لأبي جعفر المذكور فهو ما أخرجه القاضي عياض في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بسند جيد » اهـ (انظر مقالات الكوثري ص 392 ).
وذهب الحافظ السيد عبد الله الغماري إلى أن في إسناد هذه القصة ضعفا لكنه لا يسقطها عن درجة الاحتجاج فقال في كتابه (الرد المحكم المتين):
«فهذه الحكاية عن الإمام مالك صريحة في جواز التوسل بل استحبابه، وهي وإن كانت ضعيفة الإسناد- وادعاء ابن تيمية كذبها مردود عليه ولا كرامة– فقد تلقاها أهل المذهب بالقبول و عملوا بمقتضاها، وناهيك بالقاضي عياض حيث استدل بها ولم يعقبها بما يخالفها. ولهذا لا يُحفظ عن أحد من المالكية قولٌ بمنع التوسل بالنبي r أو كراهته بل كلهم متفقون على جوازه واستحبابه » ا.هـ ص 95.
11- ذكر ابن الجوزي في كتابه " الوفا في فضائل المصطفى" -صلى الله عليه وسلم-، بسنده إلى أبي بكر المقرئ والطبراني وأبي الشيخ قالوا :
" كنا في حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكنا في حالة قد أثّر فينا الجوع ، فواصلنا ذلك اليوم .
فلما كان وقت العشاء ، حضرتُ قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقلت : يا رسول الله الجوع الجوع ، وانصرفت . قال أبو بكر : فنمت وأبو الشيخ ، والطبراني جالس ينظر في شيء ، فحضر بالباب علويّ فدقّ الباب ، ففتحنا له ، فإذا معه غلامان مع كل غلام زنبيل فيه شيء كثير ، فجلسنا فأكلنا ، فولى وترك الباقي عندنا . فلما فرغنا من الطعام ، قال العلوي : يا قوم ، شكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ فإني رأيته في المنام فأمرني بحمل شيءٍ إليكم .}. انتهى .
وذكر هذا الأثر جماعةٌ من المحدّثين ، وذكر مثله ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " فقال : { وكذلك حُكي لنا أن بعض المجاورين بالمدينة ، جاء إلى عند قبر النبي -- فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة ، فجاء بعض الهاشميين إليه ، فقال : إن النبي -- بعث لك ذلك وقال لك : اخرجْ من عندنا ، فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا . وآخرون قُضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا ، لاجتهادهم أو تقليدهم ، أو قصورهم في العلم ، فإنه يُغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ..}. انتهى .
12- ذكر ابن الجوزي في كتابه " صفة الصفوة " بسنده إلى أبى الخير التيناتي قال : {دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا بفاقة [ أي بفقر] فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً ، فتقدّمت إلى القبر الشريف وسلّمت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله . وتنحّيت فنمت خلف المنبر ، فرأيت في المنام النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله ، وعلي بن أبي طالب بين يديه . فحرّكني علي رضي الله تعالى عنه وقال : قُم ، لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فقمت فقبّلت بين عينيه ، فدفع إليّ رغيفاً فأكلت بعضه ، فانتبهت فإذا النصف الآخر بيدي. } . انتهى
13- ذكر ابن تيمية في " الكلم الطيب " والحافظ ابن أبي جمرة في " شرح مختصر البخاري " وغيرهما أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه خدرت رجله ، فقيل له : اذْكُر أحب الناس إليك. فقال : يا محمد ، فذهب الخَدَر عن رجله.
وقال الإمام النووي في "الأذكار" (ص305) :
{ (باب ما يقوله إذا خدرت رجله)- روينا في كتاب ابن السني عن الهيثم بن حنش قال : " كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فقال : يا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فكأنما نشط من عقال ".
وروينا فيه عن مجاهد قال : " خدرت رِجْل رَجُل عند ابن عباس ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : اذكر أحب الناس إليك ، فقال : محمد (صلى الله عليه وسلم) فذهب خدره .}.اهـ
فلو كان نداء الغائب و الميت ممنوعاً ، لكان هذا الصحابي الجليل أحق بالمنع من ذلك ! ولهذا ذكر مثل هذا الأثر ابنُ تيمية وابنُ القيم و غيرهما في الأذكار التي يُسن استعمالها , حيث قال ابن تيمية في كتابه "الكلم الطيب" ص 173 :
{ فصل: ( في الرٍّجْل إذا خدرت ): عن الهيثم بن حنش قال : كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك فقال : يا محمد؛ فكأنما نشط من عقال.}.اهـ
وقال الإمام البخاري في "الأدب المفرد": { باب ( ما يقول الرجل إذا خدرت رجله ) ؛ حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن سعد قال : خدرت رِجْل ابن عمر ، فقال له رجل : اذْكُر أحب الناس إليك ، فقال : يا محمد }.اهـ
و على افتراض أن الأثر ضعيف، فقد نقله الإمام البخاري –و هو من أئمة السلف- في كتابه هذا –و هو كتاب أذكار و دعوات- داعيا الناس إلى العمل به، و لم يقُل أن هذا شرك و لا بدعة؛ فهل كان يجهل الشرك ؟!! أم كان يدعو إلى الشرك ؟!! .. نعوذ بالله من الخذلان!!
وذكر ابن الأثير في " تاريخه "الكامل في التاريخ-الذي ذكر أنه اختصره من تاريخ ابن جرير السني الطبري- : أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم كان شعارهم في الحرب : " يا محمد " .
وذكر مثله الواقدي في كتابه " فتوح الشام ".
وذكر السيوطي في " شرح الصدور " عن ابن الجوزي بسنده إلى بعض التابعين : أنهم لما أمرهم الكفار وراودهم على الكفر وامتنعوا ، غلوا لهم زيتاً في قِدْر فألقوهم فيه ، فنادوْا : " يا محمداه " .
ولا شك أن هذا النداء في هذه المواضع المهلكة ، ما هو إلا توسل به -- ، وطلب لشفاعته -- ، و إلا فلا معنى لندائه .
وفي ترجمة سعيد بن عامر بن حذيم الصحابي رضي الله تعالى عنه قال :{ شهدت مصرع خبيب وقد بضعت قريش لحمه ، ثم حملوه على جذعه ، ثم نادى : " يا محمد " . فما ذكرت ذلك و تركي نصرتَه وأنا مشرك إلا ظننت أن الله لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً ، فتصيبني تلك الغنطة..} إلى آخر الأثر .
فهذا يدل على أن نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الشدائد أمر معهود ، لأن خبيباً رضي الله تعالى عنه فعل ذلك في مكة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة حينئذ ، والله تعالى أعلم .
عثمان محمد النابلسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق