كلمةُ التوحيدِ تتضمنُ التوحيدين معاً عند الإمام الطبري:
ومن الجدير أن أذكر بعض نصوص للإمام السلفي أبي جعفر الطبري في بيان أنّ كلمة التوحيد تتضمن التوحيدين معاً لا توحيد العبادة فقط , فقد جاء في تفسيره رحمه الله (6/168 , ط 2 , مكتبة ابن تيمية) :
( القول في تأويل قوله : {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} قال أبو جعفر: وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه أن يكون له في ربوبيته ند أو مثل أو أن تجوز الألوهة لغيره , وتكذيب منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادعى مع الله معبودا أو أقر بربوبية غيره ) .
۞ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة: ٢١
قال الطبري في تفسيره (1/364):
( فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه:"لعلكم تتقون"؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه، حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟
قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ، وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ) .
وقال عند تفسير الآية "133" من سورة البقرة (3/99 ) :
( "إلهاً واحدا" أي: نخلص له العبادة ونوحد له الربوبية ، فلا نشرك به شيئا ولا نتخذ دونه ربا )
وقال عن تفسير الآية "163" من سورة البقرة :
(وأما قوله:"لا إله إلا هو"، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيرُه ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه، وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه، والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام .) .
وقال عند تفسير الآية "65" من سورة "ص" :
( (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) يقول: وما من معبود تصلح له العبادة وتنبغي له الربوبية، إلا الله الذي يدين له كل شيء، ويعبدُه كلّ خلق، الواحد الذي لا ينبغي أن يكون له في ملكه شريك، ولا ينبغي أن تكون له صاحبة، القهار لكلّ ما دونه بقدرته، ربّ السموات والأرض)
وقال عند تفسير الآية "31" من سورة التوبة :
( وأما قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا)، فإنه يعني به : وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا، وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق، المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية ) .
وذهب إلى مثل ذلك الإمام ابن كثير في تفسيره عند تفسير الآية "30" من سورة الرعد :
({ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي: هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له بالربوبية والإلهية ) .
ولم يفرّق الإمام الطبري رحمه الله بين التوحيدين كما فعل الوهابية , بل كان يرى أن الإله يشملهما معاً وكذلك الرب , فقد قال عند تفسير الآية "148" من سورة الأعراف (13/118) :
(يقول الله جل ثناؤه: "اتخذوه"، أي: اتخذوا العجل إلهًا وكانوا باتخاذهم إياه ربًّا معبودًا ظالمين لأنفسهم، لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة ) .
وهذه الآية تتحدّث عن قصة بني إسرائيل والعجل الذي عبدوه , وقد أخبر القرآن الكريم عنها في أكثر من موضع , وأخبر عن إنكار سيدنا موسى وسيدنا هارون –عليهما السلام- على بني إسرائيل في ذلك .
فقد قال لهم سيدنا موسى كما أخبر القرآن الكريم : { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } طه: ٩٨ .
أي ليس إلهكم هذا العجل , كما اعتقدتم .
قال ابن الجوزي في زاد المسير (5/320) :
({إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : هو الذي يستحق العبادة , لا العجل ).
وقال لهم سيدنا هارون كما أخبر القرآن الكريم : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } طه: ٩٠ .
أي ليس ربكم هذا العجل , كما اعتقدتم .
قال ابن الجوزي في زاد المسير (5/316) :
({وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } , لا العجل ) .
فقد اجتمع "الرب" والإله" في نفس الموضع , وهذا يستلزم افتراقهما في المعنى على رأي الوهابية , فيكون عبّادُ العجل قد اتخذوه إلهاً ورباً ! فأشركوا في الألوهية والربوبية !!
وقال الطبري عند تفسير الآية الثانية من سورة آل عمران (6/150):
(..إذ كان كلّ معبود سواه فملكه ، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه ، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه يَوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم- بتنزيله ذلك إليه ، وإرساله به إليهم على لسانه -صلوات الله عليه وسلامه- مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء , التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا , أنه مقيم على ضلالة ، ومُنعدلٌ عن المحجة، وراكبٌ غير السبيل المستقيمة، بصرفه العبادة إلى غيره، ولا أحدَ له الألوهية غيره).
وقال عند تفسير الآية "62" من سورة آل عمران (6/476) :
( ويعني بقوله: "العزيز" العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه أو عبد ربًّا سواه , "الحكيم" في تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ ) .
وقال عند تفسير الآية "172" من سورة الأعراف :
(.. عن أبي بن كعب قال: جمعهم يومئذٍ جميعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرَضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم: أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا! اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، وأني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي، وسأنزل عليكم كتبي ! قالوا: شهدنا أنك ربُّنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك ) (1).
فأين هذا من نظرة الوهابية القائلة بأن المقصود من الرب في الآية هو الإله؟!
--------------------------------------------------------
1- روى هذا الأثر الحاكم في المستدرك 2/232 وصححه , ووافقه الذهبي في التلخيص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق